واقع كالجحيم

4K 146 12
                                    

كانت تسير عائدة إلى البيت كأنها في موكب جنائزي..بخطوات ثقيلة و بطيئة..تتقدم و لكنها لا ترغب في الوصول..تجذب كم القميص حتى تغطي به الكدمة على معصمها..و تنظر حولها بشكل سريع في كل الإتجاهات..ربما التستر على كدمات قلبها  أسهل من التستر على تلك التي تغطي بدنها و تثير الشبهات..و ربما لن يكون السؤال عن حالها نابعا عن الإهتمام و لكنه و دون شك نابع عن الفضول..و الأسئلة النابعة عن الفضول ملحة و مزعجة..تربكها و توترها و تجعلها دون أن تشعر تقر بأنها تعيش في الجحيم..و ذلك ما لاتريده..النظر في أعين وحوش يشمتون بضحية!

دخلت الحي الشعبي الضيق الذي تقطن فيه..بقلب منقبض و حاولت على قدر إستطاعتها أن لا ترفع عينيها لتقع بعيون الجيران..كان البيت الذي تعيش فيه هو البيت الوحيد الذي يتمتع بالظروف المناسبة للعيش المريح في الحي..لكنها لم تكن تشعر فيه بأدنى قدر من الراحة.

كلما سلكت طريق العودة إلى البيت..شعرت أن النظرات المشمئزة التي يرمقها بها الجيران طعنات سكاكين..ضحكاتهم العالية..صراخهم و حديثهم..و حتى صوت خطواتهم..كل ذلك الضجيج كان يحشو رأسها حتى يكاد يفجره..لألف مرة ودت لو أنها تمر بالحي كفيفة و صماء..تمنت مرارا لو أنها متبلدة المشاعر و لكن ذلك كان كثيرا على فتاة في السادسة عشر..أسرعت قليلا في مشيتها حتى تبلغ مقصدها في أقرب وقت ممكن..فسمعت صوتا يناديها.

"ناهد..يا ناهد"

همست في داخلها "كم أكره هذا الإسم" ثم توقفت عن السير و إلتفتت..رفعت رأسها لتنظر في وجه المنادي..إنه أحمد  الفكهاني..رجل خمسيني نحيف..رأسه شحيح الشعر و عادة ما يضع السيجارة بين شفتيه..رمقها بنظرة شهوانية و إبتسامة مستفزة و قال:"كيف كانت المدرسة اليوم؟"

"كما كل يوم يا عم أحمد" قالت ذلك و ثم واصلت المسير ليلحق بها و يجذبها من معصمها حيث الكدمة.

"لا تجذبني هكذا أنت تؤلمني"

"أنت تبالغين في ردة فعلك..ألست مدللة كثيرا؟"

"ماذا تريد!"

"خذي..دفعت والدتك ثمن هذا الكيس من الموز و قالت أن أعطيك إياه حينما آراك"

"كان يجدر بها أخذه بمفردها"

"لا..لا لقد كانت تحمل الكثير من الأكياس بالفعل..أنت تعرفين السيدة ميادة..عملها يدر عليها بالكثير من المال" قال ذلك و إبتسم بخبث.

أخذت ناهد الكيس و عادت إلى البيت ركظا..وضعت المفتاح في القفل بهدوء..و ثم دخلت و هي تلهث..و على غير العادة..شمت رائحة طبخ في البيت..من النادر أن تبقى والدتها في البيت..ناهيك عن كونها تحضر طعاما..صعدت الدرج و دخلت الردهة..فتراءت لها والدتها في غرفة الطعام تحضر الطاولة.

لم تكن والدتها كثيرة الحديث..فعلمت أنها بقيت في البيت لتطبخ لها الطعام الذي تحبه كإعتذار..وضعت كيس الموز في المطبخ و إغتسلت ثم جلست إلى الطاولة..بدأت مباشرة في تناول الطعام دون أن تقول أي كلمة.

سم الإبرةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن