19

25 9 0
                                    


*العام 476.

بعد أن أنهى الزبير أولى خطوتين في خطته، حان موعد الخطوة الثالثة. لقد احتاج رجلا قويا لتنفيذ خطته، وهذا الرجل هو المغيرة.

توجه الزبير إلى الفيحاء، ووصل دار المغيرة.

"أهلا بك" قال المغيرة.

كان المغيرة متوسط الطول، عريض المنكبين، ضخم العضلات، قوي الجسد، وذا تعابير وجه قاسية وحادة، وعينين قاسيتين، وعلا الشعر الأسود الكثيف رأسه، بينما غطى شعر أسود خفيف جانبي رأسه، وكان له شارب أسود خفيف، وغطى شعر أسود خفيف ذقنه.

ابتسم الزبير ورد: مرحبا، يا عمدة الفيحاء.

ثم أضاف: اسمي الزبير، وأنا شيخ قبائل الكثبة، وقد أتيت أحادثك في موضوع.

ابتسم المغيرة، فقد سمع بما فعله الزبير بجيش الهيجاء وكيف أدبهم، ثم قال: تفضل بالدخول.

فدخل الزبير.

ثم قال المغيرة: ارتح الآن قليلا، فلا بد وأنك قد سافرت مسافة طويلة، وفي الليل سنتحادث.

ثم أشار المغيرة إلى أحد خدمه، فقدم إليه، فقال له: خذ ضيفنا إلى غرفة نوم الضيوف، وأكرم ضيافته، ونفذ أي أمر يطلبه.

فأومأ الخادم برأسه موافقا، وفعل ما طلبه سيده.

وفي الليل بعد أن ارتاح الزبير، أرسل المغيرة خادما يطلبه.

فذهب الزبير مع الخادم الذي قاده إلى غرفة واسعة، اعتاد المغيرة وزوجه أن يستقبلوا فيها الناس، وأن يعقدوا فيها الاجتماعات.

حالما دخل الزبير الغرفة، استغرب من جلوس امرأة بجوار المغيرة؛ فهو لم يكن يعلم أن حورية اعتادت أن تكون ندا لزوجها، كأنها عمدة آخر للفيحاء، بل في حقيقة الأمر كانت العمدة الحقيقي لها.

لكن ما أذهل الزبير أكثر وأكثر، هو شدة جمال جسدها وشكلها، وإثارة انحناءاتها وتعابير وجهها. لم يكن الزبير وحده من انتبه لكل هذا عندما رآها، فكل رجل يرى حورية يصيبه الشعور والأفكار نفسها.

وبجوارها وقف رجل بدا خطيرا، هو عكرمة، الذي لزم دوما حورية ولم يفارقها.

"تفضل بالجلوس" قالت حورية.

فجلس الزبير بكرسي بجوار المغيرة.

كانت الغرفة متوسطة من حيث جمال البناء، واحتوت كراسي وطاولات مصنوعة من الخشب المزخرف. وانتشرت السيوف والخناجر المعلقة على جدران الغرفة هنا وهناك.

ثم قالت حورية: نأمل أن استضافتنا لاقت بمقامك.

ابتسم الزبير، ثم قال: بالتأكيد، سيدتي.

بعدها ضيف أحد الخادمين الواقفين الزبير كأسا من العصير، شرع يشرب منه.

قال المغيرة: أهلا بك.

ثم أضاف: أنا متشوق لسماع ما تريد أن تحادثنا به.

فجعل الزبير يشرح له ولحورية خطته خطوة خطوة، من أولها إلى آخرها.

فانبهر المغيرة وحورية مما سمعاه.

ثم قال الزبير: لقد حصلت على موافقة الملك قصي وأمين، والآن أطمح للحصول على موافقتك.

انبهر المغيرة وزوجه حالما سمعا كلمات الزبير، فكأي إنسان يسكن البقاء ساورتهم الشكوك أن الملك الهارب مجرد أسطورة، وأنه غالبا قد مات أو على الأقل لن يرجع ملكا ولو كان حيا.

فقال المغيرة باستغراب: هل فعلا قابلت الملك الهارب؟

ابتسم الزبير ورد: بالطبع، وقد أخبرته عنك.

ففرح المغيرة بهذا، وبدت عليه ابتسامة واسعة.

طفق الزبير يقلب نظرات جدية بين المغيرة وحورية، ثم قال: أيها المغيرة، إذا وفقت، فالملك سيعفيك وكل الفيحاء من الضرائب إعفاء كاملا، وسيلقبك أميرا على الفيحاء. وبالطبع لا تنس أنك ستساهم في تحرير البقاء، التي أعلم مدى عشقك لها.

ذهل المغيرة وحورية مما سمعاه، فلم يتوقعا مثل هذا العرض السخي.

الزبير احتاج المغيرة لتنفيذ خطته؛ وذلك لأسباب كثيرة وهامة، أهمها قوة المغيرة وامتلاكه لعدد كبير من المقاتلين الأشداء الأقوياء. وقد استعد لفعل أي شيء لإقناعه بالموافقة.

صحيح أن المغيرة أحب البقاء كثيرا، لكن الزبير – بذكائه الكبير – علم أنه لا بد من تقديم مزايا للمغيرة حتى يقنعه. فبعد أن خفض ملك ياقوتة الضرائب على الفيحاء إلى الثلث، وبعد أن منحها حكما ذاتيا، توجب تقديم شيء أكبر للمغيرة حتى يقتنع.

وكذلك – بذكائه- توقع الزبير شخصية المغيرة، وأنه مختلف عن رجل مثل أمين. فأمين سيفعل أي شيء من أجل البقاء دون مردود على خلاف المغيرة.

ساد صمت في الغرفة، ثم قالت حورية: دعني أتحادث مع المغيرة، وسنخبرك بقرارنا.

أعجب الزبير بشخصية حورية القوية، ففي ذلك الزمان وذلك المكان، لم يكن من العادي أن تشارك المرأة بالحكم، لا بل أن تكون هي الحاكم الحقيقي.

أكمل الزبير ما تبقى من العصير، ثم استأذن للمغادرة، فأذن له المغيرة.

وبعد مدة، عاد المغيرة وطلبه إلى الغرفة نفسها.

جلس الزبير على الكرسي نفسه.

ثم قالت حورية: نحن موافقون.

نظر إليها المغيرة بالانزعاج نفسه، الذي أحس به كلما تدخلت في إدارة الفيحاء، لكنه كالعادة لم يستعد للتخلي عنها.

ثم قال المغيرة مؤكدا: نعم، نحن موافقون.

ابتسم الزبير ابتسامة عريضة؛ فخطته باتت على شفا نجاح كامل.

***


الزبير يجب أن يقتلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن