الخاتمة

49 10 1
                                    


انتهى كل شيء، وانتصر الزبير أخيرا، كما اعتاد على أن ينتصر دوما. وأوفى بعهده لمملكتي ياقوتة والهيجاء، ومنحمها أراضي البقاء وأملاكها مناصفة بينهما على طبق من ذهب، وباتت البقاء لقمة سائغة ابتلعتاها بسهولة، في حين أوفت المملكتان بعهدهما له، ومنحتاه منطقة بحران، وغدا أميرا له، وصار لها حكم ذاتي. ومسبقا طلب منه سهيل أن يعود إلى الكثبة ويغدو شيخ كل قبائلها بدلا منه؛ غير أن الزبير رفض ذلك؛ لأنه وعد سهيلا ذات يوم أن يكون الأخير شيخ الكثبة.

في نهاية المطاف، قرر الزبير معاقبة سمية، باحتجازها في قصر الهيثم – الذي عاش فيه سليم وعائلته قبل الحرب الأخيرة – وفرض عليها إقامة جبرية فيه مدى الحياة، وأمر بتوفير الأكل والشراب الفاخرين لها وكذلك المال والخدم.

توجه الزبير لرؤية سمية للمرة الأخيرة.

دخل عليها في حديقة القصر، وهي جالسة مكسورة القلب والكرامة، وحولها الحرس، وحوله النسور السوداء، فطلب منهم جميعا الرحيل، وظل وحده مع سمية.

جلس الزبير وعلى خده الأيسر ندب، على خده الأيمن ندب آخر، وهو يضع على خصره الخنجر الذهبي الذي أهدته إياه سمية عندما كانا في الصف نفسه، وقرر –منذ لحظة استلامه له - أن يظل يحمله أبد العمر. ووضع كفه اليمنى على رأس الضيغم، الذي أسنده إلى الأرض.

لم تنظر سمية إليه حتى؛ فلم يعد يهمها شيء في هذه الحياة، بعد أن انتصر الظلم على الحق. ولم تتوقع أن يأتي الزبير – بالتحديد – لزيارتها.

وبينما علا الحزن وجه الزبير، وبينما أشاحت سمية بنظرها عنه، قال بهدوء: لقد دمرتِ كل شيء، يا سمية... كل شيء... سلبتِ ملكي، وسلبتِ مالي، وأضعتِ مالك الغزير... وضاعت أرواح كثيرة كان يمكن أن تبقى.

تنهد الزبير، وأحس بشجن عظيم، وقال: أسامح في كل شيء، لكن هل تعرفين ما أهم شيء سلبتِه مني ولا يمكن أن أسامحك فيه؟... هو أنتِ، فقد سلبتِكِ مني... المقربون مني طالبوني بقتلك. ولما رفضتُ، طالبوني بسجنك في أي سجن حقير من سجون المملكة. هل يمكن أن أقتلك؟! إذا فعلت ذلك، فسأقتل جزءا من نفسي... سأقتل قلبي. وفي المقابل، أردتُ من كل قلبي أن ألا أعاقبك على الإطلاق، بل حتى لاح في بالي فكرة أن أطلب يدك للزواج. هل تصدقين هذا، بعد كل ما فعلتِه بي؟! وفي النهاية قررت عقابا وسطا بين الطرفين، فلا يمكن أن أسامحك مسامحة كاملة... كان لا بد من العقاب.

ساد صمت في الحديقة، خلا صوت العصافير التي زقزت هنا وهناك، وبعد مدة وضع الزبير كفيه أحدهما فوق الآخر، فوق رأس الضيغم الذي أسنده إلى الأرض، وقال: لا تعلمين كم عانيت بسببك... لقد أحببتك حبا جنونيا سيستمر أبد الدهر... كل يوم – منذ أهديتني الخنجر الذهبي – أمسك به ليلا، وأقلبه وأنظر إليه بتمعن تحت ضوء القمر... أنظر إلى القمر والنجوم وأحاول تذكر وجهك الحسن وشخصيتك الجميلة، والأهم حنانك الذي شاهدته مع زوجك الراحل... نعم، أنا رجل، منذ كنت طفلا وأنا أعاني من انعدام الحنان... أصلا أهل البادية لا يعرفون ما الحنان، حتى أمي. وزاد الطين بلة حين قتل أبي ثم جدي... كنت دوما أبحث عن الحنان الذي افتقده الزبير الطفل... الزبير الذي يعتقد الجميع بقسوته، لكن بداخله طفل هش ضعيف ورقي زجاجي. كنتِ – أنتِ – الحنان الذي سيعوضني عن كل شيء، لكنكِ سلبتِكِ مني، وكسرتِ قلبي، وفضلتِ أمينا علي.

الزبير يجب أن يقتلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن