35

20 7 0
                                    


بعد ما يقرب الأربعة شهور، كان أمين في رحلة تجارية في الهيجاء على رأس قافلة تجارية كبيرة. ولما اقتربوا من شرقي الهيجاء بالقرب من البقاء، خيموا في مكان معين، وحل الليل. وبينما هم نيام، هاجمهم عدد كبير جدا يفوق عدد الرجال في القافلة بكثير. لبس المهاجمون ثيابا كلها باللون الأبيض وقد تلثموا بألثمة بيضاء وعلت رؤوسهم العمامات البيضاء. واتسموا بالشدة والقوة، وطفقوا يقتّلون رجال القافلة. ولما سمع رجال القافلة بالجلبة حولهم، شرعوا يستيقظون ويهاجمون من غدر بهم، ومنهم أمين الذي استيقظ وسرعان ما استل سيفه وأنشأ يقاتل أعداءه. واستمرت المعركة التي لم تطل كثيرا؛ فعدد المقاتلين كبير جدا مقابل عدد من في القافلة، كما أن عنصر المفاجأة اصطف في جانب الطرف الأول، ناهيك أن المهاجمين مقاتلون محترفون بينما أعضاء القافلة إما تجار محترفون أو عمال عندهم، وهؤلاء جميعا ليسوا بارعين في القتال براعةَ من هاجمهم. ومضت المعركة، وقاتل أمين التاجر الذكي ببسالة وشجاعة نادرة، وقتل من المهاجمين أربعة، وبينما هو على رجليه، هاجمه أحد المهاجمين وهو على فرسه، فضرب صدر أمين ضربة شقته. في لحظاته الأخيرة أيقن أمين أن الزبير خدعه كما خدع الملك الهارب، وأن ما قاله له كان مجرد مخدر خدره به ليظن أنه في أمان، ثم انقض عليه غدرا في لحظة سهو.

***

انتشر نبأ مقتل أمين، حتى وصل البقاء. ولما علمت سمية بذلك شكلت تلك أسوأ لحظة في حياتها، وحزنت حزنا لا مثيل له. أما في الهيجاء، فأعلنت السلطات القبض على من قتل أمينا ومن معه، وأعلنوا أنهم قطاع طرق لطالما بحثت عنهم السلطات.

وبعد ما يقرب الشهر -وبأمر من ملك الهيجاء الملك أنيس - تم إعدام اثنين وستين رجلا؛ لأنهم اعتدوا على أمين وقافلته وأثروا سلبا على علاقات مملكة البقاء والهيجاء التجارية. فأعدموا جميعا. وبلغ كل هذا مملكة البقاء، فعلمت به سمية، لكن ذلك أبدا لم يخفف من النار التي اتقدت بداخلها، والتي لا يعلم أحد هل ستنطفئ يوما ما!

***

ولما علم الزبير بكل ما حدث، ظهر عليه الحزن العظيم أمام كل من حوله، وذكر أمينا بالخير، وأنه لولاه ما تمت الثورة المباركة. وأمر بإصدار مرسوم ملكي للتعزية بمقتل أمين، ذكر فيه أن أمينا هو ثاني أهم رجل بعد الزبير في الثورة المباركة التي قادت لتحرير البقاء.

ومضت الأيام، ومر ما يزيد على الثلاثة شهور على مقتل أمين.

طلب الزبير من داهية الكثبة أن يتقصى حال سمية، ويعلمه به. وبسرعة هائلة جلب الداهية الأنباء. فاجتمع بالزبير في شرفة الأسد، البقعة في القصر المطلة على الهواء الطلق، والتي توج فيها الزبير ذات يوما ملكا على البقاء.

"للأسف، أيها الزبير، أخبار سمية لا تسر" قال الداهية.

استاء الزبير، رغم أنه توقع أن هذا هو حال سمية.

وأكمل الداهية: المرأة في قمة الانهيار والحزن. لا تتوقف عن البكاء، والدموع تملأ جسدها ولباسها دوما. وتمتنع عن الطعام والشراب والنوم وحتى عن لقاء أهلها أو أهل أمين... وهي تظل مستلقية على السرير في غرفتها وحدها، وهي تمسك بلباس أمين، حتى تشتم رائحته لتتذكر أيامها معه.

تنهد الداهية، ثم أكمل: حتى إنه بات يقال إنها أحزن إنسان عرفته البقاء في تاريخها كله.

صمت الداهية وبادله الزبير بصمت مطبق. واجتاح الأخير حزن عارم وألم عظيم جدا، فأكثر ما يمكن أن يؤلم أي امرئ هو ألم أحب الناس عليه، وقد كانت سمية أحب البشر على قلبه دون أي منافس. وازداد حزنه؛ لأنه أيقن جيدا أنه من الصعب جدا أن تنسى سمية أمينا، ما من شأنه – لو حدث – إفساح المجال للزبير ليكون معها!

وقد أمر الزبير بإرسال مئة ألف درهم ذهبي إلى سمية، تعويضا لها عن فقدها لأمين، وتكريما لذكراه بعد كل ما أداه في الثورة، لكنها رفضت المبلغ رفضا قاطعا. وقد واسى الزبير نفسه بأنها غالبا رفضت المبلغ؛ احتراما لذكرى أمين وأنه لا يعوض، وليس كرها للزبير.

***


الزبير يجب أن يقتلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن