36

19 6 0
                                    


بعد ما يقرب السبعة أشهر على مقتل أمين توجه الزبير على رأس وفد لزيارة سمية في قصرها هي وأمين. بقي النسور السوداء في الخارج بينما دخل الزبير وحده إحدى قاعات القصر انتظارا لمقدم سمية. كانت القاعة أرضيتها وجدرانها وسقفها من الرخام الثمين، وامتلأت بالتحف والجرار المصنوعة من الخزف والأثاث المصنوع من الخشب الفاخر، وكذلك من الذهب الخالص. وهذه التحف والجرار والأثاث الذهبي، لم يكن لهم مثيل في البقاء كلها حتى في قصر الكثبة.

وبعد مدة أتت سمية. وقف الزبير فور رؤيتها، وذهل من شدة غضبها، لكأنها بركان خامد على وشك الانفجار. كانت تلك أول مرة يراها غاضبة هكذا. وبان عليها الحزن الشديد، وبدت علامات البكاء الشديد جلية عليها. بدت في حالة يرثى لها، شعرها أشعث غير ممشط، وعيناها تحيط بهما هالتان سوداوان من شدة البكاء، وبدا كما لو أنها لم تغسل وجهها أو تستحم منذ شهور. أما لباسها فبدا قذرا ومجعدا غير مكوي، كما لو أنها لم تغيره منذ شهور كثيرة. كان منظرها سيئا جدا، على عكس ما اعتاده الناس عليها.

وقف الاثنان أحدهما مقابل الآخر، ولم تنبس سمية ببنت شفة.

ومر زمن طويل من الصمت، كسره الزبير عندما قال: كيف حالك، يا سمية؟

لم ترد سمية التي بادلته نظرات الغضب الشديد، حتى بدا كما لو أن عينيها ستخرجان من محجريهما.

ثم بدأ يقول خطابه الذي حضره مسبقا: رحم الله الرجل الشجاع المغوار أمينا، الذي لولاه ولولا مجهوده ما حررت البقاء أبدا... للأسف لقد خسرت البقاء واحدا من أعظم رجالها... عظم الله أجركم، يا سمية...

وتظاهر هنا بالحزن الشديد، رغبة منه في أن تصدق سمية ذلك.

ثم أكمل: ولكن كفى حزنا، يا سمية! ويجب أن تستمر الحياة... أبي وجدي توفيا، وحزنت عليهما، لكنني تجاوزت ذلك... وفي النهاية غدوت ملكا...

تنهد ثم أكمل: وأنتِ تجاوزي هذا، وتزوجيني وأصبحي ملكة؛ لتنسي كل هذا الحزن وتعيشي أسعدَ الناس... فما ردك؟

حدقت سمية فيه بعينين جاحظتين ملؤهما الغضب، وساد القاعة صمت طويل جدا. ثم طفقت تقترب منه - بشكلها المخيف غير المرتب ذاك - بخطوات بطيئة. الزبير الذي لم يخف طيلة عمره، كانت هذه المرة الوحيدة التي اجتاح فيها الخوف قلبه، حدث هذا للرجل الذي لم يخف أعتى المقاتلين ولا حتى الملكين اللذين قتلهما!

وبينما اقتربت بخطئ بطيئة جدا، تسارعت دقات قلبه وأنفاسه، ولما أصبحت قريبة جدا منه صفعته صفعة قويا جدا، لكأنها صفعة بقوة ألف رجل، صفعة لم يشهد الزبير لها مثيلا قط. وكأن هذا أمر بسيط ولا يكفي، فأتبعته بأن بصقت في وجهه، وهي تقول بغضب: هذا هو ردي، أيها الحقير. لقد جعلت صديقك ملك الهيجاء يقتله، وألفتما تلك اللعبة المضحكة عن قطاع الطرق، وظننت أن كل هذا سينطلي علي! لقد قتلته، أيها الوغد. هو عرف أنك ستفعل ذلك، وأنا عرفت أنك ستفعل ذلك، والكل عرف.

ومسبقا، سمعت سمية بالشائعات عن الصداقة السرية بين الزبير وملك الهيجاء؛ ما دفعها إلى وضع استنتاج عن أنهما اتفقا على تصفية أمين.

صمتت ثم أضافت: ولكن اعلم جيدا أنك ستدفع الثمن غاليا... أعدك أنه حتى لو أفنيت عمري حتى آخر لحظة في سبيل ذلك، فإنه حادث لا محالة.

ثم ابتعدت عنه للخلف، وصرخت بأعلى صوتها: انصرف، أيها الحقير.

في حقيقة الأمر، كانت تلك اللحظات الأكثر إهانة التي تعرض لها الزبير في حياته، والأكثر إذلالا دون منافس.

نظر إليها بعينين جاحظتين مفتوحتين على أقصى اتساعهما، وتسارعت أنفاسه ودقات قلبه، حتى كاد يتوقف عن النبض. أي إنسان في الكون - أكان رجلا أم امرأة، أكان عدوا أم صديقا – لو فعل ربع ما فعلته سمية لغادر الحياة. الاستثناء الوحيد هو من فعل كل هذا، ألا وهي سمية.

وبينما وقفت سمية هناك مكسورة القلب، غادر الزبير هو الآخر مكسور القلب، ووجد بالخارج النسور السوداء، وبقية وفده، وقد استمعوا جميعا إلى ما حدث، مما عمق جراحه أكثر وأكثر.

***

عاد الزبير إلى حجرته الخاصة في قصر الكثبة، وجلس هنالك على كرسي في الغرفة، وهو ينظر من النافذة حيث تنساب أشعة الشمس من النافذة والستارة التي تغطيها. جلس هنالك مطأطئ الرأس، ذليلا للمرة الأولى في حياته. وما انفك يمسك بالخنجر الذهبي الذي أهدته إياه سمية، ظل يمسك به وهو يتذكر اليوم الذي أهدته إياه فيه. لقد كان هذا الزلزال أسوأ ما حدث في حياته.

وطال حاله هذا أياما وأسابيعَ وشهوراً!

***


الزبير يجب أن يقتلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن