ما ان فتح الباب حتى اعترضته رائحة لذيذة، اعتاد شمها ايام عيشهما هنا، كان البيت مرتبا، النواقذ مفتوحة، ويطل نور النهار من كل مكان ليضيف للبيت سكينة وراحة افتقدها ..
وقف امام باب المطبخ، كانت تصنع بعض الحلويات وتدندن كما اعتادت ..
هل تعدى مرحلة تخيل صورتها أمامه ، ليشعر بها ويشم رائحتها ايضا ؟ ربما عليه ان يستشير طبيبا فهذه ليس علامة جيدة ..
انهت عملها ووضعت الكعك في الفرن، التفتت اليه فابتسمت ثم توجهت لتخرج من المطبخ ..
اصطدمت به، تلاشت ابتسامتها لتسيطر عليها فكرة واحدة، انه ليس في خيالها، هو موجود، امامها، بل هي ملتصقة به، لم ترفع رأسها، اغمضت عينيها واستنشقت رائحة عطره، ارادت ان تلمسه بجوارحها، لا جرأة لها لتلمسه باصابعها ..
لم يتحرك ولم يبتعد، لا خوف من ورم في المخ، فهي حقيقية، ابتسم لا اراديا، لينعم بقربها، ليشم رائحة شعرها المتغيرة وليمسح عليه برفق ..ابتعدت عنه وكأن لمسته صعقتها، او أعادت لها منطقها ..
هربت الى قاعة الجلوس وسألها بصوت متحشرج
" هل تعيشين هنا ؟ "
دون ان تلتفت اليه قالت
" آتي أحيانا ! عندما لا اتحمل الجلبة ! او عندما أريد الانفراد قليلا بنفسي ! "
ابتسم والتفتت اليه تنظر اليه، أتغير في السنوات الماضية، خسر وزنا، شكل لحيته وشعره متغيّران، ويبدو متعبا ..
لو ترى كم تنظر اليه بطريقة جميلة، حب، اشتياق!
حك لحيته بخجل، ارتبكت وقالت لتغير الموضوع
" سأعيد اليك المفتاح ! لم اعتقد انك قد تحتاج البيت والا ما كنت .. "
" لا ! - قاطعها - انه بيتك ايضا ! اشتقت - اراد ان يكمل اليك لكنه قال - للبيت ! "
" سأذهب اذن واتركك تزيل شوقك ! لا تنسى الخبزة في الفرن ! "
ذهبت لتلبس معطفها وترحل بسرعة، لكن ما ان دخلت غرفتهما السابقة حتى انهارت على السرير، تتنفس بقوة وتنظر الى شكلها في المرآة، لن تتزين، كانت في ابسط حالتها، لعنت نفسها لانها لم تضع مكياجا هذا الصباح، ثم لعنت نفسها ثانية لانها تريد ان تكون جميلة امامه ..لم يكن هو بحال افضل منها، منذ نصف ساعة عرف السبب الحقيقي لتركها له، والآن هي امامه، فاتنة كما عهدها، بدون مجهود، جمال يريح العين، كانت قد جمعت شعرها وراء ظهرها على شكل ظفيرة، لم تضع اية مساحيق تجميل، كانها تستحق تجميلا، خلقها الله بعناية لتكون اية في الجمال، انها هنا على بعد ست امتار منه، كم هربت الى تلك الغرفة في اشهر زواجهما القليلة واختبأت فيها ..
خرجت اخيرا من الغرفة وكانت ستخرج من البيت عندما قال
" لقد علمت مؤخرا بكل ما حصل لكم ! "
ابتلعت ريقها ووضعت يدها على مقبض الباب وقالت
" مضى وانتهى ! انت لا دخل لك ! وداعا ! "
تقدم بسرعة واقفل الباب الذي فتحته وقال
" ماذا تقصدين لا دخل لي ! عشتم ما عشتموه بسبب ابي ! بسببي ! "
حاولت جاهدة ان لا تترك دمعتها تنزل لكنها لم تستطع كبحها وقالت غاضبة
" ماذا سيتغير ؟ بسببك او بسبب غيرك ! هل سننسى ؟ هل ستعيد الزمن وتمنعه حصوله ؟ ام انك ستعيد صحة والدي ؟ هل ستعيد ... "
لم تكمل، لا تستطيع نطقها ..
ابتعد عنها وعاد لقاعة الجلوس فلحقته وقالت
" لا تتحمل سماع ذلك اليس كذلك ؟ اذن لا تأتي وتعتذر ياغيز ! لا تأتي بعد ثلاث سنوات وتعتقد انك اذا اعتذرت فستنتهي معاناتنا وستلتئم جروحنا ! "
التفت اليها وصاح
" لم أعلم هازان بكل ما عشتموه ! انت لم تخبريني ! "
نظرت اليه مطولا وقالت
" انت لم تسأل ! "
نظر اليها بحدة وبغضب الثلاث سنوات وقال
" انتِ تركتني ! ماذا توقعت ؟ ان آتي خلفك مجددا ؟ "
تلاشى غضبه فجأة وهو يرى الاجابة في عينيها ثم قال وكأنه يكتشف الحقيقة
" انتظرت ان آتي خلفك ! انتِ انتظرتني ! "
لم تجب، لم تنكر، لماذا تنكر وهي التي تمنت ودعت كل يوم أن يأتي ويطرق بابها، مسحت دموعها بسرعة وقالت
" كما قلت ! انتهى ومضى ! "
نظر اليها وقال
" انتهى ومضى اذن ! سهل قوله اليس كذلك هازان ! ضعي اللوم علي لكي لا تشعري بأي تأنيب ضمير ! أنتِ هجرتني ! انت رحلت وتركتني ! وانا بقيت بقلبي المحطم ! انا خسرت زوجتي وابني في نفس اليوم ! لا شيء ينتهي هازان ! لا الالم ! ولا الذكريات ! "
تنفست بقوة واقتربت منه وهي تضغط على صدره بسببابتها
" بينما كنت انت تتعامل مع الم هجران زوجتك ! انا كنت اركض بين السجن والمستشفى ! انا لم يكن لدي حتى رفاهية البكاء عليك ! "
صمتت قليلا ولاحظ انها ترتعش وهي تضيف بصوت خافت
" ولا على ابني ! "
ابتعدت وجلست على الاريكة تنظر من خلال النافذة ، بينما جلس هو على الكرسي، ربما مرت ربع او نصف ساعة وهما على هذه الحالة !
رائحة الكعك المحترق جعلتهما ينهضان بسرعة ليتجنبا حريقا في البيت !
ضحكا مطولا على حماقتها وبينما هي تحاول التخلص من الكعك
نظر اليها متأملا ثم قال
" اشتقت اليك كثيرا هازان ! "
توقفت عما تفعله، اغمضت عينيها لتسيطر على مشاعرها، تعرف جيدا نهاية ما سيحدث ! لكنه لم يعد زوجها، اصبح زوج امرأة اخرى، تلك الفكرة فقط تجعلها في اقصى درجات غيرتها، وغضبها !
شتمته بصوت خافت ولكنه سمعها، لم يصدق اذنيه ولكنها قالت
" اذهب ياغيز ! الا تقول انك غاضب لانني هجرتك ! انظر الي بتشفّي ! ثلاث سنوات مرت ولا اتخطى ! لا ازال اتي لبيت جمعنا، اتخيل اننا لا نزال معا ! اتخيل ابننا اتخيل كل لحظة نعيشها هنا ! لقد جننت أجل ! خذ انتقامك ! وعد لبيتك السعيد ! "
" عن اي بيت تتحدثين ! هل انا استطعت نسيانك ؟ كل ليلة ! كل ليلة تزورين احلامي ! كل ليلة احلم أنني احضنك، اشمك ، اقبلك ! "
السافل، فكرت وهي تدفعه نحو باب البيت وتصيح
" لا تخجل ! لا حياء لك ! تحلم بي ! انا ! بوجود زوجتك ! وقح ! "
دفعته خارج البيت واغلقت الباب لتنهار باكية، لم يذهب، تعرف انه وراء الباب، ارادتها ومنطقها يحاربان قلبها الذي يريد شيئا واحدا!
فتحت الباب، وهو ايضا كان يبكي بصمت، تبادلا النظرات مطولا ثم فجأة ارتما في حضن بعضهما ، كان حضن قويا مؤلما كالألم الذي عاشاه ..
ابتعد عنها وقال
" انا لم اتزوج بعدك هازان ! "
نظرت اليه وهي تتلقى اسعد خبر قد تحصل عليه، لم تظهر فرحتها وقالت ببلاهة
" لم تتزوج ! لم تتزوج ! بشرى .. والطفل !"
رفع حاجبيه وابتسم وهو يقول
" بشرى تزوجت بإلهان، تعرفنا عليه بعد رحيلك ، قصة طويلة .. "
تنفست هازان واكتشفت انها لا تزال بين ذراعيه، ابتعدت عنه وقالت انها عليها ان ترحل
امسكها ياغيز وقال بهدوء
" هل نتحدث ؟ عن كل ما عشناه ؟ بدون عتاب ! بلا اتهمات ! "
نظرت اليه موافقة، جلسا وتحدثا عن الثلاث سنوات الماضية، اخبرته عن كل الذي عاشته وانهت كلامها قائلة
" لم يكن كل ما عشناه سيئا ! فلولا هذه الصعوبات لما اكتشفنا طيبة الذين وقفوا معنا، خالاتي واولادهم، الجيران ! عمي ارسل لنا لمدة سنتين مبلغا شهريا، لولاه لما استطعنا دفع علاج ابي، وطبعا علاقة جوهكان وياسمين التي تغيرت كليا ! اكتشف جوهكان معدن زوجته، اكتشف انه واقع في حبها، وتخلصنا من السيئين كما تقول امي ! "
نظر اليها بسخرية فقالت
" تقصد عزيز ! "
هز رأسه ضاحكا وقال
" لا ألومك لكن لو اخبرتني هازان ! "
وضعت يدها على يده بتلقائية وقالت
" استطعت ان اتكل على نفسي ! برأيي كان الوقت المناسب لاكتشف قوتي "
امسك بيدها وقال
" لطالما كنت رائعة وقوية في نظري .. "
سحبت يدها بسرعة وهي تقول انها تأخرت
تغيرت ملامح ياغيز وقال
" طبعا لديكم خطبة الليلة ! "
هزت رأسها ايجابا وخرجت مسرعة ! مالعذر الذي ستقوله الآن لامها ! لن تستطيع الكذب والقول انها كانت بالمحل !
أنت تقرأ
فتاة بطعم العُليق
Romanceهازان الفتاة المغرورة، تتغير حياتها بسبب صدفة غريبة جداً، حيث تلتقي في فندق فخم برجلٍ لا تطيقه، لكن الأقدار تجمعهما دائماً.