(( ميثاق الحرب والغفران ))
_ الفصل الثاني _انفتح الباب بقوة وظهرت من خلفه آسيا وهي تقف بكل هيبة وجبروت هاتفة أمام حشد الرجال هذا من العائلتين :
_ الصلح ده مش هيتم
أظلمت العيون والتهبت النظرات من رجال عائلتها أما الدهشة فكانت من نصيب عائلة ابراهيم الذين كانوا يحدقون بآسيا في ذهول باستثناء عمران الذي كان يتأمل هيأتها القوية وعلى ثغره شبه ابتسامة مستهزئة منها ! .
تابعت آسيا بغضب غير مكترثة لنظراتهم لها :
_ عاوزين تقتلوا القتيل وبعدين تيچوا تمشوا في چنازته
تلونت عين حمزة وجلال بالأحمر القاتم وكأن بداخلهم بركان انفجر للتو .. انتصب حمزة في جلسته وضرب بعصاه الأرض في صوت عنيف دوى في آذان الجميع ونظراته المرعبة ثابتة على حفيدته .. أما جلال فقد تأهب واقفًا كالثور الهائج واندفع نحو شقيقته ثم قبض على ذراعها بعنف ليجذبها معه خارج المجلس بأكمله ، يجرها خلفه بعصبية بينما هي تحاول إفلات ذراعها من قبضته العنيفة صائحة به :
_سيب يدي ياچلال
لم تسمع رد منه وفقط كان مستمر في جرها خلفه وهو يصعد الدرج قاصدًا غرفتها بالأعلى ومع الآسف لم تسكت بعد بل تابعت بحرقة :
_ كيف وافقت على الصلح ده .. أنت مش فارق معاك حق أبوك ولا إيه
حصلت أخيرًا على صرخة جهورية منه نفضتها :
_ اقفلي خشمك مسمعش حسك واصل
لم يمهلها الفرصة لتجيب عليه حيث وصل بها لباب غرفتها وفتحه ثم دفعها للداخل بعنف صارخًا بها :
_ طالعة قدام الرچالة دي كلها تتكلمي .. لتكوني فاكرة أن ده شچاعة لا ده اسمه فُجر
ردت على أخيها بغضب وقوة :
_ انا مهسكتش عن حق أبويا ياچلال
صرخ بها بصوته الرجولي المخيف :
_حق ابوكي في رچالة عارفة زين كيف تاخده مش الحريم .. الهيبة والاحترام اللي بتاخديهم من أكبر لاصغر واحد في العيلة اوعاكي تنسيكي إنك حرمة وحسك ميطلعش في وچود الرچالة فاهمة ولا لا
اشتعلت غيظًا ولم تشعر بذلة لسانها التي تحدثت دون تفكير :
_ هي فين الرچالة دي !! .. الرچالة اللي نست حقه وحطت يدها في يد قتالين القُتلة دول
أظلمت عيني جلال ورمقها بنظرة قاتلة ، لوهلة خشيته وكانت تعرف أن ما سيتبع تلك النظرة ليس خيرًا أبدًا وبالفعل وجدت كفه يرتفع ويهوى به فوق وجنتها بقوة ، رفعت يدها تتحسس موضع صفعته تحدقه مندهشة ثم بحركة مفاجأة جذبها من ذراعها هاتفًا بنبرة تقذف الرعب في البدن :
_ من إهنه ورايح هيكون في معاملة تاني يا آسيا ، إنتي مينفعش معاكي غير إكده
ظلت تحدقه بصدمة وقد تجمعت العبارات في عينيها البنية ، لا تصدق أن من صفعها الآن هو شقيقها الحبيب .
دفعها جلال بعد أن ترك ذراعها ثم رفع سبابته في وجهها محذرًا بلهجة تحمل الوعيد :
_ على الله رچلك تعتب برا عتبة الأوضة دي
كان جليلة تتابع شجار ولديها من الخارج وتنظر لابنتها في ضيق ، وفور رحيل ابنها دخلت لها تتطلعها بنظرات عتاب متمتمة :
_ اخوكي عنده حق .. مكنش ينفع تردي على أخوكي بالكلام ده متخليش غضبك يسيرك
اشاحت بوجهها للجانب الآخر بعيدًا عن أمها وردت بصوت محتقن بالدموع :
_ همليني لحالي ياما
تنهدت جليلة بخنق من ابنتها وطالعتها بنظرة قوية قبل أن تستدير وانصرف تتركها بمفردها تتخبط في غيظها وألمها .......
***
بقت ساكنة بمضجعها تحدق امامها في الفراغ بعينان تطلقان شرارات الثأر والجحود .. رغم شراسة نظراتها إلا أن تلك العينان لم تتوقف عن ذرف الدموع الحارقة في صمت ، قلبها ينسحق أسفل ستار الخزي بعد الصفعة التي تلقتها على يد أخيها .. لكنها تقسم بعدم ترك ثأر أبيها يضيع هباءًا حتى لو بقى الأمر عليها هي لتفعله ، طالما الرجال لا يستطيعون فعلها .
ليست نادمة على ما فعلته بمجلس الرجال بالأسفل ولو توجب عليها فعله ثانية ستفعله ، لكنها تعترف لنفسها بأنها أخطأت وتسرعت في التصرف ، كان يجب عليها أن تتريث وتتصرف وفقًا لخطط متقنة .. فالتصرف الذي صدر منها هو غباء وستتحمل عواقبه الوخيمة الآن .
لم تنتبه للوقت الذي مر وفاقت على أثر صوت باب المنزل الحديدي بالأسفل وهو ينفتح ، فاستقامت واقفة وكفكفت دموعها بكل قوة ثم سارت نحو شرفتها تقف مستندة بكفيها فوق السور الحديدي للشرفة ونظراتها الحاقدة تتابع عائلة إبراهيم الصاوي وهم يغادرون منزلها ، بعضهم تفرق لطرق مختلفة والبقية أكملوا طريقهم لنهاية الشارع ثم انحرفوا للشارع الخلفي حيث يقطن منزلهم .
كانت على وشك الدخول مجددًا لكن عيناها التقطت عمران وهو يقف بالأسفل يتحدث مع أخيها ومن خلال بعض الكلمات المتقطعة التي وصلت لأذنها كان عمران يطمئن على أحوال شقيقته وجلال بدوره رد عليه بكل برود ونظرات تضمر بعض الضغينة في ثناياها ولم يكن حال عمران يختلف عنه كثيرًا .
ظلت عيناها النارية ثابتة على عمران وبعقلها تدور ألف فكرة شيطانية ستشبع روحها المتضورة للثأر ، رأته يبتعد عن أخيها ويسير باتجاه سيارته المصطفة على بعد عشر أمتار من منزلهم ، فتح باب السيارة وقبل أن يستقل بها ارتفعت عيناه بعفوية بحتة للأعلى فاستقرت على شرفتها حيث تقف تلك بردائها الأسود وحجابها الذي صنعا منها مظهرًا اشبه بساحرة شريرة ، لم ترمش عيناها لمرة واحدة وهي تحدق به بكامل الجبروت ورأسها مرفوع لأعلى بشموخ يليق بها .
لم يعيرها ادنى اهتمام حتى أنه تجاهل نظراتها الحاقدة وقابلها بابتسامة جانبية ساخرة مع نظرة مرعبة يرسل من خلالها إشارات تحذيرية لها وكأنه اخترق عقلها وفهم ما يجول به .
لم تهتز لنظرته شعرة واحدة بل زادتها تصميمًا وبقت كما هي حتى رأته يتحرك بسيارته ويغادر ، دخلت إلي غرفتها ووجهها خالي تمامًا من التعابير وإذا بها تجد جدها يقتحم عليها الغرفة بغضب هادر ويصيح بها :
_ عال والله يابت خليل ، هي دي التربية اللي أنا وابوكي ربنهالك
ابتلعت غصة مريرة في حلقها على أثر سماعها لاسم ابيها وطريقة جدها الجافة معها :
_ إنت وابوي علمتوني مسبش حقي ياچدي
ضرب بعصاه الغليظة الأرض محدثة صوتًا مدويًا وهتف بعصبية :
_ مفيش عندنا حريم بتتدخل في كلام الرچالة ، والحديت ده ملكيش صالح بيه .. مفضلش غير الحريم كمان اللي تقول للرچالة يعملوا إيه وميعملوش إيه ، ولدي مات وحقه احنا عارفين كيف هناخده
لم تقوي على رفع نظرها بجدها وبقت مطرقة أرضًا احترامًا وتقديرًا له رغم أن العبارات عادت تتجمع بعيناها مجددًا لتسمعه يكمل بلهجته المحذرة :
_ هعتبر اللي حصل ده غلطة بسبب إن قلبك محروق على ابوكي ، عشان أنا عارف زين أن بتي آسيا مبيطلعش منها الغلط ، لكن لو الغلط ده اتكرر تاني وقتها متلوميش غير نفسك يا آسيا
اماءت رأسها له بالموافقة هامسة بصوت يحمل بحة انثوية رقيقة ومختلفة كليًا عن حقيقتها المتجبرة التي تظهر بها أمام الجميع :
_ حاضر ياچدي .. حقك عليا أنا آسفة غلطة وما هتتكررش
تمتم حمزة بنبرة قوية بعد أن هدأت عصبيته قليلًا :
_ زين إنك عارفة غلطك
رفعت نظرها له وابتسمت بدفء ثم تقدمت نحوه بخطا ثابتة وانحنت على كف يده تقبل ظاهرها في اعتذار للمرة الثانية ينبع من صميمها ، لطالما كان جدها يحتل بقلبها نفس منزلة حبها وتعلقها بأبيها :
_ متزعلش مني ياجدي .. سامحني أنا زي ما قولت قلبي محروق على ابويا ومش قادرة انسى أنه اتقتل غدر قصاد عيني
ربت على رأسها بحنو متمتمًا في لهجة رجولية قوية يطمئنها :
_ حق ولدي هيرجع وهناخد عزاه ، اللي ابتدي الحرب معانا بالدم هننهيها بالدم ، والغدر ملوش غفران في عرفنا يابتي
لا تنكر أن كلمات جدها اسعدتها واشعرتها بقليل من الراحة ، فارتمت عليه بين ذراعيه تعانقه بحب هامسة :
_ ربنا يخليك لينا ياچدي ويباركلنا فيك ، احنا معدش لينا سند ولا ضهر غيرك من بعد ابوي
ابتسم حمزة بحنو وتمتم في جدية :
_ أنتي وأخوكي وعيال عمك حتة من قلبي ، وبالأخص أنتي مكانك في قلبي مختلف ياست البنات كلهم
انفرج ثغرها ببسمة اكثر اتساعًا وسعادة بحنو جدها وحبه لها ، وكأن ما افسده أخيها بصفعته لها اصلحها جدها الحنون ! .