الفصل الواحد والعشرون

678 28 0
                                    

((ميثاق الحرب والغفران))
_ الفصل الواحد والعشرون_

كانت منخرطة في نوبة بكائها الصامت وأناملها مازالت تتجول فوق وجنتها، لكنها توقفت واضطربت بشدة عندما فتح عينيه على أثر لمساتها، لم يلبث ليدرك وضعها ويفوق من نعاسه حتى وجدها بسرعة تستدير وتوليه ظهرها.. لكن منظر وجهها الغارق بالدموع ولمساتها المرتجفة فوق وجهه كانوا أكثر ما يدركهم، حيث اعتدل في نومته مضيقًا عينية بحيرة وقلق وهو يسألها:
_مالك بتبكي ليه؟
استمرت في بكائها دون إجابة فأعتدل هو وهب جالسًا فوق الفراش ثم مد يده لكتفها يديرها باتجاهه في رفق هاتفًا:
_آسيا!
رفعت أناملها لوجنتيها وجففت عبراتها ثم استقامت هي أيضًا جالسة لكن وضعها لم يتحسن بل ازداد سوءًا، كانت تشيح بوجهها للجانب تبكي بقوة وجسدها تعتريه نفضة عنيفة ولم تكن تتفوه بكلمة واحدة حتى لتفهمه سبب كل هذا الانهيار والبكاء العنيف، تسلل القلق الحقيقي لصدره وأصبحت ملامحه صلبة على عكس نبرته اللينة التي حافظ عليها حتى لا يزيد من الوضع سوءًا.. لف ذراعه حول كتفيها وهتف بنبرة مترقبة ومهتمة:
_آسيا إيه اللي حُصل ردي عليا؟!
لمسته أشعرتها بالدفء رغم الوغزة البسيطة التي صابتها فور ملامسته لجسدها إلا أنها أحبتها بشدة.. فرفعت رأسها وتطلعت إليه بوجه غارق بالدموع وعينان مغلوبة، شعرت باحتياجها له ولم تتردد للحظة في تلبيه رغبة قلبها حيث مالت عليه ببطء ووضعت رأسها فوق صدره ليتحول بكائها الصامت إلى نحيب مسموع فور تذكرها لكلمات فريال، ضمها لا إراديًا وحاوطها بذراعيه وبعد ثواني معدودة مد أنامله وأمسك بطرف ذقنها يرفع وجهها عن صدره لكي يصبح في مواجهته ويسالها هذه المرة بنظرات يظهر بها الغضب الحقيقي والانزعاج:
_في حد عملك حاچة أو ضايقك؟
هزت رأسها له بالنفي دون أن يخرج صوتها وعادت تدفن وجهها بين ثنايا صدره من جديد فتسمعه يقول بضيق:
_امال في إيه ردي عليا ساكتة إكده ليه؟!
خرج صوتها الضعيف أخيرًا:
_مفيش حاچة
رفع حاجبه بعدم فهم وحيرة من أمرها بينما هي فهمست بنبرة رقيقة تحمل بحة البكاء:
_عمران
تابعت بعد ذلك بندم وبكاء دون أن تتجرأ على رفع رأسها والنظر بعينيه:
_سامحني
أجابها بنظرة مستفهمة تطرح الأسئلة:
_على إيه؟!
تحلت بالجرأة هذه المرة ورفعت رأسها عن صدره وتطلعت بوجهه وعينيه في عمق هامسة بعينين تظهر صدق ندمها:
_على كل اللي عملته معاك.. مكنتش أعرف إنك ملكش يد في قتل أبويا والله كان الغضب عامي عيوني ومنظر أبويا وهو غرقان في دمه هو الحاجة الوحيدة اللي كنت شيفاها وكنت عاوزة أخد حقه واريحه.. أنا عمري ما كنت اقدر أذي حيوان حتى معرفش كيف كنت عاوزة اقتل إنسان.. عارفة أن اللي عملته معاك مش هين ويمكن ملوش غفران كمان بس لو كان چرالك حاچة مكنتش هسامح نفسي
طالت نظرته الثاقبة إليها وهو يستمع لاعتذارها وندمها ثم أطلق تنهيدة حارة ورفع أنامله يبعد خصلاتها المتمردة عن عينيها ويسألها باسمًا:
_لو مكنتش سامحتك وغفرتلك يا آسيا مكنتش هدخلك بيتي واخليكي على ذمتي لحظة واحدة.. بس أنا اعتبرت أفعالك دي غباء وتهور من ست عواطفها بتسيرها ومش فاهمة ولا عارفة عواقب اللي بتعمله وعشان إكده عديتلك في المرة الأولى اللي عملتيه لكن صدقيني لو مكنتش غفرت كنتي هتقولي چحيم ناسي أهون عليا مليون مرة من راچل كيفك
هزت رأسها بالنفي هاتفة في خفوت جميل ونظرة تحمل معاني مميزة:
_عمري ما كنت هقول إكده
ضحك وهتف رافعًا حاجبه اليسار بمكر يضمره خلف قسماته الجادة:
_ليه؟
التزمت الصمت وسكنت تمامًا فقط أخذت تتمعنه بنظراتها المضطربة وعقلها الذي يبحث عن رد أو كذبة بالمعنى الأدق دون أن تعترف له بحقيقة مشاعرها تجاهه، كانت نظراته الرجولية العميقة تركبها أكثر وتسحبها لأعماق محيط عواطفها ولو كانت بقيت بين ذراعيه واستمرت في التحديق به للحظة أخرى كانت ستفرغ كل ما يملأ صدرها في وجهه.. فابتعدت عنه بسرعة كالتي لدغها عقرب وقالت بتلعثم وعينان زائغة:
_ أنا هروح الحمام اغسل وشي
لم يجيبها واكتفى ببسمته اللئيمة ثم تابعها وهي تهرب منه وتتوارى خلف باب الحمام، بينما هي فوقفت واستندت بظهرها على الباب وهي تبتسم باستحياء رغم أن كلمات فريال لا تزال عالقة بذهنها لكنها أبت أن تفسد عليها جمال لحظتها وفقط ما جعل وجهها يعبس مرة أخرى هو شعور الفراغ والبرودة الي يحتاجها بعدما خرجت من بين ذراعيه فليتها تسكن به ولا تبتعد عنه أبدًا.. ولكن مع الأسف كيف سيحدث إذا كان هو لا يبادلها نفس المشاعر.
                                       ***
داخل غرفة الصالون بمنزل خليل صفوان، كان جلال جالسًا فوق الاريكة وبيده سيجارة يضعها بين أسنانه ثم يخرجها وينفث معها الدخان بقوة للخارج، لقائهم معًا ونظراتها وكلماتها لا تغادر عقله كل كلمة تفوهت به تتكرر دون توقف، لو كان يعاني من الآم قلبه في السابق فالآن تحول الألم لجرح ينزف الدماء بغزارة، نعتها له بالخائن يمزقه.. نظرات الكره والنفور التي استقرت في عينيها اصابته في مقتل ليتها طعنته بسكين حاد بدلًا من تلك النظرات القاسية.
المظلوم أصبح ظالم!
انفتح الباب وظهرت منيرة من خلفه ثم تقدمت نحوه وجلست بجواره في صمت للحظات قبل أن تمد يده وتمسك بيده هامسة:
_إيه اللي مضايقك ياچلال.. مش قادرة اتحمل أشوفك إكده
سحب يده ببطء من أسفل يده ثم ربت فوق ظهر كفها بلطف هامسًا في بسمة متكلفة:
_مفيش حاچة يامنيرة.. مشاكل الشغل اطلعي أنتي نامي وريحي
زمت شفتيها بعبوس وقالت في يأس:
_وأنت مش هتاچي تنام؟
تنهد بقوة ثم زفر أنفاسه الحارة في عدم حيلة ليجيبها بنبرة خالية من أي مشاعر:
_اطلعي وأنا چاي وراكي كمان شوية
اماءت له بالموافقة وهي مازالت تحتفظ بملامحها العابسة والبريئة لكن فور وقوفها وانصرافها تحولت ملامحها لأخرى كلها نقم وحقد على فريال وتقسم من داخلها أنها ستمحيها من عقله وقلبه للأبد لكن أولًا يجب عليها التخلي عن تلك الأمور الخاصة بالخجل والحياء فإن استمرت فيها لن تكسبه مطلقًا.
خرج جلال بعدها بدقائق وقاد خطواته للأعلى حيث غرفته لكنه توقف بالطابق الثاني تحديدًا أمام غرفته هو وفريال واقترب منها بخطوات ثقيلة، فتح الباب ودخل ووقف يدور بنظره على كل ركن بها فَجَرت مشاهدهم الغرامية وحبهم أمام عينيه التي تلألأت بالعبرات دون وعي منه وسقطت دموعه فوق وجنتيه، رفع كفيه وكفكف دموعه محافظًا على صلابته من جديد حيث انصرف وأغلق الباب ثم أكمل طريقه للطابق الثالث نحو غرفته مع زوجته الجديدة.. هو من اقحم نفسه بذلك الوضع وسيتحمله رغمًا عنه.

رواية ميثاق الحرب والغفران حيث تعيش القصص. اكتشف الآن