(( ميثاق الحرب والغفران))
_ الفصل الثامن عشر_الابتسامة المتكلفة التي رسمتها بصعوبة فوق صفحة وجهها منذ قليل تلاشت تدريجيًا بعد العبارات الأخيرة التي تفوهت بها تلك المرأة التي أمامها، وتحولت نظراتها الباردة إلى أخرى مريبة تحمل الغموض لكنها ليست طبيعية أبدًا وتثير القلق في النفوس.
التفتت برأسها على أثر صوت زوجها الذي كان يقف على مسافة بعيدة نسبيًا عن الباب وهو يقول بعذوبة:
_ كيفك يامنى؟
أشرق وجه الأخرى بابتسامة عريضة كادت تشق طريقها لأذنها وقالت في رقة:
_بخير الحمدلله ياعمران.. حمدلله على سلامتك ربنا سترها وچات سلامات
أنهت عبارتها بنظرتها الماكرة لآسيا التي كانت هادئة بشكل غريب تعقد ذراعيها أسفل صدرها وتكتفى بنظراتها الثاقبة لمنى بينما الأخرى فسحقت آسيا وعبرت من الباب حتى أنها دفعتها بخفة بطرف كتفها أثناء عبورها.. وسارت تجاه الفراش ثم وضعت الطعام وقالت وهي تبتسم لعمران بوداعة:
_ مرت خالي كانت هتعملك الوكل وتچبهولك بس أنا قولتلها هعمله واطلعه ليه
كانت آسيا تقف عند الباب تتابع تلك الأفعى بنظرات نارية، هناك رغبة جامحة في ثناياها تريدها أن تهجم عليها وتمزقها لأشلاء لكنها تتمالك نفسها حتى لا تترك له الفرصة للشك بها، تابعته وهو يجيب عليها بود:
_ ليه تعبتي نفسك يامنى
ردت بدلال مبتسمة:
_ متقولش إكده تعبك راحة ياعمران والله
طفح كيلها ولم تعد تتحمل أكثر فلو صمدت للحظة أخرى وهي ترى الخبيثة تدلل عليه أمام مرأى عيناها ستخقنها بيدها، تحركت بخطواتها الهادئة على عكس الثوران الذي بصدرها وقالت وهي تبتسم بصعوبة لها محاولة إظهار اللطف لكن نظرات عيناها كانت كلها وعيد وتحذير:
_تسلمي يامنى تعبتي روحك.. روحي شوفي مرت خالك كانت بتنده عليكي شكلها عاوزاكي في حاچة مهمة وابقى بلغيها سلامي وقوليلها متتعبش روحها هي كمان
رغم أن عمران لم يفهم الألغاز التي كانت تتحدث بها إلا أن منى فهمتها جيدًا وهزت رأسها مبتسمة في لؤم ثم نظرت لعمران وقالت بنعومة:
_ بالهنا والشفا
أرسل لها ابتسامة عذبة ثم استدارت وانصرفت هي للخارج فاندفعت آسيا نحو الباب وصفعته خلفها بعنف وهي تجاهد في البقاء هادئة لتسمعه يسألها بجدية:
_تقصدي إيه باللي قولتيه من شوية؟!
استدارت بجسدها له وابتسمت ببرود مزيف ثم أردفت بخبث دفين:
_هي فهمتني زين متشغلش بالك أنت
تقدم نحوها حتى وقف أمامها مباشرة ونظر في عيناها الواسعة بتدقيق وقال بصوت غليظ:
_ فهمت إيه؟
بالعادة تتوتر وتضطرب عندما ينظر لعيناها بتلك الطريقة لكنها الآن كانت تشتعل من الغيظ لدرجة أنها لم تبالي بشيء ونظرت هي الأخرى بعيناه في قوة وتمتمت باسمة في نبرة انثوية رقيقة:
_دي مواضيع حريم ياعمران، ملكش صالح بيها يعني متوچعش دماغك على الفاضي
رفع حاجبيه ورمقها بحيرة وبعض الدهشة لكن سرعان ما قال بلهجة حازمة ومنذرة:
_مش عاوز مشاكل يا آسيا فاهمة ولا لا، أنتي بقيتي عارفاني زين وطالما نبهت عليكي معنى إكده أن لو حصل عكس اللي قولته مش هيحصل طيب
كانت مازالت تحتفظ بابتسامتها المزيفة واكتفت بها دون أن تجيب عليه بينما هو فهندم من عباءته بذراعه السليم وقال لها في نبرة رجولية:
_كلي أنتي الوكل ده.. أنا مش چعان هبقى أكل في الوكالة
لمعت عيناها بفرحة داخليه واتسعت ابتسامة ثغرها أكثر لتقول:
_أيوة أنا كنت چعانة قوي هبقى آكل منه، حرام المسكينة تعبت روحها وعملت مينفعش ننزلها الصينية كيف ما طلعتها
رمقها بتعجب من ردة فعلها الغريبة وسعادتها حتى طريقتها المشفقة والودودة وهي تتحدث عن ابنة عمته، القى عليها نظرة قوية وغير مطمئنة قبل أن يتحرك من أمامها وينصرف ويتركها تقف تتطلع بنظراتها الملتهبة للطعام عاقدة ذراعيها أسفل صدرها.
***
بعد رحيل عمران بعشر دقائق تقريبًا قادت هي خطواتها تجاه المطبخ بالطابق الأرضي وتحمل صينية الطعام فوق يديها، ويعتلى ملامح وجهها ابتسامة شرسة ونظرات مخيفة، وصلت إلى المطبخ وقبل أن تدخل توقفت حين رأت منى بالداخل وكانت تتحدث في الهاتف.. بقت واقفة تنتظرها أن تنتهي من مكالمتها وفور انتهائها والتفات منى لها، استقرت في عين الأخرى نظرة ماكرة لكن سرعان ما تبدلت عندما رأت الطعام كما هو فوق يدين آسيا التي ضحكت بصمت في خبث وتحركت بكل تريث وبرود تجاه سلة القمامة وسكبت الطعام بها ثم وضعت الصنينة فوق رخامة المطبخ والتفتت بجسدها تجاه منى التي كانت تشتعل من الغيظ وقالت لها مبتسمة بنظرة شيطانية:
_عمران مبيحبش ياكل من يد أي حد غير أمه ومؤخرًا أنا.. عشان إكده قولتلك تعبتي روحك على الفاضي، يلا مش مهم أديكي عرفتي
كانت قسمات وجه الأخرى المختقنة تتحدث بدلًأ عن لسانها أما آسيا فكانت تتابعها بتشفى وخبث ثم اقتربت منها ووقفت أمامها مباشرة تقول بلهجة مخيفة وتحدثت بتحذيرات ليست مباشرة لكنها وصلت لعقل منى جيدًا وأدركتها:
_هحكيلك قصة يمكن تفيدك.. كان في ست عينها من راچل والراچل ده كان متچوز وكانت هي عاوز تلف عليه وهو مش معبرها ورغم أن مرته حذرتها بس هي متعظتش، بعد إكده الناس عرفت ورغم أن الكل عارف بالمشاكل اللي بين الراچل ومرته اللي محدش بيحبها بس أول ما عرفوا اللي ست دي بتعمله وقفوا في صف مرته وقالوا على الست دي حاچة واحدة.. ست لا مؤاخذة وبعد إكده هي لا لحقت بلح الشام ولا عنب اليمن وفضلت لحالها من غير چواز بسبب سمعتها
التهبت نظرات منى وأصبح وجهها لونه أحمر كالدماء من فرط غضبها التي تحاول كتمه والظهور بكل ثبات أمام تلك الساحرة.. لكن الساحرة لم تكتفي بهذا القدر وتابعت بجدية ونظرة ذات معنى كلها شر:
_إيه رأيك فيها.. قصة واقعية وحوالينا امثلة حية كتير قوي بنفس القصة دي.. خليها في عقلها ودايمًا افتكريها يمكن تحتاچيها في يوم من الأيام
استشاطت منى وفقدت القدرة على التحكم بأعصابها أكثر من ذلك حيث راحت تجذب آسيا من ذراعها وتصيح بها بغضب:
_ أنتي اتخبلتي في نفوخك إيه اللي بتقوليه ده.. متنسيش روحك يا آسيا أنتي إهنه كيفك كيف الكراسي اللي بنقعد عليها واوعاكي تفكري تغلطي فيا أو في أي حد عشان هتبقى نهيتي على روحك
كانت آسيا على وشك الانقضاض عليها لتفرغ شحنة غيظها المكتظة بصدرها منذ قدومها لغرفتها بالطعام لزوجها وها هي الفرصة سنحت لها لكن صوت عمران المخيف وهو يهتف بغضب جعل منى تنتفض وتترك ذراع آسيا بسرعة:
_إيه اللي بيحصل ده!!
أجفلت منى نظراتها وابعدتها عن عمران بإحراج أما آسيا فابتسمت بلؤم وقالت متصنعة البراءة:
_أنا نزلت احط صينية الوكل في المطبخ وكنت بشكر منى على الوكل وتعبها بس هي شكلها مضايقة مني وكيف الباقي مبتحبنيش