الفصل الواحد والخمسون

527 22 0
                                    

((ميثاق الحرب والغفران))
_الفصل الحادي والخمسون_

داخل قسم الشرطة داخل غرفة أحد الضباط كان يجلس جلال على مقعد خشبي وثير أمام المكتب الخاص بالضابط، وكان بمفرده في الغرفة يحدق في اللاشيء أمامه بجمود تام لدقاىق طويلة نسبيًا حتى قطع ذلك الصمت القاتل وصول الضابط أخيرًا، الذي دخل وأغلق الباب خلفه ثم تحرك نحو مقعده الخاص أمام مكتبه وهو يتمتم بهدوء:
_معلش اتأخرت عليك
رد جلال بنبرة رجولية قوية:
_ولا يهمك.. خير يامحسن بيه ممكن اعرف سبب وچودي هنا إيه؟!
جلس الضابط على مقعده وهو يحدق في جلال مطولًا قبل أن يهتف له بنظرة ثاقبة:
_خير ان شاء الله.. أنا طلبت تيجي هنا عشان عايز اتكلم معاك في كام حاجة
كان جلال ثابتًا تمامًا وينظر للضابط بكل صلابة وثقة وهو يقول:
_اتفضل أنا سامعك، حچات إيه دي؟
أجابه بعين حازمة ونبرة مريبة:
_عمك لغاية دلوقتي هربان وده مش في صالحه ولا في صالحكم، انتوا في بينكم تار وممكن الأمور تخرج عن السيطرة
تطلع جلال له بوجه خالي من التعابير ثم هتف بكل ثبات انفعالي:
_لا اطمن معدش في تار تاني خلاص حق أبوي ورچع، بس أنا بردك لساتني مفهمتش أنت جايبني إهنه ليه؟!
مسح محسن على وجهه وهو يطلق زفيرًا حارًا قبل أن يتطلع لجلال بنظرات منذرة متمتمًا:
_عمك فين ياجلال؟!
ضحك ساخرًا ثم أجابه ببرود مستفز:
_أنت لساتك قايل أنه هربان أنا هعرف من وين مكانه عاد ياباشا!
محسن بغضب بسيط وعين تحمل التحذير:
_لا أنت عارف مكانه ياجلال
اختفت ابتسامة جلال وحل محلها الجدية وتقوست ملامح وجهه لتصبح مخيفة بعض الشيء وهو يرد:
_قولتلك معرفش مكانه يامحسن بيه
لوى محسن فمه بغيظ وهو يحاول التحكم في انفعالاته ثم قال بوجه شيطاني مخيف:
_أنت بتتستر عليه وده غلط ولو اتأكدت أنك بالفعل عارف مكانه وقتها النتائج مش هتكون مرضية ياجلال وهتتحاكم معاه
أخذ جلال نفسًا عميقًا وهو مازال محتفظ ببروده وثباته الانفعالي المستفز الذي انهاه بعبارته الأخيرة وهو يبتسم بتكلف ويقول في نظرة تحدي:
_لما تتأكد ياحضرة الظابط انتوا عارفين بيتي زين وأنا موچود.. لو مفيش حاچة تاني دلوك اقدر امشي
طالت نظرات محسن المشتعلة له فهو لا يستطيع اتهامه بأي شيء الآن وسجنه وهذا هو ما يثير جنونه بالأكثر، بعد لحظات طويلة من تحديقه الغاضب أشار لجلال بمعنى أنه يمكنه الانصراف، فهب جلال واقفًا بكل شموخ وهو يهندم من عباءته السوداء التي فوق كتفيه ثم ألقي نظرة أخيرة على الضابط بكل هيبة وتحرك للخارج وهو يقود خطواته لخارج القسم بأكمله وفور مغادرته اخرج هاتفه ليجري اتصال ثم يضع الهاتف فوق أذنه ينتظر الرد الذي أتاه بعد ثواني قصيرة فقال بلهجة حادة:
_وينك ياعلي؟
سكت للحظات وهو يستمع لرد ابن عمه عليه ثم أجابه بغلظة:
_طيب خليك مكانك متتحركش أنا جايلكم دلوك
                                    ***
داخل منزل حور.....
كانت جالسة بغرفتها فوق فراشها تحدق في الفراغ أمامها بشرود، عقلها منشغل بالتفكير به منذ حديثهم الأخير، رغم قلقها واهتمامها لأمره إلا أن غضبها منه يمنعها من الاستسلام والتصرف وكأنه شيء لم يكن، لا تستطيع تركه سجينًا لأفكاره المؤذية وعقله الذي يدله نحو طريق السوء، لم تجد افضل من هذا الحل لمحاولة ردعه عن ما يريد فعله، رغم أنها لم تكن تود أن تضعه بين شقي الاختيار إما بينها أو بين والده لكنه لم يترك لها طريق آخر.
انتشلها من عمق أفكارها دخول أمها عليها الغرفة وهي تقول بجدية:
_حور قومي البسي يابنتي
التفتت لأمها باستغراب وهي تسألها:
_البس ليه؟!
قالت الأم ببسمة رقيقة وهي تشير بعيناها للخارج:
_بلال برا وقاعد مع أبوكي بيتكلموا.. البسي يلا عشان تطلعيله   عيب
رمشت بعينها عدة مرات مندهشة، لوهلة ظنت نفسها تتوهم وتسمع كلمات في خيالها هي فقط، لكن صوت أمها وهي تلح عليها ثانية بالنهوض أثبت لها أن بالفعل في منزلهم الآن، لكن ماذا يفعل ولماذا جاء دون أن يخبرها حتى.
نهضت من فراشها بسرعة وهرولت نحو الحمام لكي تستعد وبعد دقائق قصيرة خرجت ثم بدأت في ارتداء ملابس مناسبة وجميلة، واستغرقت وقت طويل حتى انتهت من تجهيز نفسها وخرجت من غرفتها تتجه للصالة حيث يجلس هو ووالدها، وفور وصولها لهم ابتسم لها والدها وقال وهو يشير لها بيده على الأريكة بجواره:
_تعالي ياحور اقعدي ياحبيبتي تعالي
أماءت بوجهها لوالدها بالموافقة ثم التفتت نحو بلال الذي كان يتمعنها بعمق وابتسمت له بتكلف حتى لا يشعر والده بتوتر الأجواء بينهم، ثم قالت له برقة:
_ازيك يابلال
أجابها وهو يبادلها الابتسامة التي لم تكن متكلفة كخاصتها:
_زين الحمدلله
جلست بجوار والدها واستمر الحوار بينه هو وبلال لدقائق طويلة نسبيًا وهم يتحدثون بأمور مختلفة تخص العمل والحياة ومشقاتها على الجميع حتى استقام أبيها أخيرًا وقرر تركهم بمفردهم ليتحدثوا براحة أكثر.
فور انصرافه تقابلت نظراتهم معًا، كانت هي غاضبة بعكس نظراته التي كانت معاتبة وثابتة عليها لا تحيد لثانية عنها أما هي فقد أشاحت بوجهها للجهة الأخرى ترفض النظر لوجهه، ودام هذا الوضع المريب بينهم لدقائق حتى قررت هي اختراق فقاعة الصمت وأنهاء تأمله فيها حيث التفتت له وقالت بجفاء متصنع:
_ليه مقولتليش إنك جاي؟!
بلال بنبرة هادئة لكن نظراته كانت ثاقبة وهو يسألها:
_إيه مش عاوزاني ولا إيه.. تحبي اقوم امشي!
لانت حدة معالمها بعد عبارته وللحظة شعرت بالندم في أعماقها على سخافة كلماته فقالت له بلطف لكن مازال الحزم يستحوذ على صوتها:
_مش قصدي كدا طبعًا بس عشان استغربت يعني أنت جيت فجأة
حرك حاجبه بطريقة مثيرة للاهتمام وهو يجيبها في صوت منزعج:
_أنا كنت أحب اقولك قبل ما آچي أكيد بس للأسف أنتي مبترديش عليا ومسبتليش حل تاني عشان اشوفك واتكلم معاكي
عقدت ذراعيها أسفل صدرها وهي تميل بوجهها للجانب تأبي النظر إليه وهي تقول بمكابرة:
_اعتقد أن بعد آخر مرة معدش في كلام تاني نقوله
تنهد الصعداء بقلة حيلة ثم تمتم بصوت رجولي غليظ:
_طيب ممكن تبصيلي وأنتي بتكلميني
أصدرت زفيرًا حارًا ثم عادت بوجهها لجهته تنظر له بضيق فتقابل نظراته الممتعضة والمعاتبة لها على تصرفاتها الجافة معه، ثم تابع بخشونة:
_أنتي بتعملي إكده ليه!
انفجرت به ساخطة وهي تقول:
_أنت عارف أنا بعمل كدا ليه يابلال وبرضوا مصمم على كلامك وتفكيرك الغلط وكل ده وعايزني مزعلش منك واشجعك كمان
هتف بغضب وهو يحاول التحكم بانفعالاته ونبرة صوته:
_واديكي قولتي تفكير شوفتيني روحت وقتلته دلوك
حور بعصبية وهي تنظر في عيناه بحدة:
_أنا مش عايزاك تفكر مجرد التفكير حتى
رفع يده يمسح على وجهه وهو يتأفف بخنق مستغفرًا ربه ثم يتمتم مغلوبًا:
_طيب وأنتي إيه اللي يرضيكي دلوك؟!
جلست بثقة أكثر على مقعدها ونظرت له بحزم وهي تقول:
_تشيل الأفكار دي من راسك نهائي وكمان توعدني أنك متعملش حاجة
اخذ نفسًا عميقًا ورد باستسلام:
_طيب ياحور مش هعمل حاجة خلاص ارتحتي إكده
تطلعت في عيناه بعمق وهي تسأله بحدة:
_وعد؟!
مال ثغره للجانب مغلوبًا وهو بجيبها في خفوت:
_وعد.. بزيادة عاد تعبتيني معاكي يابنت الناس
اختفى غضبها وحل محل قسوة ملامحها لينها مجددًا وقد ظهرت لمعة عيناها المحبة وبسمة ثغره البسيطة وهي تحدقه من الجانب حتى قالت أخيرًا في رقة وهي تبتسم بدلال:
_بتحب القهوة؟
ضحك بصمت رغمًا عنه ليجيبها متغزلًا بغرام:
_ولو مبحبهاش هحبها طالما من يدك
اتسعت بسمتها الخجلة أكثر وهي تتفادي النظر إليه من فرط حيائها ثم استقامت واقفة وابتعدت عنه متجهة للمطبخ لكي تقوم بتحضير القهوة له، لتتركه يبتسم عليها بحب.
                                    ***
كان عمران يقف بالخارج أمام السيارة بانتظار خروج أخته الصغيرة حتى يأخذها لوالدتها في منزلهم، بعد دقائق قصيرة من الانتظار خرجت أخيرًا من باب المنزل وهي تركض باتجاهه، فمد يده لباب السيارة الخلفي يفتحه لها لكي تصعد وتستقل به لكنها توقفت أمام السيارة وهي تلزم شفتيها بعبوس وتقول في براءة:
_لا أنا بحب اركب قدام
تنهد عمران الصعداء مغلوبًا قبل أن يغلق الباب الخلفي ويفتح الباب المجاور لمقعده وهو يقول لها:
_اركبي يلا قدام
اتسعت بسمتها السعيدة وبلحظة كانت تقفز وتستقل بالمقعد المجاور له بينما هو فيتحرك نحو الجهة الأخرى لكي يستقل بمقعده المخصص للقيادة وينطلق بالسيارة يشق بها الطرقات متجهًا نحو منزل داليا.
كان طريق الوصول للمنزل ليس سهلًا أبدًا بالأخص بوجود تلك الصغيرة بجواره وهي تتوقف عن طرح الأسئلة والتحدث، لا ينكر حقيقة أن ذلك الوقت كان ممتعًا له رغم أنه ليس من محبي الكلام الكثير والثرثرة، من ضمن اسئلتها الطفولية له عندما أبعدت نظرها عن الطريق ونظرت له وهي تسأله بفضول:
_هي طنط آسيا في نونو في بطنها
أجابها بهدوء دون أن يحيد بنظره عن الطريق أثناء القيادة:
_امممم أنتي مين قالك؟
ريم بضحكة طفولية جميلة:
_هي امبارح قالتلي لما أنت مكنتش قاعد.. هتسمي النونو إيه؟
زم شفتيه بجهل ليجيبها وهو يبتسم بعبث:
_معرفش أنتي إيه رأيك نسميه إيه؟
سكتت للحظات وهي تفكر وتحدق في سقف السيارة بسكون تام حتى قالت بسرعة في حماس:
_نسميه أحمد
اتسعت بسمته وهو يحدقها بطرف عيناه متمتمًا:
_اشمعني؟
مطت شفتيها ببراءة مجيبة بكل بساطة:
_معرفش هو جه كدا أنا افتكرت الاسم ده
ردد خلفها وهو يضحك بصمت على عبارتها الطفولية:
_اممم هو چه إكده
بعد دقيقة بالضبط توقف بالسيارة أمام أحد المحلات الكبيرة لشراء الأطعمة المختلفة ثم نظر لريم وقال بحزم:
_أنا هنزل اشتري حاچة وراچع خليكي إهنه متطلعيش من العربية مفهوم
طالعته بكل استعطاف وهي تترجاه متمتمة:
_عايزة آجي معاك بليز
كان سيرفض لكن نظرتها الطفولية تملكته فلم يشتكيع رد طلبها حيث قال مستسلمًا:
_يلا انزلي
خرج من السيارة وتحرك نحو الجهة الأخرى حيث مقعدها وكانت هي نزلت أيضًا من السيارة وسارت بجواره ثم رفعت يدها بكل عفوية وامسكت بكفه وهي تبتسم له مما جعله يبادلها الابتسامة لا إراديًا، دخلوا معًا للمحل وبعدما انتهي من شراء ما يريده اتجه بها نحو قسم صغير به بعض العاب الأطفال وغمز لها وهو يقول:
_يلا اختاري لعبة عشان نشتريها
قفزت فرحًا وهي تضحك وبسرعة اندفعت نحو صفوف الألعاب تتفحص الجميع بتركيز وهي تفكر أيهما تختار، حتى وقع اختيارها بالنهاية على دمية كبيرة نسبيًا جميلة لديها شعر طويل وبني وقالت له وهي تشير عليها:
_عايزة دي
مد يده والتقط علبة الدمية وهو يشير لها بعينها أن تلحق به حتى وصل أمام مكتب الحساب ودفع ثمن الدمية وهي تقف بجواره ملتصقة به حتى رأت صاحب المحل بعدما دفع أخيها ثمن اللعبة يضعها له في كيس كبير يسعها ويعطيها له، فجذبها عمران من يده ثم بيده الأخرى امسك بيد أخته وسار معها للخارج متجهًا نحو السيارة.
فتح باب السيارة الخلفي ووضع به اكياس الطعام الذي قام بشرائه ثم أخرج الدمية من الكيس وناولها لها وهو يبتسم بحنو، فلمعت عيني ريم بفرحة حقيقة وملامح وجهها الطفولية الجميلة كانت تشعره براحة غريبة، بحركة مفاجأة كانت ترتمي عليه وتعانقه من قدميه وهي تضحك وتقول برقة تليق بفتاة مثلها:
_شكرا ياعمران أنا بحبك أوي
ضحك وانحنى عليها ليحملها بين ذراعيه وهو يلثم وجنتها بدفء متمتمًا بمزح:
_كل ده عشان لعبة بس!.. وأنا كمان بحبك.. يلا عاد عشان نروح البيت عشان متأخرش على الشغل وكمان أمك مستنياكي من بدري
هزت رأسها له بالموافقة وهي لا تتوقف عن الضحك اللطيف، بينما هو ففتح باب المقعد المجاور له وضعها فوق المقعد ثم أغلق الباب والتف من الجهة الأخرى ليستقل بمقعده ويكمل طريقه باتجاه منزلها.
                                     ***
بمكان آخر داخل أحد المنازل الخاصة بعائلة خليل صفوان، كان يجلس كل من منصور وعلي وحمزة معًا يتحدثون في حل لوضع منصور وهروبه من الشرطة، حتى وصل جلال وفور دخوله هتف منصور يسأله باهتمام:
_إيه اللي حُصل خدوك ليه على القسم ياچلال
اقترب جلال وجلس على أول مقعد قابله بجوارهم ثم قال بخنق:
_بيسألوني على مكانك
نظر حمزة بدهشة لجلال وقال بحدة:
_اوعاك تكون قولتلهم
جلال بلهجة رجولية حازمة:
_اقولهم كيف يعني ياچدي طبعًا مقولتش حاچة بس مش بعيد يبدأوا يراقبوني عشان يعرفوا مكان عمي ولو عرفوا أني عارف مكانه ومتستر عليه هتسجن أنا وهو
اعتدل علي في جلسته وقال بضيق ملحوظ وحيرة:
_طب والعمل إيه دلوك؟
أخذ جلال نفسًا عميقًا ثم أخرجه زفيرًا متهملًا قبل أن يجيب بجدية تامة:
_مفيش غير حل من الاتنين يا أما تسلم نفسك ياعمي يا أما تطلع برا البلد واصل عشان طول ما أنت إهنه مسيرهم هيعرفوا مكانك
هتف حمزة بغضب شديد يبدي اعتراضه على فكرة جلال:
_يسلم نفسه ده إيه.. مش هيحصل ياچلال واصل
مسح " علي " على وجهه وهو يزفر ثم قال مؤيدًا لجلال في رزانة:
_أنا شايف أن چلال عنده حق.. حتى لو هربت هتفضل هربان لغاية ميتا يابوي لا الحكومة ولا عمران هيسيبك
نظر منصور لابنه بغضب وهتف رافضًا رفض قاطع:
_انا مش هسلم نفسي ياعلي، وهو الحل التاني احسن حل أني اطلع برا البلد واصل
رتب حمزة على كتف ابنه الذي يوافقه في الرأي وقال بصلابة ونظرة تبث الطمأنينة لنفسه:
_زين متقلقش من بكرا هنظبطلك مكان زين عشان تسافر من إهنه ومترچعش لغاية ما الموضوع ده يتنسي واصل
التزم جلال الصمت ولم يبدي اعتراض على قرار جده رغم أنه لم يعجبه ومن وجهة نظره أن يسلم نفسه للشرطة أفضل من عيش حياة الهروب والخوف من السجن لآخر حياته.
                                      ***

رواية ميثاق الحرب والغفران حيث تعيش القصص. اكتشف الآن