الفصل الخامس

753 30 1
                                    

(( ميثاق الحرب والغفران ))
_ الفصل الخامس _

لم يكن بوضع يسمح له بملاحقته ، فالألم الذي اجتاح بطنه موضع الطعن كان مميت ، وضع يده فوق جرحه في محاولة شبه فاشلة منه لوقف النزيف لكن قوته بدأت بالأنهيار تدريجيًا ولم يعد قادرًا على الوقوف فجلس على الأرض متألمًا .. وفورًا أخرج هاتفه يجري اتصال ببشار الذي أجابه بعد رنات قصيرة :
_ أيوة ياعمران
خرج صوته مكتومًا من فرط الألم :
_ تعالالي يابشار على الشارع اللي في ضهر المخزن بسرعة وهات معاك العربية
نبرة صوته الضعيفة أصابته بالزعر فهتف بقلق :
_ في إيه ياعمران أنت زين ؟!
أخرج الكلمات بصعوبة وهو يقول بإيجاز :
_ مش قادر أتكلم يابشار اسمع الكلام وتعالى طوالي
رغم عدم فهمه لما يحدث لكنه أدرك أن هناك كارثة وهو ليس بخير فتلك النبرة المتألمة والضعيفة لم يسمعه يتحدث بها ابدًا من قبل .. انهى الاتصال وخرج بملابس المنزل ركضًا للخارج واستقل بسيارته يشق بها الطرق قاصدًا المخزن وتحديدًا الشارع الخلفي .

حاول عمران البقاء صامدًا لآخر لحظة متحملًا الألم العنيف لكن الدماء التي فقدها افقدته توازنه ولم يعد يستطيع فتح عينيه ، وبالنهاية اغلقها باستسلام فاقدًا وعيه .
بتلك اللحظات وصل بشار ونزل من السيارة ، فتصلب بأرضه مذهولًا حين رأى ابن عمه فاقدًا وعيه على الأرض ودمائه تملأ ملابسه .. هرول نحوه مزعورًا وجثى على ركبتيه أمامه يصيح به :
_ عمران أنت سامعني .. عمران !!
حين لم يحصل على إجابة منه حاول أن يوقفه بصعوبة بسبب قوة جسده وبنيته الصلبة ، نجح بالأخير في صعوبة وسحبه معه للسيارة ثم ادخله بالمقعد الخلفي واسرع يستقل بمقعده المخصص للقيادة وينطلق بها بسرعة جنونية متجهًا لأقرب مستشفى ......
***
ساعات طويلة مرت وهو بالانتظار خارج غرف العمليات ، يجلس فوق أحدى المقاعد الحديدية ويفرك كفيه ببعضهم من فرط القلق والضيق ، ومن الطبيعي أن أول من جال بعقله أنه المتسبب في محاولة قلت ابن عمه هو عائلة صفوان وبالأخص جلال .. سينتظر فقط خروجه سالمًا من غرفة العمليات وبعدها لن يحتفظ بهدوئه أبدًا .

لمح الطبيب يخرج من الغرفة فتوقف واسرع نحوه يسأله باهتمام :
_ خير يادكتور طمني ؟
أجابه الطبيب بهدوء ووجه تعلوه علامات الارتياح :
_ الحمدلله اطمن .. الجرح كان عميق وهو خسر دم كتير للأسف بس لحسن الحظ أن كان في أكياس دم احتياطي موجودة بالمستشفى والحمدلله اتخطى مرحلة الخطر وبقى كويس بس برضوا هيفضل تحت المراقبة الأربعة وعشرين ساعة الجايين عشان لو حصل أي مضاعفات نتيجة العملية
تنهد بشار الصعداء براحة وقال باسمًا :
_ الحمدلله اللهم لك الحمد والشكر ، طب امتى اقدر ادخل اشوفه يادكتور ؟
تمتم بجدية بسيطة :
_ دلوقتي هننقله على غرفة خاصة زي ما حضرتك طلبت وبعدين تقدر تدخل تشوفه .. بس نراعي أنه لسا خارج من عملية يعني مفيش كلام كتير ولا توتر وعصبية عشان الجرح
بشار بإيجاب :
_ تمام يادكتور متشكرين قوى
ابتسم له الطبيب بود ثم تحرك مبتعدًا عنه ، بينما بشار فعاد إلى مقعده منتظر خروجه ونقله لغرفته الخاصة حتى يذهب له .....
***
بعد مرور نصف ساعة تقريبًا كان بشار يتحرك للغرفة الخاصة بعمران، وفتح الباب ببطء ثم دخل فوجده ممد فوق الفراش مستيقظًا يبدو أن فاق للتو .
تقدم نحوه وجذب مقعد يجلس بجوار فراشه متمتمًا :
_ حمدلله على السلامة .. أنت زين ياعمران
هز رأسه بالإيجاب دون أن يتحدث فسأله بشار بحرقة :
_ مين اللي عمل إكده ؟
عمران بصوت خافتًا نتيجة لعدم قدرته على الحديث :
_ متشغلش بالك يابشار .. لما اطلع من المستشفى واشد حيلي هبقى افوقله زين اللي عمل إكده
انفعل وهتف :
_ كيف يعني مشغلش بالي ياعمران !!
تمالك أعصابه وتابع بهدوء مزيف :
_ طيب المهم مش وقته الكلام ده دلوك ارتاح أنت لساتك خارج من العملية ولما تشد حيلك نبقى نكمل كلامنا
لم يبدي أي ردة فعل بل كان جامدًا المشاعر يحدق أمامه في الفراغ بصمت وفور خروج بشار لخارج الغرفة حتى يجري اتصال ، لمعت في عيناه نظرة مميتة كلها وعيد وغضب ، وماهي إلا لحظات معدودة وأغلق عيناه لينام مجددًا بسبب التعب .
على الجانب الآخر بمنزل الصاوي ، أجاب بلال على هاتفه بعدما رأى اسم بشار ينير شاشة الهاتف :
_ أيوة يابشار
اتاه صوت ابن عمه الحازم :
_ ادخل اوضة عمران وچبله شوية خلجات يابلال وتعالى على مسشتفى ( .... ) بس اوعاك تجيب سيرة لحد
صابه القلق وقال مفزعًا :
_ مستشفى ليه ؟ .. عمران چراله حاچة يابشار ؟
بشار بإيجاز :
_ لم تاچي هقولك هو زين متقلقش ، اعمل اللي بقولك عليه بس وتعالى
لم تمر لحظة قبل أن ينهي الاتصال وصدح صوت إخلاص من خلفه تهتف برعب :
_ ولدي چراله حاچة يا بلال .. عمران بيعمل إيه في المستشفى ؟!
وضع هاتفه بجيب بنطاله وأجابها برزانة محاولًا تهدأتها :
_ مفيش حاچة اطمني يامرات أبوي هو زين أنا هروح اشوفه وهبلغك
صاحت بصوت مرتجف من فرط الخوف :
_ رچلي على رچلك .. هروح معاك اشوف ولدي
تنهد بعدم حيلة ولم يحاول منعها فإذا فعل لن تقبل وجميع من في المنزل سيستيقظ على صوتها ، هتف بلطف :
_ طيب روحي البسي بسرعة ومتخليش حد يحس
اماءت له عدة مرات بالموافقة واسرعت نحو الدرج تتجه لغرفتها حتى تبدل ملابسها وسط ندبها وبكائها وهي تهمس :
_ چيب العواقب سليمة يارب .. ياحبيبي ياولدي يارب ما يكون چراله حاچة .. يارب احميه واحفظه
دقائق معدودة بالضبط ووجدها بلال تهرول شبه ركضًا على الدرج وكان هو قد انتهى أيضًا من جمع بعض ملابس أخيه في حقيبة صغيرة ، ثم غادروا معًا المنزل واستقلوا بسيارة أجرة لتنقلهم إلى المستشفى .
***
كانت إخلاص تسير في ردهات المستشفى شبه ركضًا ويسبقها بخطواته بلال ، فور وصولهم لغرفة عمران كانت لها الاولولية في دخول الغرفة وركضت تجاه ابنها الممدد فوق الفراش الأبيض الصغير هاتفة بزعر وعينان غارقة بالدموع :
_ عمران چرالك إيه يانور عيني .. أنت زين ياولدي ؟
التقط يد أمه وقبلها برفق متمتمًا في ابتسامة دافئة :
_ أنا زين ياما الحمدلله متقلقيش
ثم القى نظرة على أخيه الصغير معاتبًا إياه أنه اخبرها فهز بلال رأسه بعدم حيلة ، بينما هي فارتمت عليه تعانقه بقوة وتقبله بحنو أمومي وسط بكائها القوي ومحاولاته لتهدأتها التي باتت بالفشل تقريبًا ، فصدح صوتها وهي تقول بحزن وحرقة :
_ تنقطع يده اللي مدها عليك ياولدي وآذاك .. ربنا ينتقم منه
عمران بحنو محتضنًا وجهها بين كفيه :
_ ياما أنا زين وكيف الحصان قصادك أهو .. ليه البكا ده كله
صاحت من بين بكائها بألم :
_ كيف الحصان كيف وأنت نايم على السرير إكده .. الهي ما يشوف النور ولا يرتاح اللي عمل فيك إكده يا قلب أمك
ضحك عمران مغلوبًا وجذبها لصدره بدفء يقبَّل رأسها باسمًا ويهتف متوعدًا لأخيه بمزح :
_ عاچبك إكده .. حسابك معايا بعدين يابلال
اقترب منه بلال ضاحكًا ورتب على كتف أخيه بلطف هامسًا :
_ أنا مليش صالح هي سمعتني وأنا بكلم بشار وصممت تاچي معاي .. المهم حمدلله على سلامتك ياخوي
ابتسم له عمران بحنان وتمتم :
_ الله يسلمك ياحبيب أخوك
ابتعدت إخلاص عنه وسألته بغضب واهتمام :
_ مين اللي عمل إكده فيك ياولدي ؟
عمران بهدوء تام محاولًا تغيير مجرى الحديث :
_ مش وقته دلوك ياما الحديت ده .. أبوي وعمي عرفوا ولا محدش غيرك عرف
أجابته بقوة :
_ لا عرفوا وجايين في الطريق .. أبوك اتصل بيا وأنا في الطريق وقولتله
تنهد عمران الصعداء وهو يبتسم مغلوبًا فلم يكن يريد أن يعرف الجميع ويلتفوا حوله بالغرفة جميعهم ، ولكن كيف فلا يوجد شيء يخفى على عائلته وبالأخص أمه ! ...........
***
بصباح اليوم التالي داخل الحرم الجامعي تحديدًا أمام كلية الهندسة ...
يجلس بلال فوق أحد المقاعد البعيدة عن آشعة الشمس الساخنة ويعبث بهاتفه يتفحص مواقع التواصل الاجتماعي بفتور وكأنه لا يجد وسيلة أخرى يشغل نفسه بها إلى حين بدأ محاضرته عن فن العمارة .. جذب انتباهه صوت أنثوي مرتقع فالتفت برأسه في تلقائية وسقطت عيناه على فتاة توبخ شاب لمحاولته التعرض لها وإزعاجها ، ظل صامتًا يتابع شجارهم بصمت إلى حين رأى الشاب يتمادي ويحاول جذبها من ذراعها عنوة لكي تستقل بسيارته والفتاة تصرخ به .
استقام واقفًا من مقعده وقاد خطواته السريعة تجاههم ثم جذب يد الشاب بعيدًا عن الفتاة برفق هاتفًا في حدة :
_ إيه ياكابتن هو غصب ولا إيه ما قالتلك لا !
تراجعت الفتاة فورًا للخلف ووقفت خلف بلال تلوذ به من بطش ذلك الشاب المتسكع الذي سحب يده من قبضة بلال بعنف وهتف بغضب :
_ وأنت مالك هي من بقية اهلك
هدر بلال بنبرة رجولية قوية :
_ أه اختي .. عندك مانع
ثم القى عليه نظرة متفحصة لهيئته التي لا تليق بطالب ابدًا وقال مستحقرًا :
_ أنت في كلية إيه أصلًا هو ده شكل طالب .. مين فهمك أن دي رجولة لما ترفع يدك على بت
رتب الشاب على كتف بلال وقال بنبرة تحذيرية :
_ ملكش دعوة أنت وابعد احسلك دي خطيبتي
التفت بلال برأسه للفتاة وكأنه يتأكد من تلك المعلومة فهزت رأسها بالنفي وقالت مسرعة :
_ لا كذاب أنا مش خطيبته هو دايمًا بيضايقني كدا
عاد بلال برأسه له وابتسم ساخرًا ثم قبض على ذراع الشبا يسحبه معه هاتفًا :
_ طب ما تاجي تقول الكلمتين دول في مكتب العميد إيه رأيك؟

رواية ميثاق الحرب والغفران حيث تعيش القصص. اكتشف الآن