الفصل التاسع والأربعون

518 21 0
                                    

(( ميثاق الحرب والغفران ))
_الفصل التاسع والأربعون_

التزمت الصمت بعد عباراتها وأخذت تحدق به منتظرة الرد منه على ما قالته، عيناها تلمع برجاء أن يقبل اعتذارها ويسامحها لكنه كان جامدًا وهو يتمعنها حتى رأته يرفع حاجبه ببسمة خفيفة ولهجة جادة:
_ريحي النهاردة إهنه يافريال وبكرا روحي لأمك متسبيهاش لحالها اليومين دول
انهى كلماته الغريبة واستقام واقفًا، ليتركها مكانها تحدق في الفراغ مندهشة من تصرفاته المثيرة للجنون، لكنها وثبت واقفة ولحقت به بسرعة تجذبه من ذراعه بقوة وتهتف:
_طيب ردك على كلامي وصلني وهو إنك مش هتسامحني لكن كمان مش عاوزاني خالص
ابتسم بهدوء وهو يجيبها بكل بساطة:
_هو أنا قولتلك إكده.. ده بيتك يافريال
صاحت به منفعلة بعينان دامعة:
_أنت مقولتش بس تصرفاتك ونظراتك ليا بتقول إنك معدتش عايزاني ولا بتحبني
تقوست ملامح وجهه للحدة ونظراته تحولت من الهدوء للغضب وهو يجيبها:
_أنتي عارفة زين أنا بحبك كيف ورغم كل اللي بتعمليه مقدرش اكرهك.. يعني لو في حد المفروض يقول الكلام ده فهو أنا لأن كل تصرفاتك بثبت أن أنتي اللي معدش في حب في قلبك ليا.. لو أنا كسرتك مرة يافريال فـ أنتي بتكسريني مليون مرة وبسامحك بس معدتش متحمل عدم ثقتك فيا وأنك في كل موقف بترمي اللوم عليا وتديني ضهرك وتمشي وأنا أفضل وراكي وأحاول انول رضاكي
سالت دموعها الغزيرة فوق وجنتيها لتهتف بصوت مبحوح:
_وأنا مأنكرتش غلطي وبعتذر منك أهو، بس أنت كمان راعي اللي أنا فيه وحط نفسك مكاني
جلال بعصبية:
_أنا مش هحط نفسي مكانك يافريال عشان أنا مستحيل أعمل كيف ما بتعملي
أطرقت رأسها أرضًا وانهارت في البكاء بشدة وهي تخرج الكلمات بصعوبة من بين شفتيها المرتجفة:
_على الأقل حس بيا وأن أبويا ميت وغصب عني فكرت إكده وقولتلك الكلام ده.. أنا محتچاك چاري تخدني في حضنك وتطبطب عليا لو مش عشاني عشان ابنك اللي في بطني حتى.. كنت منتظرة تقف چاري في محنتي وتعذرني لكن هملتني لحالي وبدل ما تخفف عني بتزود على وچعي
ابتسم بمرارة وهو يجيبها:
_إيه يعني بقيت أنا العفش والغلطان دلوك؟!
رمقته بيأس وقالت في صوت عاجز:
_لا أنا العفشة ياچلال حقك عليا
أنهت عباراتها واستدارت تهم بمغادرة الغرفة بأكملها لكنها توقفت بمنتصف الطريق وظهر الألم الشديد على وجهها ثم رفعت كفها تضعه فوق بطنها تصدر تأوهًا عاليًا بألم مميت، أسرع نحوها بفزع فور سماعه لصراخها وراح يلف يحتضنها من الجانب، ذراع فوق بطنها والآخر خلف ظهرها وينظر في وجهها هاتفًا بهلع:
_مالك يافريال؟
لم تجيب عليه واستمرت فقط بالتأوه المرتفع، للحظة شعرت نفسها ستفقد طفلها من فرط الألم فتحركت بمساعدته نحو الأريكة تجلس فوقها وهي مازالت تتألم بشدة فقال لها بخوف:
_يلا بينا نروح للدكتور
ردت عليه بصوت متألم وهي تهز رأسها بالنفي:
_مش قادرة اقف ياچلال والبس
لم ينتظر ثانية وهي واقفًا يتجه نحو الخزانة يجذب ملابسها بسرعة ويعود لها لكي يساعدها في ارتدائها بينما هي فقالت بصوت ضعيف وبكاء شديد:
_ولدي هيچراله حاچة ياچلال أنا خايفة قوي
تجمدت يده الممسكة بملابسها وكان سيشرع في مساعدتها على ارتدائها، بعد عباراتها تسارعت أنفاسه رعبًا ونبضات قلبه أصبحت عنيفة فترك الملابس من يده بسرعة وراح يحتضن بطنها المرتفعة بيده وهو ينحنى عليها يلثم جبهتها متمتمًا:
_متقوليش إكده أن شاء الله مفيش حاچة ساعديني بس والبسي يلا عشان نلحق الدكتور بسرعة
أغلقت عيناها ووضعت يدها فوق يده وعبراتها تستمر في الأنهمار بصمت وثواني قصيرة حتى بدأت تشعر بالألم يزول تدريجيًا بينما هو فهتف لها بصوت مرتعد:
_يلا ياحبيبتي البسي
ردت عليه بصوت خافت ومتعب:
_الألم خف شوية ياچلال الحمدلله
تنهد الصعداء براحة مرددًا خلفها " الحمدلله " ثم تابع بقلق:
_خلينا برضوا نروح للدكتور ونطمن
أمسكت بقبضته التي فوق بطنها وقالت بالنفي وهي مغلقة عيناها بضعف:
_أنا بقيت كويسة الحمدلله.. خليها الصبح اروح أنا دلوك عاوزة ارتاح
طالت نظرته المتفحصة لها يتأكد بعيناه أنها حقًا بخير ولا تحتاج لطبيب الآن، ثم لف ذراعه حولها وجذبها لصدرها وهو يلثم شعرها بعدة قبلات متتالية ويهتف بصوت مختلف عن طبيعته فقد كان مرتعدًا:
_مفيش روحة لبيت أبوكي يافريال، أكيد اللي حُصل ده بسبب عدم اهتمامك بنفسك وكنتي بتتعبي روحك هناك، ولو عاوزة تروحي لأمك هتروحي تاخدي كام ساعة وترچعي
لم تسمع ما قاله بسبب اهتمامها بالتركيز على دقات قلبه العنيفة أسفل رأسها لتبتسم وهي تهمس برقة:
_قلبك بيدق جامد!
اجفل نظره الأسفل إليها ليردف مبتسمًا بجدية:
_طبيعي ما أنتي شيبتي شعر راسي منظرك خلاني أقول خلاص هتسقطي العيل.. حرام عليكي اللي بتعمليه فيا ده
رفعت رأسها عن صدره وطالعته بحب متمتمة وهي تمسك بيده وتضعها مجددًا فوق بطنها لتتمتم:
_هي شكلها متمسكة بالدنيا وبينا كيف ما أمها متمسكة بأبوها
رفع حاجبه معجبًا بذكاء ردها لقلب الوضع لصالحها وهو يبتسم ليجيب:
_أنا مش شايف تمسك أمها بيا واصل هو فين ده!!
فغرت شفتيها بصدمة وقالت بعبوس:
_كل ده ومش متمسكة بيك.. لو مكنتش بحبك كنا اتطلقنا من زمان قوي وأنا دلوك بعتذر منك على غلطي.. أنا آسفة ياچلالي
رأت البسمة تشق طريقها نحو ثغره بعد نطقها لاسمه في النهاية بهذه الطريقة المثيرة، فلمعت عيناها وبسرعة قالت في حماس تسأله:
_خلاص سامحتني صُح؟
اخفى بسمته مجددًا وقال بجفاء مزيف وهو يهز رأسه بالنفي:
_لا.. في فرق بين خوفي عليكي أنتي وبتي وحبي ليكم وبين مسامحتي ليكي
زمن شفتيها في حزن وقالت بيأس:
_حتى بعد ما شوفتني تعبت كيف من كتر الزعل والضغط.. مش خايف اتعب تاني!
رمقها بطرف عيناه وهو يحاول إخفاء بسمته، ثم استقام واقفًا والتف لها لينحني ويحملها بين ذراعيه ويتجه بها نحو الفراش متمتمًا:
_لا مش هتتعبي تاني أن شاء الله ياحبيبتي، أنتي بس متضايقيش روحك
كانت تشيح بوجهها للجانب الآخر بعيدًا عنه من فرط غيظها بينما هو فوضعها فوق الفراش برفق شديد وجذب الغطاء فوقها يدثرها جيدًا وهو ينحنى على رأسها يقبلها بحنو متمتمًا:
_أنا اتعلمت الصبر على يدك ودلوك جه دورك تتعلميه شوية مع أن أنا مش قاسي قوي كيفك ومش هقدر اقسى عليكي كتير بس استحملي شوية يافريالي.. يلا تصبحي على خير
تابعته بدهشة وهو يتجه لخارج الغرفة فقالت له بضيق:
_رايح وين.. هتهملني لحالي ممكن اتعب تاني!
التفت لها برأسه وقال في خفوت جميل:
_لا مش ههملك متقلقيش رايح المكتب تحت اعمل كام حاچة وراچعلك
تنهدت الصعداء بعبوس بعدما انصرف واغلق الباب معه ثم تمددت بجسدها كاملًا فوق الفراش تضع رأسها فوق الوسادة وهي تشرد بعقلها الحزين تتذكر والدها الذي فارقهم...
                                   ***

رواية ميثاق الحرب والغفران حيث تعيش القصص. اكتشف الآن