الفصل الثاني والأربعون

545 21 0
                                    


((ميثاق الحرب والغفران ))
_ الفصل الثاني والأربعون _

ظلت تراقب نظراته المندهشة وتسمره مكانه دون حركة، فقط يستمر في تمعنها صامتًا، لم تتحدث والتزمت السكوت لبرهة من الوقت تنتظره أن يعود لطبيعته لكنه كما هو، فابتسمت رغمًا عنها ورفعت حاجبها بلؤم تسأله:
_مالك واقف إكده ليه؟!
على أثر عبارته بدأت تعابير وجهه تتغير ونظراته تصبح تفحصية أكثر من أنها معجبة، بينما هي فكانت تستمر في التحديق به في خبث وثقة.
رأى في عيناها التحدي، ترتدي الثوب الذي يحبه عنادًا وتحديًا وكأنها تخبره بكل وضوح قاومني أن استطعت، فمال بوجهه للجانب بعيدًا عنها وابتسم رغمًا عنه لكن بظرف لحظة كان يستعيد جفاء ملامحه ويتصرف ببرود مزيف رغم أن داخله يشتعل بنيران الرغبة، رمقها بطرف عيناه في عدم مبالاة ثم اتجه لغرفته بالداخل لتتحول هي لجمرة مشتعلة بعدما شهدت على تجاهله لها رغم ما تفعله.
كانت تصر على أسنانها بغيظ ووجها كله تلون بالأحمر القاتم من فرط استياءها، لكن العناد جعلها تتعهد لنفسها بأنها لن تتذوق مرار الهزيمة مجددًا والليلة ستنهي ذلك الخصام، مهما تطلب الأمر لفعله ستفعل بلا تردد.
هبت واقفة وتحركت ببطء نحو الغرفة وفور دخولها وجدته يبدل ملابسه فاقتربت منه ووقفت خلفه مباشرة تسأله في دلال أنثوي:
_احضرلك العشاء؟
رد عليها بجمود دون أن يلتفت لها:
_لا اكلت برا
اشتعلت غيظًا أكثر وبسرعة أسرعت وتحركت لتصبح أمام وجهه وهي تسأله بعين تطلق شرارات الشر:
_اكلت وين.. أنت متچوز عليا ياعمران؟!
كان يوليها ظهرها متعمدًا حتى لا ينظر لها ويفقد صموده المزيف، وعندما وقفت أمامه بمنظرها المثير ذلك، غرق داخل جمالها مجددًا ودون وعي كان يتأمل ملابسها بإعجاب شديد غير عابئًا بما تتهمه به الآن، بينما هي فكررت سؤالها له منفعلة وقد نسيت هدفها تمامًا وأنها بدأت تصيب منتصفه بالفعل:
_كلت وين ياعمران؟
اشاح بوجهه عنها وهو يزفر بخنق محاولًا كبح ذلك الصوت المزعج في عقله الذي يصرخ عليه أن الفرصة وصلت له على طبق من الذهب، سيكون من الأفضل له أن يتوقف عن ذلك الغضب السخيف ويستغل الفرصة حتى لا يجتاحه الندم لاحقًا.
سمعت آسيا همسه المختنق متحاشيًا النظر لها:
_بعدي من قصاد وشي
رفعت حاجبها بتعجب لكن سرعان ما عادت لطبيعتها وابتسمت بغرور وسعادة بعدما أدركت تأثيرها عليه، فتحركت عمدًا ووقفت أمام وجهها مرة أخرى هامسة ببراءة مزيفة:
_ليه ابعد؟!
رفع يده يمسح على وجهه متأففًا في انزعاج حقيقي ثم نظر لها بقوة وهتف:
_من غير ليه وغيري اللي لابساه ده مش هتأثري عليا بيه عشان تصالحيني
اتسعت ابتسامتها المتلذذة حتى ملأت وجهها كله، وكانت عينيها تخلع بوميض الانتصار والعاطفة حتى وجدها تقترب منه أكثر وترفع كفيها تحتضن بهم وجهه من وجنتيه وتهمس في غنج مفعم بالأنوثة سلب ما كان متبقي له من عقله ويحاول الحفاظ عليه:
_طب ما أنا أثرت فيك يامعلم صُح ولا أنت مش شايف روحك!
نبرتها ونظراتها ولمساتها الناعمة، الثلاثة كانوا أكثر من اللازم عليه، حيث سكن تمامًا وغاص داخل سحر عينيها، أما هي فرأته هادئًا وقد تحول الغضب لهيام وشعرت به يذوب تمامًا بين يديها، فاستغلت فرصة غيابه عن الوعي وابعدت كفيها عن وجنتيه ثم لفتهم حول رقبته ومالت عليه تعانقه وهي تدفن رقبتها بين ثنايا رقبته تطلق أنفاسها الدافئة لتضرب بشرته الخشنة فتزيد من ذوبانه وانهياره التام أمام جمالها الصارخ ورغبته وأعجابه بها، ثم همست في أذنه بصوت منخفض ورقيق:
_مش كفاية عاد ولا إيه يامعلم، ميبقاش قلبك قاسي قوي إكده
اغمض عينيها بقوة يتمالك سيل مشاعره الجارف، لكنه فشل وانهزم أمامه للحظة حيث رفع ذراعه يلفه حول خصرها ويضمها إليه أكثر بإحكام حتى يتأكد من عدم ابتعادها مجددًا، ويهمس لها بلوعة وصوت ذائب:
_أنتي بتعملي إيه!!!
ابتسمت بحب وابعدت رأسها عن رقبته لتنظر لوجهه وهي تجيبه بملاطفة جميلة:
_بصالحك!
خرج صوته المنصهر ونظراته الهائمة:
_قصدك بتسحريلي!
قهقهت بدلال ثم زمت شفتيها للأمام وردت بثقة:
_وإيه المشكلة.. طالما النتيچة هتكون واحدة فمفيهاش حاچة لما اسحرك بچمالي
نظراته الرجولية الثاقبة كانت الأكثر خطورة من محاولاتها في نيل رضاه، وكانت تخشى من نفسها أن تسقط بين ذراعيه مستسلمة وهي تستمر في أغراقه بعبارات العشق والهيام، كلاهما يلعبان على نقاط الضعف وهاهو بدأ يشن هجومه المفضل حيث رفع يده وبأناملها بداية من شعرها يمر بلمساته الخطرة على طول وجهها حتى وصل لذقنها فأغلقت عيناها وللحظة ظنت أن الثانية في طريقها، لكنه انحنى وطبع قبلة دافئة على وجنتها وهمس في أذنها بحنو ونبرة لا تبدو غاضبة:
_مش هنكر واقول أنك مش بتسحريني ياغزال.. أنتي بتسرقي عقلي مني كيف ما عملتي دلوك وبتخليني مش على بعضي كيف المراهقين، بس اللي أنتي عملتيه مكنش غلط عادي واللي قولتيه ضايقني أكتر، اعتبري غضبي دلوك معدش موچود بس لساتني مضايق منك
ظهر العبوس واليأس على ملامحها وهي تسأله في ضيق:
_شوفت أنك طلعت قاسي اكتر مني ومش قادر تسامحني رغم أني ندمت وعرفت غلطي وبحاول اعتذر منك بكل الطرق
ابتسم في دفء لكن سرعان ما لمعت عيناه بوميض جريء وراح يضغط بذراعه على خصرها أكثر ويهمس في أذنها مجددًا ضاحكًا:
_صدقيني أنتي لو فضلتي قصادي بالبتاع اللي لابساه ده ثانية كمان هتقولي ياريتني ما صالحتك
اتسعت عيناها بصدمة وابتعدت عنه بسرعة في خجل وهي تبتسم وتقول بخفوت واستسلام:
_لا وعلى إيه يعني احنا هنهرب من بعض وين مسيرك هتنسى ومش هيبقى في ضيق ولا زعل بينا أن شاء الله
اتسعت بسمة ثغره أكثر وانحنى عليها يلثم جبهتها متمتمًا في خبث:
_بظبط هنهرب من بعض وين يعني!
انهى عبارته وسار مبتعدًا تجاه الحمام وهو يهتف بجدية:
_بكرا معزوم على فرح واحد صاحبي لو حابة تروحي معايا ابقي چهزي نفسك
ضيقت عيناها باستغراب لكن سرعان ارتفعت بسمة النصر والفرحة لوجهها فور اختفائه داخل الحمام، وتحركت باتجاه المرآة تتأمل مظهرها الأنثوي في ثقة وتقول ضاحكة بمرح:
_طلعتي مش ساهلة صُح يابت يا آسيا!
                                       ***
داخل منزل ابراهيم الصاوي.....
فتحت عفاف عيناها من النوم على صوت رنين الهاتف الصاخب، التفتت حولها تبحث بنظرها عن مكان الهاتف فالتقطه نظرها على المنضدة المجاورة لفراشهم وقد كان هاتف ابراهيم فمدت يدها وجذبته تنوي إغلاقه لكنها رأت اسم المتصل بحرفين فقط، رفعت أناملها تفرك عيناها تزيح الخمول المسيطر عليها وهي تغضن حاجبيها في حيرة، عندما التفتت بجوارها في الفراش لم تجد ابراهيم، بدلًا من أن تغلق الهاتف أجابت على المتصل إرضاء لفضولها وهي تهتف:
_الو
التزمت داليا الصمت ولم تكن تعرف هل هي زوجته الأولى أم الثانية، كانت تستمع لها وهب تستمر في تكرار كلمة " الو " وتطلب من المتصل التحدث لكن الصمت كان الرد الوحيد، لكن فجأة سمعت عفاف الرد من داليا وهي ترد عليها بقوة:
_ابراهيم فين؟
اتسعت عيني عفاف واشتعلت بنيران الغضب عندما اتضح لها أنها امرأة وتسأل عن زوجها بكل ثقة، فصاحت به في سخط:
_مين أنتي وبتسألي على چوزي ليه؟!
كان الغضب قد تملك داليا أيضًا ولذلك تعمدت الرد على زوجته عنادًا به فهي لن تستمر في المعاناة وحدها هي وابنتها وهو يستمر في الكذب واخفائهم عن عائلته.
ردت على عفاف بلهجة حادة:
_شكله مش فاضي لما يفضى خليه يرجع يكلمني ضروري وابقي أسأليه أنا مين وهو هيرد عليكي
كانت ستصرخ عفاف منفعلة بها لكن صوت ابراهيم من خلفها وهو يسألها بحزم:
_بتكلمي مين ياعفاف
انزلت الهاتف من على أذنها والتفتت له تصرخ بعصبية وعينان ملتهبة:
_أنت اللي المفروض تقولي.. مين البحراوية دي اللي متصلة بيك في نصاص الليالي وبتسأل عليك
احتقن وجه ابراهيم غيظًا عندما فهم أن زوجته على الهاتف ويبدو أنها تعمدت إثارة الجدل والشك بمكالمتها لعفاف، فاندفع نحو عفاف وجذب الهاتف من يدها بعنف ثم أغلق الاتصال ونظر لها بغضب يهتف:
_وطي حسك ياولية چرا نسيتي روحك ولا إيه!
هبت عفاف واقفة وهي تصيح به منفعلة:
_آه نسيتها يا ابراهيم وهاخد روحك بيدي لو طلعت بتخوني صُح
صرخ بها بصوتها الرجولي الغليظ منفعلًا:
_أخونك إيه أنتي اتخبلتي في نافوخك ولا إيه.. اوزني كلامك الأول قبل ما تقوليه
عقدت ذراعيها أسفل صدرها وهتفت بنبرة مرتفعة وهي تغلي من فرط الغيظ:
_لما مش بتخوني تبقى مين دي و ليه بتسأل عنك وبتتصل في الوقت ده!!
هدأت حدة ملامح ابراهيم وظهر الهدوء المريب عليه وهو يفكر في رد مناسب دون أن يخبرها بالحقيقة ثم قال بعد برهة من الوقت في ثبات انفعال تام وغريب:
_دي بت عمي اللي في القاهرة وحكيتلك عنها إني بساعدها في علاج ولدها العيان
ضحكت عفاف بسخرية وقالت في عدم اقتناع وعصبية أشد:
_هو أنت شايفني غبية يا ابراهيم ولا إيه عشان تضحك عليا بالكلمتين دول
وجدته يحدثها بسكون تام وهدوء أعصاب جعلها تستغربه فقد بدا لها وكأنه واثق من نفسه تمامًا وأنه على حق ولا يفعل شيء خطأ.
لم تصدقه لكنها تابعت بعصبية شديد ونبرة صوت منفخضة قليلًا عن السابق:
_وهي بت عمك دي تتصل في الليالي إكده عليك وتقولي اسأليه هو أنا مين
ابتعد ابراهيم عن نظر عفاف وسار لخطواته تجاه الحمام وهو يقول ببرود مريبة ومستفز:
_تلاقيها خافت من صوتك وزعيقك فيها
عفاف بانفعال هادر ونظرات تضمر السر في ثناياه:
_ابراهيم أنا مش مصدقاك ولا مصدقة الحكاية الفارغة اللي بتقولها دي
توقف عند باب الحمام والتفت لها يرمقها في غضب ويقول بلهجة صارمة كلها ثقة:
_عنك ما صدقتي أنا قولتلك الحقيقة ومين دي.. عاوزة تصدقي صدقي مش عاوزة عنك ما صدقتي، انا مش هخاف من الحريم عشان اكذب لو بخونك هقولك طوالي واخبطي راسك في اتخن حيطة
انهى عبارته القاسية وهو يفتح الباب ويدخل الحمام ثم يغلق الباب خلفه ويترك عفاف تحدق في أثره بصدمة واستياء شديد وسط همسها المتوعد له:
_ماشي يا ابراهيم أنا هعرف إذا كنت بتخوني صُح ولا لا ولو طلع شكي في محله يبقى اترحم على نفسك

رواية ميثاق الحرب والغفران حيث تعيش القصص. اكتشف الآن