الفصل السادس والثلاثون

680 25 0
                                    

(( ميثاق الحرب والغفران ))
_الفصل السادس والثلاثون_

خرجت فريال  من سيارة الأجرة أمام المستشفى ثم قادت خطواتها للداخل شبه ركضًا، وبينما كانت في طريقها تائهة لا تعرف وجهتها أوقفت أحد الممرضين تسأله عن رقم الغرفة والطابق ثم أسرعت تقصد الطابق الذي أخبرها به، قضت الطريق كله حتى وصلت للمستشفى وهي لا تتوقف عن البكاء وكلما تتذكر ما أخرجته من بين ملابسه داخل غرفة منيرة الرعب يتملكها خشية من أن يصاب بمكروه، تلك الشيطان قد تكون حاولت أذيته وها هو الآن بين زوايا المستشفيات عليلًا.

توقفت بالطابق الذي أخبرها به الممرض، ثم تحركت بخطواتها المتعثرة وهي تتلفت حولها بحثًا عن علي وعندما سقط نظرها عليه ورأته أسرعت نحوه شبه ركضًا، استقام علي واقفًا فور رؤيته لها وانتظر وصولها له ليهتف لها بخفوت قبل أن تطرح هي سؤالها المتلهف والمرتعد:
_اهدى يافريال الحمدلله هو كويس دلوك مفهوش حاچة
سألته بأنفاس لاهثة وعينان دامعة:
_إيه اللي حصل ياعلي؟
تنهد على الصعداء وقال بوجه عابس:
_تعب مرة واحدة من غير أي سبب ووقع والدكتور قال أنها كانت بداية ذبحة صدرية بس الحمدلله لحقناها
رفعت فريال كفها لفمها تكتم شهقتها المرتفعة والعبرات انهمرت من مقلتيها غزيرة، أحست بقلبها يتمزق خوفًا وحزنًا عليه وقدميها لا تقوي على حملها، اختل توازنها وكادت أن تسقط لولا علي الذي امسك بذراعها بسرعة يعيد توازنها،فرفعت عينيها العاجزة له تسأله:
_في انهي أوضة؟
أشار لها بعيناه على الغرفة المقابلة لهم فتحركت بسرعة وتلهف نحو الغرفة، فتحت الباب ودخلت فوجدته متسطح على الفراش ويحدث في الفراغ أمامه بشرود، لكنه التفت تجاه الباب فور سماعه لصوته وعندما رآها طالت نظراته المتعبة لوجهها الغارق بدموعه، وباللحظة التالية كانت تهرول نحوه ودون تفكير ترتمي بين ذراعيه تعانقه بقوة وهي تنهار باكية وتشهق بعنف ينتفض جسدها نفض على أثره، رفع ذراعيه حولها يحاوطها ويضمها إليه أكثر وهو يدفن وجهه بين ثنايا رقبتها يستنشق عبيرها مغمضًا عيناه، تمنى أن يتوقف الزمن بتلك اللحظة ولا تبتعد عنه أبدًا، فوجودها وقربها هو وحده دوائه من أي مرض.
دام عناقهم لدقائق وهي لا تتوقف عن البكاء حتى سمعت صوته الضعيف يتمتم:
_أنا كويس يافريال.. اهدي وبزيادة بكا عاد
ابتعدت عنه ببطء وهي ترفع أناملها تمسح عبراتها وتتمتم بنبرة حاقدة ونظرات متوعدة:
_كله من تحت راس العقربة دي
سألها جلال باستغراب:
_مين دي؟!
تنهدت فريال بقوة محاول تمالك أعصابها وأصحابه بنبرة حاولت إظهارها طبيعية:
_متشغلش بالك دلوك بالكلام ده.. المهم أنت كويس في حاچة تعباك؟
مسح على ظهر كفها بلطف وهو يهز رأسه بالنفي فعادت هي تسأله باهتمام وقلق:
_الدكتور قالك إيه طيب؟
جلال بخفوت ونبرة عادية:
_قال أهم حاچة ابعد عن العصبية والزعل الفترة الچاية عشان ميتكررش تاني
هتفت فريال بترقب ونظرة ثاقبة:
_طيب أنت كنت مضايق أو حاسس بتعب قبل ما ده يُحصل؟
ضيق عيناه بتعجب وقال مبتسمًا:
_في إيه يافريال إيه الأسئلة دي!!.. لا مكنتش تعبان أنا مرة واحدة تعبت معرفش إيه اللي چرا
اشتعلت عين فريال بالغضب والغيظ بعدما توقعت أن منيرة هي المتسببة في مرضه والحمدلله أنه لم يحدث له شيء وإلا كان الآن ضمن الأموات.
أعادت نظرها له فوجدته اغمض عينيه ويستريح، تمعنته مطولًا بحنو ودفء ثم مدت يدها وامسكت بيده ليحتضن هو بدوره يدها بين كفه العريض ويغلق عليه وهو مازال مغمضًا عينيه.
                                    ***
تابع ابراهيم زوجته بعينيه وهي تسير نحوه حاملة كوب الشاي الخاص به ثم تنحني على المنضدة لتضعه أمامه ، وتنتصب واقفة مجددًا لتقترب منه وتجلس بجواره هامسة بعبوس ملحوظ فوق معالمها:
_ ماشي تاني يا ابراهيم
ابتسم لها بحنو ثم أمسك بيدها في قوة يتمتم:
_معلش يا داليا النهاردة مينفعش اقعد معايا شغل مهم
تنهدن الصعداء مطولًا بخنق لكنها التزمت الصمت ولم تعترض، لكنه انتبه على صوت ابنته الصغيرة وهي تركض نحوه وبيدها أوراق المدرسة خاصتها وتهتف:
_بص يابابا المس ادتني عشرة من عشرة في الامتحان
نقل نظرة بين ورق الامتحانات وكلما يقرأ الدرجة على ورقة منهم يجدها النهائية فابتسم لها بحب وانحنى على رأسها يلثم شعرها بعدة قبلات متتالية وهو يهتف لها مشجعًا:
_چدعة بتي.. ربنا يحفظك ياحبيبة أبوكي، اختك فريال كانت شاطرة كيفك إكده وهي صغيرة
نقلت الصغيرة نظرها بين أمها وأبيها ثم سألته بحيرة:
_طيب هي فين ليه مش بتيجي تشوفني يابابا
مسح على شعرها بلطف متمتمًا:
_هتاچي ياحبيبتي هتاچي
التفتت داليا للجهة الأخرى وهي تلوي فمها ساخرة على عبارة زوجها الأخيرة والخنق يعتلي ملامحها، بينما ابنتها الصغيرة فصعدت على الأريكة تجلس بجوار أبيها تحديدًا بين ذراعيه،  فنظرت لها مبتسمة بحنو أمومي ثم تحدثت لابراهيم بجدية:
_أوعى تكون نسيت إني قولتلك أننا هنسافر بكرا القاهرة
تقوست ملامحه بالانزعاج وقال بحدة:
_قاهرة إيه.. هو وقته الكلام ده دلوك يا داليا
داليا بنظرة ثاقبة وقوية:
_ماما تعبانة ولازم اروح اطمن عليها واشوفها
طالت نظرته القوية لها للحظات قبل أن يشيح بوجهه عنها وهو يتأفف بعنف ملتزمًا الصمت كدليل على استسلامه وموافقته، بينما هي فاستقامت واقفة واتجهت للمطبخ لكي تقوم بتحضير وجبة العشاء لهم حتى يأكل معهم قبل رحيله مجددًا.
                                     ***
بالقاهرة داخل منزل عمران.....
دخل عمران الغرفة بعدما انتهى من حمامه الدافيء فوجدها جالسة فوق الفراش وقد بدلت ملابسها بالفعل كما طلب منها، القى عليها نظرة مقتضبة ثم اتجه نحو الخزانة يخرج منها منشفة صغيرة يجفف بها شعره من المياه، وهي كانت تتابعه بتركيز وتتفحص ملامح وجهه المنزعجة وهي تضحك بصمت حتى لا يسمعها.
لحظات معدودة حتى انتهى من تجفيف شعره ثم استدار واقترب من الفراش ليتسطح بجوارها على ظهره رافعًا ذراعه فوق عينيه ينوي النوم، فتمعنته لثواني وهي مبتسمة قبل أن تهمس:
_عمران!
أجابها بامتعاض:
_خير
تنحنحت برقة وهي تحاول كتم ضحكتها ثم سألته بتعجب:
_أنت هتنام؟
عمران ببرود دون أن ينظر لها:
_كلك نظر
كانت ستنطلق منها ضحكة مرتفعة لكنها كتمت على فمها بيدها بسرعة، واستغرقت لحظات حتى تمالكت نفسها مرة أخرى لتبعد كفها عن فمها وتوم شفتيها بعبوس وهي تسأله في حزن متصنع:
_طيب أنت متعصب مني وبترد عليا من غير نفس إكده ليه؟.. أنا عملت إيه ضايقك مني!!
تجاهل سؤالها ولم يجيبها فانحنت عليه وهزته في كتفه برفق متمتمة:
_عمران أنا بكلمك رد عليا!
رفع ذراعه عن عينيه والتفت لها يرمقها بعين مشتعلة، اضطربت من نظرته وعادت بظهرها للخلف في وجه تعلوه قسمات التوتر بينما هو فهتف بصوت خشن:
_نامي يا آسيا أنا مش ناقص صداع ووجع دماغ
انهى عبارته واستدار في الفراش يوليها ظهره يكمل نومه، بينما هي فرمقته بغيظ وهذه المرة انزعجت حقًا لكنها أيضًا لم تستسلم وبدهاء وذكاء شيطاني اخرجت صوتها مبحوحًا وكأنها على وشك البكاء وهي تلقي بسهمها بمنتصف الهدف تمامًا:
_يعني أنا هصدعك عشان زهقانة ومش چايلي نوم وعاوزة اقعد معاك شوية، ما أنا لو مكنش ده حالي كنت قومت عملت أي حاچة وسليت نفسي
مسح على وجهه متأففًا ثم استقام جالسًا وهو يلتفت لها ويقول بنبرة متحشرجة:
_روحي كملي الفيلم اللي كنتي بتسمعيه، أنا تعبان وعاوز أنام
كانت ستبتسم لكنها تمالكت نفسها وردت عليه بيأس:
_لا أنت مش تعبان.. لو كنت تعبان مكنتش قولتلي نعمل الجلسة دلوك
رفع حاجبه على ردها ثم أردف بنظرة مغتاظة وصوت رجولي غريب:
_وأنتي ماشاء الله شايفك فوقتي وبقيتي كيف الحصان بعد ما كنتي من شوية بتقوليلي تعبانة.. إيه خفيتي دلوك؟
فشلت في كبح ابتسامتها أكثر من ذلك حيث استقرت نظراتها الماكرة على خاصته وهي تضحك وتسأله بصوت أقرب لفحيح الأفعى:
_وأنت إيه اللي مضايقك للدرچة دي؟!
اختفى الانزعاج من على صفحة وجهه وحل محله اللؤم وهو يتجول بنظراته على تفاصيل وجهها كله، في نظراتهم متعة وخبث يتبادلونها بين بعضهم البعض، ليخرج صوته الرجولي المميز أخيرًا وهو يهمس لها مبتسمًا:
_أنا فاهم زين اللي بتحاولي تعمليه.. بلاش، أنتي بتلعبي بنار لسعتها وحشة قوي
ضحكت بصمت وعينان تفيض قوة وحبًا لتجيبه بخفوت شديد وثقة:
_بس أنا شايفة أن معدش في نار وفي لوح تلچ بيدوب بالبطيء
انطلقت ضحكته الرجولية وهو يقهقه بقوة على تلميحاتها الخبيثة، ورغم انزعاجه منها إلا أنها نجحت في امتصاص بركانه بكل بساطة، فغمز لها وهو يبتسم بلؤم:
_طيب خدي بالك احسن السحر ينقلب على الساحر
اتسعت ابتسامته وهي ترمقه رافعة حاجبها بغطرسة، ثم رفعت كفها بخبث وذكاء تضعه فوق صدره وتربت عليه مرتين برقة وهي تهمس بدلال أنثوي:
_تصبح على خير يامعلم
ثم سحبت يدها ببطء وتمددت على الفراش توليه ظهرها، لتتركه وهي تعلم جيدًا الضجيج الذي خلقته في صدره ونفسه بحركتها الأنثوية الذكية، بينما هو فأغلق عيناه وهو يضغط على شفاه محاولًا الثبات حتى لا ينهار أمام فيض مشاعره ونيران صدره الملتهب.
                                      ***
داخل منزل خليل صفوان.....
فور دخول جلال من الباب هرولت جليلة نحوه مزعورة وهي تهتف بعينان دامعة:
_ولدي مالك ياحبيبي إيه اللي جرالك؟!
انحنى جلال على رأس أمه مقبلًا إياها بحنو وهو يتمتم:
_مفيس حاچة ياما متقلقيش شوية تعب وراحوا لحالهم الحمدلله
ألقت منيرة نظرة شيطانية على فريال التي كانت تقف خلفه، وعلى الرغم من وجود الجميع اقتربت من جلال وعانقته بشدة وهي تبكي بخوف وحزن مزيف:
_الحمدلله أنك بخير، خوفت قوي عليك ياچلال
التهب صدر فريال بنيران الغل والغيرة، وأخذت تحدق في منيرة بنظرات متوعدة كلها نقم بينما الأخرى فكانت تقابل ثوران فريال ببرود نظراتها المتشفية وعيناها الضاحكة.
أبعدها جلال عنه ببطء وهو يهتف متنهدًا بخنق ملحوظ:
_أنا كويس يامنيرة
اقترب الجد حمزة من جلال وهمس في أذنه باهتمام ونبرة رجولية حادة:
_اطلع ريح فوق عشان المأذون على وصول وبعدين نبقى نتكلم وتقولي إيه اللي چرا وتعبت ليه
هز رأسه بالموافقة لجده مجيبًا:
_تمام ياچدي
قاد جلال خطواته نحو الدرج فلحقت به منيرة مسرعة، وسط نظرات فريال النارية لها وعندما التفتت للجانب وسقط نظرها على وجه جليلة رأتها تبتسم بخبث وتشفي، فاندفعت فريال نحوها ثائرة وهمست في أذنها بغضب:
_أنتي أول واحدة هتندمي لما تكتشفي حقيقة الشيطانة اللي حطتيها وسيطنا وچار ولدك، احمدي ربك أنه رچع سالم الحمدلله ومجرلهوش حاچة
اتسعت عين جليلة بدهشة امتزجت بحيرتها من غموض كلماتها وتملحياتها الغير مفهومة، بينما فريال فتركتها واتجهت للأعلى تلحق بمنيرة قبل أن تصل لزوجها، اوقفتها بمنتصف درج الطابق الثاني وجذبتها من ذراعها ثم دفعتها فاصطدم ظهرها بالحائط واصطدرت تأوهًا عاليًا نسبيًا وهي تصيح بفريال:
_اتجنيتي في نافوخك ولا إيه يافريال!
اقتربت منها فريال وحاصرتها بينها والحائط وهي تقبض على ذراعها بعنف توجه لها تهديداتها المخيفة:
_مش عاوزة المحك چار چلال واصل، أنتي أصلًا أيامك الأخيرة في البيت ده فعديها على خير
قهقهت بقوة ثم ردت على فريال ببرود ساخر:
_هو چلال ده مش چوزي برضوا، هتمنعيني مقربش منه كيف عاد، بعدين أنتي بتخرفي يا فريال.. أيام أخيرة إيه صدقيني أنا لو عاوزة چلال يرميكي برا البيت في يوم وليلة هعملها
ابتسمت لها شزرًا وقالت باقتناع ساخر:
_صُح عندك حق ما أنتي مفيش حاچة بتغلب عليكي ولا بتوقف قصادك دلوك.. عمومًا أنا نبهت عليكي وحذرتك
طالت نظرات منيرة القاتلة لها، ثم تجولت بعينها على طول جسد فريال حتى وقفت عند بطنها تتمعنها للحظات قبل أن تقول لها بشر ينبض داخل مقلتيها:
_أنا لو مكانك أخاف على عيلي اللي في بطني ومتكلمش إكده ولا اهدد بقلب جامد
رغم أن العرب تسلل لقلب فريال إلا أنها أبت إظهاره وبعينان مظلمة وكأنها فقدت النظر راحت تقبض على رقبة منيرة تخنقها وهي تهتف لها:
_لو فكرتي تأذي عيالي هاخد روحك بيدي يامنيرة ومفيش حاچة هترحمك من يدي
بتلك اللحظة كان جلال أدرك أنه نسى هاتفه بالسيارة فاستدار وعاد يهبط الدرج مجددًا يقود خطواته للأسفل لكي يذهب لسيارته، لكنه تسمر بالطابق الثاني عندما رأى فريال وهي تخنق منيرة فأسرع نحوها يصيح بها:
_فـريـال
أفلت منيرة من بين قبضتي فريال بصعوبة التي كانت لا ترى أمامها من فرط غضبها وراح يصرخ بها منفعلًا:
_إيه اللي بتعمليه ده!
تحدثت منيرة وهي تبكي بزيف تتهم فريال:
_شافتني طالعة وراك ياچلال ومن كتر غيرتها حاولت تمنعني ولما قولتلها مش هتقدري تعملي حاچة قالتلي هقتلك وخنقتني كيف ما شوفت
ألقى جلال نظرة مشتعلة على فريال ثم عاد لمنيرة وهتف لها بحنو:
_أنتي كويسة؟
هزت رأسها بالموافقة وهي تبتسم برقة فتابع جلال بجدية:
_طيب اطلعي يلا على اوضتك
ابتسمت وسألته بمكر:
_هتاچي ورايا؟
جلال بحدة:
_قولت اطلعي يامنيرة على اوضتك
امتثلت لأوامره وصعدت الدرج تقصد غرفتها بالطابق الثالث، بينما فريال فرمقته بخزي وقالت في سخط:
_اطلع لها مهو علاچ السم بيكون من السم نفسه، أنا غلطانة أني شايلة همك بعد إكده هاخد عيالي وامشي واسيبها تعمل فيك اللي تعمله مليش دعوة
قبض على ذراعها وجذبها معه للأعلى نحو غرفتهم وسط مقاومتها له ومحاولاتها للتملص من قبضته لكن دون جدوى، وفور وصولهم للغرفة دفعها للداخل وأغلق الباب خلفه ثم صاح بها باستياء شديد:
_لو نسيتي كلامنا الصبح افكرك بيه تاني يافريال.. كيف ما أنتي قولتي أن كل حاچة خلصت بينا ومعدتيش بتحبيني أنا كمان قولتلك أني معدتش عاوز حبك، واللي مخلينا مكملين مع بعض بس هو عيالنا.. فبلاش تمثلي دور الغيرة وتعملي مشاكل من مفيش وأنا وأنتي عارفين زين أنك مبتحبنيش أنتي بس كرامتك بتاكلك عشان اتچوزت عليكي
تلألأت عبرات القهر في عينيها وهي تردد عبارته بصيغة السؤال:
_أنا اللي بقيت بتاعت المشاكل ياچلال؟!!
صابها ألم شديد في بطنها بتلك اللحظة جعلها تميل للأمام ممسكة ببطنها وهي تتأوه، فهرول نحوها مزعورًا يضع يده فوق بطنها ويسندها هاتفًا بخوف:
_مالك؟!
دفعته بعيدًا عنها وهي تصرخ به باكية:
_بعيد عني، روح للشيطانة بتاعتك ملكش صالح بيا
احكم قبضته عليها وهو يهتف بغضب:
_حسك ميعلاش كفياكي صراخ، بعدين اسيبك كيف هو مش اللي في بطنك ده ولدي، تعالي ارتاحي على السرير واهدي
سارت معه باتجاه الفراش وهي تتمتم بصوت خافت:
_اممم ولدك مهو لولاه مكنتش هتهتم تبص في وشي ولا تسألني مالك
تجاهل كلماتها رغم انزعاجه وغيظه منها، ثم ساعدها في التسطح على الفراش وقال لها بنبرة حادة خالية من أي مشاعر:
_هروح اچبلك عصير وحاچة تاكليها يمكن تسندك
أشاحت بوجهها للجهة الأخرى تأبى النظر إليه، بينما هو فغادر الغرفة وفور خروجه توقف واستند على الحائط بجوار الباب واليد الأخرى فوق صدره تحديدًا عنده قلبه بعدما شعر بألم شديد يجتاحه، فحاول أخذ أنفاسه وهو يزفره ببطء محاولًا البقاء هادئًا كما أمره الطبيب حتى لا ينتكس مرة أخرى خلال هذه الفترة.
                                      ***                  
كان منصور على الطاولة الكبيرة بمنتصف الصالة وبجواره علي وجلال وعلى الجهة المقابلة كان المأذون وبجواره سمير، كان جميع الرجال يتمالكون افنعالتتهم بصعوبة حتى لا يقتلوا ذلك الوغد الجالس أمامهم والذي سيسلمون له ابنتهم رغمًا عنهم فقط حفاظًا على شرفهم وسمعتهم.
بدأ المأذون مراسم الزواج الشرعية وبتلك اللحظات كانت خلود تنزل الدرج مع أمها وعندما رأت عشقيها يجلس معهم حول طاولة الزواج ويردد خلف المأذون ما يمليه عليه شعرت بالسعادة تغمرها أنه سينقذها من بين براثن عائلتها، لكن سرعان ما تملك منها الرعب عندما رأت نظرات أبيه القاتلة لها فتشبثت بذراع أمها وأكملت معها نزول الدرج حتى وصلت نحو المقاعد وجلست تراقب مراسم زواجها محاولة عدم النظر لوجوه نساء العائلة وهم يرمقونها باشمئزاز وغضب، أما الرجال فكانوا يتحاشون النظر إليها عمدًا حتى لا يفقدوا سيطرتهم على نفسهم.
دقائق طويلة نسبيًا وانهى المأذون المراسم بتنهئته للعروسان ثم استقام واقفًا وصافح الرجال مودعًا أياهم قبل الرحيل، فور انصراف المأذون صاح منصور بغضب دون أن ينظر لابنته:
_شنطة خلجاتها وين يا إنصاف
أشارت بيدها على الحقيبة وعيناها غارقة بالدموع فنظر منصور لسمير وهتف بغضب:
_خدها وغوروا من إهنه قبل ما ارتكب چريمة فيكم احنا معدش عندنا بنات
رمق سمير خلود بشر وكأنه يتوعد لها، بينما علي فاندفع نحوه وهو يصرخ به:
_سمعت اللي قولناه ولا اقولهولك بطريقتي يمكن تفهم اصلك مبتفهمش غير بيها
امسك جلال به يمنعه وهو يهتف له بحزم:
_علي اهدي مش عاوزين فضايح
انحنت خلود تحمل حقيبة ملابسها وقبل أن تتحرك انحنت عليها أمها تعاملها وهي تبكي بحرقة، فاندفع نحوها منصور يجذبخا بعنف صارخًا بها:
_بتعملي إيه ياولية.. انسيها بتك ماتتك خلاص وعزاها دلوك هتطلع ومش هترچع تاني
انهارت إنصاف باكية بقوة أما خلود فقد سألت دموعها الغزيرة فوق وجنتيها دون أن تقوي على رفع عيناها في وجوههم.
اندفع سمير نحو خلود يجذبها من ذراعها للخارج بعنف دون أن يتفوه ببنت شفة، تعجبت هي من قسوته معها لكن لم تهتم كثيرًا، قبل أن تخطو قدمها عتبة المنزل استوقفتها عبارة زوجة عمها جليلة وهي تقول بتشفي وتجبر:
_ربنا خد حق بتي واديكي بتطلعي من البيت من دون رچعة بنفس الطريقة اللي خلتينا نطردها بيها
رمقتها خلود بغل وهتفت:
_ولو رچع بيا الزمن كنت هعملها تاني عشان بتك شيطان مش ملاك كيف ما فاكرينها
التهبت عين جليلة وكانت على وشك أن تنقض عليها لكن فريال أمسكت بها وهي تهمس لها بضيق:
_متسمعيش ليها يامرت عمي سبيها أصلًا متستاهلهش تقللي من روحك عشانها
جذبها سمير من يدها بعنف وهو يصرخ بها:
_امشي قصادي **** اليوم اللي عرفتك فيه حتى
ابتسمت جليلة بتشفي بعدما سمعت عبارة زوجها لها ونفس التشفي كان بعين فريال وجلال، أما أنصاف فأخذت تصرخ وتبكي مولولة وهي تتوسل منصور:
_يامنصور هتسيبله بتك كيف مش خايف يعملها حاچة مش شايفه بيعاملها كيف
استدار منصور وقال بقسوة وهو يتجه نحو الدرج:
_ياكش يقتلها ويريحنا منها واصل
جلست إنصاف على أقرب مقعد لها وهي مستمرة في نحيبها وصراخها على ابنتها، بينما الجميع فقد تركها وذهبوا لغرفهم وأعمالهم تاركين إياها وحيدة أحزانها على ابنتها المخطئة...
                                    ***
بتمام الساعة الرابعة فجرًا.......
فتحت آسيا عيناها بخمول فرأت عمران يقف فوق المصلاة يصلي صلاة الفجر، ابتسمت بحب له ثم اعتدلت في نومتها جالسة وظلت تتابعه حتى انتهي وسلم فقالت له:
_تقبل الله
أجابها بخفوت:
_منا ومنكم أن شاء الله
آسيا بعبوس بسيط:
_ليه مصحتنيش اصلي معاك
ابتسم لها ورد بجدية:
_ادينا فيها أهو قومي يلا اتوضي وصلي قبل ما الضي يطلع
أماءت له بالإيجاب وابعدت الغطاء عن جسدها ثم اعتدلت ومدت يدها تجذب مقعدها فوجدته هو يقربه لها وينحني عليها يحملها ثم يضعها فوق المقعد ويتحرك بها حتى الحمام ثم يقول بحنو بعد أن وصلوا لباب الحمام:
_لو احتچتي حاچة اندهي عليا
هزت رأسها له في نظرات مغرمة ثم دخلت للحمام وأغلقت الباب، استغرقت تقريبًا عشر دقائق بالداخل حتى خرجت بعدما انتهت من الوضوء واتجهت نحو الخزانة تخرج حجابها وملابس مناسبة للصلاة، ثم بدأت في أداء فريضتها وسط نظراته الثابتة عليها لا يزيحها بل يتأملها بشرود.
انتهت من صلاتها ثم نزعت عنها الملابس التي ارتدتها من أجل الصلاة واقتربت منه بمقعدها تسأله بفضول حقيقي:
_عمران هو أنت روحت فين النهاردة، وأنت قولتلي أن بشار هو اللي مسك الشغل منك الفترة دي؟
عمران بنبرة عادية وهدوء تام:
_كان معايا كام حاچة خلصتها ورچعت
سألته بجدية وفضول أقوى:
_حاچة إيه؟
رفع حاجبه مستنكرًا اسألتها فأسرعت هي بسرعة تبرر اسألتها بعدما رأت تبدل ملامحه للشدة:
_أنا مش بستچوبك ولا بحقق معاك طبعًا بس حابة اعرف يعني
لاحت الابتسامة الساحرة على شفتيه وهو يجيبها بنظرة ثاقبة:
_حابة تعرفي ليه عاد؟!
تنحنحت بتوتر ثم هتفت بانزعاج تام:
_خلاص ياعمران مش عاوزة أعرف كنت حابة افتح موضوع وخلاص
قهقه بخفة عليها بينما هي فالتزمت الصمت لبرهة من الوقت تارة تنظر له وتارة تشيح بنظرها عنها، في توتر ملحوظ كلما تفكر فيما ستطرحه عليه، لكنها بالنهاية حسمت قرارها وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن تتنحنح بارتباك وتسأله:
_عمران احنا بكرا الصبح رايحين المستشفى للدكتور وممكن منلحقش نعمل الجلسة قبل ما نروح، إيه رأيك نعملها دلوقتي؟
صمت قاتل هيمن عليه وهو يتمعنها بنظراته المريبة، فشعرت بدقات قلبها تتسارع بالأخص عندما رأته يتفحصها كاملًا، وقد كانت ترتدي بيجامة منزلية واسعة قليلًا.
استمر الصمت يدور حول نظراته الغريبة حتى هتف أخيرًا وهو يهز رأسه بالرفض ويشيح بنظره للجهة الأخرى:
_تؤ مليش مزاج دلوك خليها الصبح
فغرت عينيها مندهشة ثم قالت له شبه ضاحكة:
_أنت بتردهالي يعني!
زم شفتيه للأمام دون أن يجيبها وهو مازال لا ينظر لها، فرفعت حاجبها مبتسمة بمكر وأعين متوعدة ثم تابعت:
_طيب خلاص خليها الصبح
ابتعدت عنه بمقعدها وتحركت حتى وصلت للمرآة، فتوقفت بالمقعد أمامها وراحت تفرد شعرها الطويل وتبدأ في تسريحه بكل بطء ورقة وبين كل لحظة والآخرى تختلث النظر إليه فتجده يتابعها بإعجاب، باتت تفهمه وتعرف جيدًا أن أحد نقاط ضعفه هي شعرها ولسوء حظه إنه لا يستطيع مقاومتها حين تتركه ينساب بحرية على جسدها، ضحكت بخبث والتفتت له تسأله بلؤم يظهر في نظراتها بوضوح:
_إيه غيرت رأيك ولا إيه؟!
تلك الساحرة لن تتوقف أبدًا وهو لم يعد يحتمل محلاوتها لأصابته من الأعماق بسحرها، فهب واقفًا واندفع نحوها ثم استند بكفيه على ذراعي مقعدها من الجانبين وهتف لها بغيظ:
_وبعدين معاكي أنتي مصممة تطيري برچ من نافوخي يعني ولا إيه
ضحكت بقوة وأجابته بسرعة في حزن:
_بعد الشر عليك يامعلم محدش يقدر أصلًا
عمران بأعين مشتعلة:
_عاوزة إيه يا آسيا!!
اخفت ابتسامتها المتلذذة برؤيتها له وهو يتآكل بنيران صدره ولهيب مشاعره، لكنها لن تتوقف إلا عندما تسمعه بعيد اعترافه مرة أخرى وبالطريقة التي تريدها.
أخذت نفسًا عميقًا وردت عليه ببراءة مزيفة:
_عاوزة نعمل الجلسة
صر على أسنانه بغيظ وأعين تحمل الوعيد لها ثم مد ذراعه لها لتمسك به وبالذراع الآخر لفه حول خصرها ليساعدها على الوقوف، ثم بدأت تتحرك معه ببطء شديد وعندما ابتعدت عن المقعد وجدته يقربها منه أكثر وبذراعه يضغط على خصرها بحميمية فانتفضت وهتفت بارتباك وخجل:
_عـمـران!!
ابتسم لها بخبث وتمتم:
_إيه مش أنتي اللي طلبتي وأصريتي
قالت بصوت متلعثم ومضطرب:
_خلاص رچعني للكرسي تاني تعبت وعاوزة اقعد
هي أساسًا لا تستطيع الوقوف على قدميها وعندما رأته ينحني عليها احست بأن توازن جسدها كله اختل فأسرعت تتشبث بكتفيه خشية من أن تسقط، بينما هو فضحك واقترب من أذنها يهمس لها باستمتاع:
_قبل ما تحاولي تستغلي نقاط ضعفي عشان تچننيني عليكي ابقي فكري زين في اللي أنا ممكن أعمله واديكي شوفتي أنتي بلمسة وحدة بس بتبقي كيف
ابتسمت رغمًا عنها بخجل لكنها أخفت الابتسامة فورًا عندما ابتعد عن أذنها وعاد ينظر لها بعينيه الثاقبة وأهدابه العريضة، عندما تتفحص النظر فقط لثواني في ملامح وجهه الرجولية تنصهر وتذوب بين يديه ومن غرامها له.
ازدردت ريقها بخجل وقالت:
_طيب مش هترچعني عاد للكرسي
هز رأسه بالرفض مجيبًا بابتسامة متلذذة:
_هو احنا لحقنا لسا مخلصناش
احتل التوتر معالمها وراحت تترجاه بوجنتين اللون الأحمر سينفجر منهم:
_عمران أبوس يدك كفاية
ضحك بقوة وقال لها بجدية وحنو:
_متخافيش مش هعمل حاچة تاني هنكمل الجلسة بكل أدب واحترام
أشاحت بوجهها للجهة الأخرى وهي تزفر بقلة حيلة وسط ابتسامتها الخجلة، ثم التفتت له مجددًا وأكملت معه جلستها وهي تتحرك بمساعدته ورغم أن خطواتها كانت بطيئة لكن كلاهما لاحظوا الفرق بين الجلسة السابقة والآن، وأن قدرتها على الحركة بدأت تتحسن بسرعة شديدة.
                                      ***
بصباح اليوم التالي داخل منزل ابراهيم الصاوي......
كانت إخلاص تتابع ابراهيم وهو يقف أمام المرآة يهندم من ملابسه قبل أن يخرج، الغضب يتملكها كلما تتذكر حديثه مع عفاف بصباح الأمس واعترافه بأنه هو المتسبب في قتل خليل صفوان.
حاولت السكوت والبقاء هادئة لكنها فشلت في التحكم بأعصابها، حيث هبت واقفة واندفعت نحوه تهتف منفعلة:
_كيف عملتها يا ابراهيم كيف؟!!
التفت لها باستغراب وقال بحدة:
_هو إيه اللي كيف عملتها!
تجمعت العبرات في مقلتي إخلاص التي تابعت بحرقة على زوجها:
_هي اللي وزتك صُح؟.. أنت متعملش إكده من نفسك أبدًا ده خليل كان كيف أخوك ومهما كانت المشاكل في إيه بينكم متوصلكش للقتل واصل لكن هي فضلت توز في ودانك كيف الشيطان لغاية ما خلتك تقتله
اتسعت عيني ابراهيم بصدمة وظهر الاضطراب على ملامحه لكن سرعان ما قبض على ذراع إخلاص بغضب وهو يصيح بها:
_بتخرفي تقولي إيه ياولية أنتي.. إيه الچنان اللي بتقوليه ده!!
انهمرت عبرات إخلاص وهي ترد عليه بأسى:
_ده مش چنان ده الحقيقة يا ابراهيم اللي أنا مش قادرة أصدقها لغاية دلوك.. متحاولش تنكر عشان انا سمعت بودني امبارح أنت والعقربة عفاف
كان الذهول يحتل معالم وجهه وهو يسألها بتوتر ملحوظ:
_سمعتي إيه؟
إخلاص بصوت مبحوح:
_سمعتك وأنت بتقولها أنك بتقرب منهم عشان ميحسوش ولا يعرفوا أنك أنت اللي قتلت خليل
كتم على فمها بيدها في نظرات ملتهبة وهو يهتف محذرًا إياها:
_وطي حسك ده لحد يسمعنا وتودينا في داهية
دفعت إخلاص يده عن فمها وهتفت بألم وقهر:
_چلال رفع السلاح على راس ولدك عشان فاكر أن هو اللي قتل أبوه.. وطلعت انت اللي قتلته، مش خايف على ولدك ولا بتفكر فيه أنهم ممكن يحاولوا يأذوه
ابراهيم بنبرة رجولية قوية وساخطة:
_عمران راچل مش عيل صغير ومفيش مخلوق يقدر يقربله، ولو حد فكر يقرب من ولدي ولا يأذيه آخد روحه بيدي
ابتسمت إخلاص مستهزئة وهي ترد عليه بأسى:
_ ومفكرتش فيه هيعمل إيه لما يعرف أن أنت اللي قتلته، سواء هو أو حتى بلال وفريال
جذبها ابراهيم من ذراعها بعنف هاتفًا وهو يحذرها بنبرة مخيفة لا تمزح:
_لو لسانك وقع بالكلام قصاد عمران ولا بلال مش هرحمك يا إخلاص فاهمة ولا لا.. انسي اللي عرفتيه وسمعتيه واصل وكأنك مسمعتيش حاچة
ثم تركها بقوة وهو يتجه لباب الغرفة ويغادر ليتركها بمفردها تتصارع بين أفكارها في رغبتها بإخبار ابنها بحقيقة والده وبين خوفها منه ومن تهديده.
                                      ***
كان بلال يقود سيارته وبطريقه للجامعة ومر من أمام منزل حور أثناء طريقه، وكأن الظروف استمعت لرغبته في رؤيتها فوجدها تقف بالشارع العمومي وتبدو في انتظار سيارة أجرة لكي تذهب للجامعة، فضحك بسعادة غامرة وقاد سيارته باتجاهها ثم وقف خلفها ونظر لها من النافذة يقول مبتسمًا:
_لو فضلتي واقفة إكده هتفوت عليكي محاضرة الساعة تسعة
انتفضت بفزع عندما سمعت صوته والتفتت بسرعة للخلف وهي تضحك لتجيبه بحيرة:
_وأنت عرفت إزاي أن معايا محاضر الساعة تسعة
زم شفتيه ببراءة مزيفة مردفًا:
_مجرد تخمين
ضحكت بخفة ثم قالت في نفاذ صبر وهي تتأفف:
_المواصلات كلها يتيجي مليانة وأنا واقفة يجي اكتر من نص ساعة، بفكر ارجع البيت والله ومروحش خالص
قهقه بقوة فشردت هي في ضحكته الرجولية الجذابة ولكن سرعان ما انتشلها من أحلامها بصوته وهو يقول بعبث:
_طب ما أهو في مواصلة فاضية قدامك!
التفتت حولها تبحث عن السيارة الفارغة الذي يتحدث عنها وهي تسأل بعفوية:
_فينها؟!
عندما عادت بنظرها له وجدته يتمعنها مبتسمًا وهو يرفع حاجبه، ففهمت مقصده ورغمًا عنها ضحكت بحياء واضح وردت عليه:
_ لا متشكرة مش عايزة اعطلك
ظهر الاقتضاب على محياه من رفضها وهو يقول مازحًا:
_تعطليني إيه ما أنا رايح الچامعة معاكي.. انتي هتعطليني صُح لو فضلتي واقفة إكده كتير ووقتها هتضيع المحاضرة عليا وعليكي والنهاردة أنا معايا امتحان وتسليم مشروع تخرچ يعني مستقبلي معتمد عليكي
انطلقت ضحكتها الرقيقة وهي تردف بصدمة متصنعة:
_ياااه مستقبلك معتمد عليا.. للدرجة دي!
أجاب بلال مبتسمًا وهو يكمل مزحه:
_واكتر كمان.. هااا ناوية تشيلي ذنبي ولا هتركبي عشان اوصلك واحنا الاتنين نلحق مستقبلنا
استمرت في الضحك وهي تهز رأسها مغلوبة منه ثم قالت في النهاية تبادله المزاح:
_هركب وامري لله.. ده مستقبل برضوا مش لعب عيال
أجابها ضاحكًا بأعين تفيض عشقًا:
_أيوة چدعة
استدارت حول السيارة وفتحت باب المقعد المجاور له لتستقل بجانبه وهو ينطلق بالسيارة نحو مقر الجامعة...
                                     ***
داخل منزل خليل صفوان تحديدًا بغرفة الجلوس الخاصة بعمل جلال.....
كان يجلس يباشر أعماله على الحاسوب ويضع آخر الحسابات بمعرض الأجهزة العائد له وللعائلة، حتى اقتحم عليه الغرفة ابنه الصغير.. الذي اقترب منه وجلس بجواره يسأله في اهتمام وحزن:
_أبوي هو أنت صُح كنت تعبان امبارح في المستشفى؟
التفت جلال نحو عمار ثم ترك ما بيده وراح يمسح فوق شعر ابنه بحنو متمتمًا:
_أيوة كنت تعبان شوية وبقيت كويس الحمدلله دلوك متقلقش
أماء لأبيه بابتسامة راحة ثم ظهر الحماس والسعادة على وجهه وهو يردف:
_امي قالتلي أن قريب هتچيبلنا أنا ومعاذ أخت
اشرق وجه جلال بفرحة مختلفة وجميلة وراح يسأل ابنه بتلهف:
_هي قالتلك أنها حامل في بنت
هز عمار رأسه بالأيجاب وأكمل:
_ايوة قالتلنا أنا ومعاذ وسمعتها كمان دلوك كانت بتتكلم في التلفون وبتحچز عند الدكتور
تلاشت ابتسامة جلال تدريجيًا وظهر الانزعاج البسيط على ملامحه فمسح على شعر ابنه بلطف وهتف:
_أنا هطلع اشوف أمك وأنت خلي بالك على الورق ده لغاية ما أرچع
امتثل لأوامر أبيه بهز رأسه بالموافقة بينما جلال فاسرع للأعلى حيث غرفتهم، جانب منه سعيد ويتطاير فرحًا بأنها ستمنحه فتاة هذه المرة وجانب آخر غاضب من تصرفاتها وكأنه لا وجود له.
فتح باب الغرفة ودخل فوجدها تقوم بتبديل ملابسه، شهقت بفزع عندما رأته وقالت مستاءة:
_مش تخبط قبل ما تدخل
تجاهل السخافة التي تفوهت بها للتو وهتف بعصبية:
_معاكي معاد دكتور النهاردة مش المفروض تبلغيني وتأخدي اذني ولا هتطلعي وتروحي من غير ما أعرف إكده ووحدك كمان تروحي للدكتور
فريال بلهجة قوية وثابتة:
_أولًا مكنتش هروح وحدي.. أمي كانت هتروح معايا، ثانيًا معاد الدكتور لسا بليل وكنت هقولك قبل ما اطلع
أردف جلال باستنكار وغضب شديد:
_قبل ما تطلعي!!!.. وچاية على روحك إكده ليه يافريال هانم
فريال بجفاء وعدم اكتراث:
_مش أول مرة اروح وحدي ياچلال أنا ليا شهور بروح وحدي عشان طبعًا أنت مكنتش فاضيلي من مواضيع چوازك
صاح بها منفعلًا بصوت رجولي مخيف:
_عشان أنتي كنتي مخبية عني حملك، متبرريش ذنبك وتعلقيه عليا
تنهدت فريال الصعداء بعدم حيلة لتجيبه:
_طيب أنت عاوز إيه دلوك ياچلال
اقترب منها حتى أصبح في مواجهتها مباشرة لا يفصله عنها سوى سنتي مترات قليلة ويهتف في حدة منذرًا إياها:
_من إهنه ورايح مفيش طلوع من البيت من غير أذني واياكي تخبي عني حاچة يافريال وإلا العواقب هتكون وخيمة فاهمة ولا لا
مالت بوجهها للجانب تأبى النظر إليه في امتعاض بينما هو فاستدار وهم بالانصراف لكنه توقف بعد خطوة والتفت لها برأسه يسألها بجمود رغم أن عيناه تلمع بالسعادة:
_أنتي حامل في بنت صُح؟
رمقته بطرف عيناها ثم التفتت له وابتسمت بسعادة مثله وهي تجيبه:
_لسا هعرف جنسه إيه في الخامس أو الرابع بس أنا حاسة أنها بنت
تبادلوا النظرات الخاصة بينهم وهم يتذكرون لحظاتهم معًا عندما كان يستمر بأخبارها أنه يتمنى أن يُرزق بطفلة منها تشبهها تمامًا في كل شيء حتى طباعها.
مال ثغره للجانب في ابتسامة جميلة ثم قال بجفاء متصنع:
_أنا اللي هروح معاكي بليل، قولي لأمك وبلغيها بدل ما تچهز على الفاضي
لم يمهلها اللحظة لتعترض حيث استدار وانصرف ليتركها تبتسم بفرحة داخلية على اهتمامه ورغبته في مرافقتها للطبيب.
                                      ***
دخل عمران بناية المنزل وهو يحمل بيده أكياسًا بها بعض مستلزمات زوجته والمنزل وبينما كان في طريقه للدرج قابل سليم الذي توقف ومد يده مصافحًا هاتفًا:
_ازيك يامعلم عمران
لمس عمران نبرة السخرية في صوته فحاول الثبات ورد ببرود أعصاب متصنع:
_الحمدلله
ابتسم سليم له ثم تجرأ وسأل بكل برود:
_ألف سلامة على مدام آسيا
فور ذكره لاسم زوجته الهدوء المزيف الذي يحافظ عليه فقده واشتعلت نظراته ورغم كل هذا مازال يحاول البقاء هادئًا حيث رد على سليم بصوت متحشرج ومخيف:
_الله يسلمك
لم يضع سليم حد لتعديه حدود عمران الحمراء فمازالت القصة التي سردتها له شقيقته في عقله، ورغم ملاحظته لشر عمران المناكير فوق صفحة وجهه إلا أنه تابع ببرود متعمد:
_أخبارها إيه دلوقتي.. طبعًا مش محتاج اقولك ياعمران لو احتجت أي حاجة أنا موجود وأنت عارف عيادتي فين
أظلمت عين عمران فقد فاض كليه وذلك الوغد استنفذ رصيده بالكامل لديه، ولسوء حظه أنه اليوم ليس بمزاج يسعه لتحمل شخص مثله.
بحركة مباغتة وفجأة وجد سليم عمران يجذبه من ليقاته ويهتف له بلهجة محذرة تحمل الشر والوعيد الحقيقي:
_أنت عارفني زين يا سليم.. والمثل بيقولك ابعد عن الشر وغنيله فخليك بعيد عني احسلك، ولو لسانك اتجرأ ونطق اسم مرتي أو جبت سيرتها تاني تبقى جنيت على روحك.. وصلت الرسالة
كان الهدوء التام من نصيب سليم أما عمران فتركه وربت على كتفه بلطف متمتمًا في نظرات ونبرة صوت تقذف الرعب في الأبدان:
_ركز في شغلك يادكتور احسن تخسره قريب
كان تهديد عمران صريح في كلماته لسليم الذي اشتعل بنيران الغضب فور رحيله....
                                       ***
داخل غرفة فريال كانت تمسك بالكيس الذي جمعت فيه أعمال السحر التي قامت بها منيرة لتأذيهم.. وهي تفكر بتردد، فمازال جلال لم يتعافى وتخشى أن تكشف له الحقيقة فتكون هي السبب هذه المرة في مرضه، وبنفس الوقت باتت لا تحتمل رؤية تلك الأفعى ولا تأمن على أولادها بوجودها معهم في نفس المنزل.
صراع قوي بين عقلها وقلبها دام للدقائق كل منهم له أسبابه المقنعة في كشف الحقيقة أو اخفائها مؤقتًا، لكن بالنهاية انتصر جانب كشف الحقيقة فهي لا تدري لو انتظرت أكثر ماذا سيصيبهم مجددًا وما الشيء الجديد الذي ستقبل على فعله تلك الشيطان.
أخذت الكيس معها وغادرت الغرفة وهي تقود خطواتها للطابق الأرضي حيث الجميع يتناول فطوره الآن، فهذه اللحظة المناسبة ليروا حقيقتها بوجود الجميع حتى لا يتبقى لها فرصة للبقاء للحظة أخرى بمنزلها.
وقفت فريال عند آخر الدرج بعدما وصلت للطابق الأرضي ورأتهم مجتمعين حول طاولة الطعام يتناولون وجبة الفطار، تقدمت منهم ثم القت نظرة شيطانية ومتشفية على منيرة تودعها من خلالها قبل أن تهتف محدثة جلال وهي ترفع الكيس الأسود أمامهم:
_چلال تعالى شوف الشيطان اللي دخلته أنت وأمك بينا 
رمقها چلال باستغراب وعدم فهم ثم رد:
_مالك يافريال!
قالت فريال بابتسامة كلها ثقة وهي تنظر في عين منيرة التي كانت تنتفض من الخوف:
_شوف لقيت إيه في اوضتنا تحت السرير وطلعت إيه من اوضة منيرة

........ نهاية الفصل .........

رواية ميثاق الحرب والغفران حيث تعيش القصص. اكتشف الآن