الفصل الرابع والعشرون

620 25 1
                                    

((ميثاق الحرب والغفران))
_الفصل الرابع والعشرون_

كان الرد قاسي وغاضب من إخلاص بعد عبارة ابنتها الأخيرة:
_راچعة كيف يعني؟!
فريال بثبات انفعالي تام:
_كيف ما سمعتي ياما هرچع بيتي ولعيالي
صاحت بها إخلاص منفعلة ورفض قاطع:
_معدش بيتك يافريال خلاص هتطلقي منه وبعدين هترچعي تعيشي مع ضرتك في بيت واحد ولا هتقعدي مع چوزك اللي اتچوز عليكي
التفتت تجاه أمها وحدقتها بنظرة مطولة رغم مرارتها إلا أنها كانت مفعمة بالقوة.. لتجيبها بالأخير بروح ممزقة:
_أنا مش راچعة عشانه ياما لو هرچع يبقى عشان عيالي وعشان اخليه يندم على اللي عمله فيا.. مش قاعدة إهنه واسيب مرته الحية دي تقعد مع عيالي
اقتربت إخلاص منها وحاوطتها بذراعيها من كتفيها تقول وهي تنظر في عيناها بقوة:
_عيالك .. أخوكي وأبوكي هيرجعهملك وهياخدوهم من چلال غصب عنه
أبعدت يد أمها عنها وزفرت بخنق وهي تتأفف لتجيبها برجاء وقهر:
_ياما أبوس يدك سبيني اعمل اللي عاوزاه متقلقيش أنا مش هرچع لچلال أبدًا ورايحة البيت عشان اخد حقي منه هو والحرباية التانية مرته وبعدين هخليه يطلقني.. صدقيني أنا معدتش فريال القديمة خلاص والمرة دي راچعة اخد حقي من الكل وأولهم من چليلة

هزت إخلاص رأسها بالرفض وقالت محاولة تغيير قرارها:
_يابتي أنتي مش قد چليلة ولا منيرة وأنا اخاف عليكي منهم اسمعي الكلام وخلصي نفسك من وچع القلب ده واطلقي منه

رمقتها فريال متوسلة وبعينان دامعة كلها يأس وألم فتنهدت إخلاص بقلة حيلة وزمت شفتيها ثم هدرت بحدة بعدما أعلنت خضوعها أمام رغبة ابنتها:
_طب اعتبريني وافقت فكرك أبوكي وأخوكي هيوافقوا
فريال مبتسمة بأمل:
_سبيلي عمران أنا هقدر اقنعه بس انتي ساعديني واقنعي أبويا

تأففت إخلاص بنفاذ صبر وراحت تهز رأسها في انزعاج بينما تلقي بنظرات جانبية كلها ضيق على ابنتها العنيدة.. ليست راضية عن قرارها أبدًا ولكن هناك جانب منها يريدها أن تأخذ حقها وتثأر من حماتها وزوجها وهذا هو ما دفعها لمجارتها والاستسلام لرغبتها.
                                   ***
كان الهدوء والسكون التام يملأ الغرفة مع ضوء الشمس الضعيف المنعكس من خلف الستائر وهم مازالوا على نفس وضعية نومهم منذ أمس.. هو نائم وهي داخل قوقعته بين ذراعيه نائمة أيضًا، لم يوقظهم سوى طرق الباب القوي بعدة طرقات متتالية.. ففتح عمران عينيه دفعة واحدة والأخرى فتحتهم مفزوعة وكان أول ما يقع نظرها عليه هو، لتجد نفسها محتجزة داخل صدره الواسع وذراعيه القوية، فغرت عيناها بصدمة وبلحظة كانت تثب جالسة منتفضة بعيدًا عنه وهي تهتف:
_إيه ده أنا كيف چيت في حضنك؟!
لم يكترث لها وتجاهل سؤالها فكان طرق الباب المزعج هو شاغله الأكبر الآن.. رفع يده يمسح على وجهه متأففًا ثم اعتدل جالسًا ونهض من الفراش ليتجه نحو الباب ويفتح فيجد أمه أمامه، زفر بصوت عالي وقال بضيق ملحوظ:
_خير ياما.. في حد بيخبط إكده؟!
قالت إخلاص بحزم وهي تحاول إلقاء نظرة للداخل فرأت آسيا تجلس فوق الفراش وترفع يدها تعود بخصلات شعرها خلف أذنها وآثار الخمول بادية فوق قسماتها كابنها تمامًا:
_أبوك وبشار بيرنوا عليك ياولدي عاوزينك في المخزن ضروري وأنت مبتردش أعمل إيه يعني.. انا چهزتلك الفطار عشان تفطر قبل ما تطلع وصحي ست الحسن مرتك دي هو في حريم بتقعد نايمة لدلوك
كانت آسيا تسمع ما تقوله عنها ورغم غيظها إلا أنها فضلّت تجاهلها وعدم الانشغال بتلك المرأة الآن، وحين سقط نظرها على الوسائد الملقية على الأرض رفعت حاجبها بنظرة لا تبشر بالخير ثم نظرت لزوجها الذي انهى حديثه مع أمه وأغلق الباب واستدار يعود نحو الفراش لكي يلتقط هاتفه، رمقته بغيظ وراحت تقف على ركبتيها فوق الفراش وتنظر له بقوة تسأله:
_شيلت المخدات ليه؟!
لم يجيبها وانشغل بهاتفه يبحث عن رقم والده ليجري اتصال به، فاقتربت منه أكثر وهي مازالت على نفس وضعها وهتفت مغتاظة من تجاهله لها:
_عمران أنا بكلمك!!
نظر لها بعين منذرة ولهجة رجولية صارمة:
_أنتي شيفاني مش فاضي.. مش هسيب اللي في يدي والشغل وارد اقولك كنتي في حضني كيف.. مش وقته يا آسيا
طالت نظرتها المشتعلة له وظلت تتابعه حتى وجدته يرفع الهاتف ويضعه فوق أذنه يرد على والده ثم ابتعد بخطواته عنها يخرج للشرفة ليتحدث.. قالت ببسمة ماكرة:
_مش فاضي ولا بتتهرب.. ماشي ياعمران
نهضت من الفراش واتجهت للحمام لتأخذ حمامًا صباحي ينعش جسدها بعدما أخرجت ملابس نظيفة لها من الخزانة.
بعد مرور وقت طويل نسبيًا خرجت من الحمام وهي تجفف شعرها فوجدته يشرع في ارتداء ملابسه، لم تلتفت له وكأنها لا تعيره اهتمام ثم اقتربت من المرآة ووقفت أمامها تبدأ في تسريح شعرها ورغمًا عنها بين كل لحظة والآخرى كانت تنظر لانعكاسه في المرآة خلفها بنظرات مغتاظة ومنزعجة منه، رأى ما تفعله وفهم الإشارات المنزعجة التي ترسلها بنظراتها كلما تختلس النظر له.. ودون أن يشعر ابتسم عليها رغم غضبه بسبب مشاكل العمل التي سيذهب ليحلها الآن مع أبيه وابن عمه لكنها نجحت بأبسط الطرق في امتصاص القليل من طاقته السلبية وجعلته يبادلها النظرات في انعكاس المرآة لكن بأخرى خبيثة، انتهي من ارتداء جلبابه ووضع عباءته البنية فوق ذراعيه ليتقدم منها بخطوات متريثة وأعين ثاقبة بعدما وجدها تحاول ارتداء قلادة في رقبتها وتفشل في غلقها.
وقف خلف ظهرها مباشرة وانزل يدها بلطف ليتلقط هو القلادة منها ويساعدها في ارتداءها وسط همسه الماكر وهو يلقي بحجر النرد الخاص به:
_أنتي اللي دخلتي في حضني امبارح أنا مقربتش منك
تطلعت له في المرآة بعينان متسعة ولم تمتلك الجرأة لتكذب ما يدعيه فهي تعرف نفسها ولا تستبعد أنها تفعلها حقًا، لكن ما أثار غيظها هو تعمده بكل مرة أن يذكرها أنها هي العالقة بمداره ولا تستطيع التحكم بزمام قلبها أمامه.
حين حصل على ردها بالصمت والاضطراب زادت ابتسامته اتساعًا وراح يلف ذراعه حولها من الأمام ويرفع يده لقلادتها التي كانت منحوتة بشكل غزال يمسكها بين أنامله وينقل نظره بين القلادة وبين عيناها الواسعة التي تشبه عيني الغزال تمامًا، ثم همس بنبرة جعلت القشعريرة تسري بجسدها كله والحمرة تصعد لوجنتيها:
_حلوة السلسلة دي.. تشبه عيونك
سحب يده ببطء تاركًا قلادتها وعيناه مازالت تنظر بنفس الطريقة المربكة، وكانت العبارة السابقة آخر ما تفوه بها قبل أن يستدير وينصرف ليتركها متصلبة بأرضها كالصنم، كل شيء تداخل مع بعضه بلحظة واحدة ولم تعد تعرف عن ماذا تتساءل هل عن حقيقة نومها بين ذراعيه بكامل إرادتها بالأمس أم عن تصرفه الغريب ونظراته أم عن عبارته الأخيرة التي لا تفهمها!.. كل هذا كان بنفس اللحظة التي هي كانت تحاول فيها لملمة بعثرة نفسها والتحكم بأعصابها وخجلها، وبالأخير أمسكت بالقلادة ترفعها تنظر لها في المرآة تستعيد اعترافه أنها تشبه عينيه وبعد تركيز دام للحظات في شكل الغزال فهمت مقصده، دققت النظر بعيناها بتشتت محاولة إيجاد الشبه كما يقول وبالنهاية صعدت البسمة الرقيقة والخجلة فوق ثغرها...
                                    ***
انتهت آسيا من ارتداء ملابسها وخرجت من غرفتها لتنزل الدرج تقصد الطابق الأرضي، فور وصولها رأت زوجها وهو يتناول فطوره.. تقدمت نحوهم وجلست على مقعد قريب منه وظلت تتابع حديثه مع أمه بصمت لكن قطع ذلك الحديث وصول منى التي اقتربت وجلست من إخلاص ثم راحت تلقي تحية الصباح على عمران ليرد هو عليه بنبرة طبيعية، بدأت تتبادل معهم أطراف الحديث بكل تبجح وكأنها لم تكذب عليهم منذ يومين متدعية أن آسيا هي من دفعتها، رغم أن عمران كان لا يطيق وجودها ولا التحدث معها لكنه سايرها بالحديث فقط ليرى ردة فعل آسيا التي كانت تمثل عدم الاكتراث باحترافية وتستمر بتجاهل ما يحدث وكأنها لا تسمع شيء ولا يعنيها من الأساس.
ربما لا تحسب عدد المرات التي أثارت فيها غضبه بتجاهله له ولكن الآن يمكنها أن تضيف رقم جديد بعد أن رأت تبدل ملامح وجهه للانزعاج.. فانهى طعامه وهب وافقًا يتجه للحمام ليغسل يديه بينما منى فتوقفت وقالت لإخلاص:
_أنا هطلع يامرت خالي هطمن على صحبتي اللي في المستشفى وراجعة علطول
هزت إخلاص رأسها بالموافقة بينما الأخرى فاندفعت نحو باب المنزل وغادرت.. كانت آسيا تتابع الود بين حماتها ومنى بنظرات مظلمة لكن وصول عفاف قلب الحرب الباردة لأخرى مشتعلة، حيث اقتربت منهم وجلست على مقعد متوسط بينهم وراحت توجه حديثها لآسيا بنظرات لئيمة تضمر الحقد:
_كيفك يا آسيا
لم تجيبها آسيا واكتفت بنظراتها المشمئزة إليها بينما الأخرى فلم تبالي وأكملت محاولة إشعال نيران غضبها:
_معقول كنتي قاعدة مع منى في نفس المكان بعد اللي عملته معاكي.. رغم إني الصراحة مستبعدش إنك تعملي فيها إكده صُح؟

رواية ميثاق الحرب والغفران حيث تعيش القصص. اكتشف الآن