١

78 6 30
                                    


خَيَّم الظَّلام على تلك الغرفة إلا من إضاءة نيران شمعاتٍ صغيرةٍ، تراصَّت بانتظامٍ على رُؤوسِ نجمة خماسيَّة مرسومة بإتقانٍ على أرضَيَّةِ الغرفة، وتحيطها دائرةٌ تلامِسُ رؤوسَها الخمس حيث وُضِعَت الشموع، وبداخل النجمة كتبت حروف وأرقام متراصة بشكل مَدروس تشبه تعاويذ كتب السحر القديم.
ملامح الغرفة مُبهمة في تلك الإضاءةِ الواهنةِ إلا أنَّ ذلك الرجل الجالس أمام الدائرة يظهَر بشكلٍ واضحٍ؛ كان يرتدى عباءةً ذات قُلنُسُوَّة تُخفِي ملامحَ وجهَهُ؛ وجلس متربعًا كجلسة الكاتب المصري القديم واضعًا كلا ساعديه بطول فخذيه وراحة يديه مفتوحة إلى الأعلى كلاعبي اليوجا، جلس هادئًا وهو يتمتم بترنيمةٍ بشكلٍ جنائزي "من آز شيمزاكيل درخُوَاست ميكَنَم، من آز شيمزاكيل درخُوَاسْت مِيكَنَم" أخذ يكرِّرُها بنفس الشكل مرارًا وتِكرَارًا حتى أخذت نيران الشموع في الارتفاع ومعها ارتفعت نبرتُه وسرعتُه في تلاوة الترنيمة حتى كادت نيران الشموع تلامس السقف.
وفجأة خَمَدت النيران وانطفأت الشموع تمامًا وسَكَتَ الرجل مع الظلام الدامس الذي حَلَّ بالمكان إلا من كتلتين مضيئتين بلونٍ أحمرٍ أشبه بحدقتي العين ولكنهما أضخم من العين البشرية أضاءَا فجأة في وسط الدائرة وانبعث صوتٌ كأنَّه قادم من بئرٍ عميقٍ، صَدرَ من اللامكان وكأنَّهُ قادم من جميع أنحاء الغرفة قائلًا بصرامة:
- هل وَجدتَّه؟
- نعم وَجدتُّه.
- هل تيقَّنتَ كَوْنُه الرجل المنشود؟
- نعم، لقد تتَبَّعْتُ المنزلَ كما طلبتَ إلى أن وصلتُ لصاحبه.
- هل تعلم ما عليك فعله؟
- أجَل.
قال الصوت بغضب:
- إذن لم استدعيتني؟
- أردتُ سؤالك ما إذا كان بإمكاننا التخلُّص منه مباشرة بدلًا من هذا؟
صرخ الصوت بصيحةٍ هادرةٍ:
- إياك أن تؤذيه أو تمَسَّهُ بسُوءٍ.
بدأ الرجل يفقد رباطة جأشه وقال متلعثمًا:
- حَسنًا حسَنًا، ولكن لماذا، ألم تقل إنك تريد التخلص منه؟
صمت الصوت لدقيقة جلس خلالها الرجل بترقب ثم عاد الصوت ليقول ببطء:
- عقدٌ قديمٍ، من نارٍ وطينٍ، موثوقٌ بعهودٍ، بدماءِ الجدودِ، إيَّاكَ أن تؤذي صاحبَ الدِّماءِ.
تساءل الرجل: ماذا؟
كرَّرَ الصوت بصيحةٍ هادرةٍ وبَدا وكأنَّهُ قادم من أعماقِ الجحيم:
- إيَّاكَ أن تُؤذِي صاحبَ الدِّماءِ.
وهَبَّت نسمةُ رياحٍ دافئةٍ في المكان، وعادت نيران الشموع تُضِيء كما كانت، واختفت العينين الدمويتين تاركةً الرَّجُل في حِيرةٍ يُفَكِّر قائلًا:
- ماذا يعني بصاحبِ الدِّماءِ؟
**********

ياصباح الرُّعب، الساعة 6 وعلى المقيمين خارِج مدينة الرعب المحافظة على فروق التوقيت، درجة الحرارة في الضِّل 25 وده كوَيِّس للزواحف، واحتمال يبقى جَوْ هايل للكسل في السرير، أو النوم، أو أقولك الأحسن، عمل تمرينات للمَخَوِّفاتية، اصحى ياشلبي، بييييييب.
استيقظ (زياد) على لَكْمةٍ من (عمر) الذي صاح فيه قائلًا:
- قوم يا حاج شلبي، كل يوم تصَحِّينا على الفيلم ده وياريتك بتقوم، ده احنا لو جبنالك "هنيدي" هنا بنفسه إبقى قابلنى لو قمت، قوم، الجيران كل يوم بيسألونا مين شلبي ده.
أطفأ (زياد) منبه هاتفه النَّقَّال قائلًا:
- حاضر حاضر، قمت أهو، متعرفش تحترم نفسك شويه وانت بتصحي أخوك الكبير.
- طاب قوم بدل ما الحاجَّة هِيَّا اللي هتيجي تحترمنا احنا الاتنين دلوقتي.
نهض من فورِهِ قائلًا:
- لا ياعم، قمت أهو، وفتح باب غرفته متجهًا إلى دورة المياه كعادته.
"يافتَّاح ياعليم يارزَّاق يا كريم، مفيش فايدة، ظابط المنبه على 7 ونص وانت شغلك 8، مفيش مره تروح في ميعادك أبدًا."
كانت هذه عبارة زوج خالته الحاج (سليمان) التى اعْتَادَ أن يستقبله بها صباحًا كلَّما تأخر في الاستيقاظ، فأجابه قائلًا: عيب عليك ياحاج، 8 إلا ربع هكون في الشركة.
قال الحاج (سليمان):
- إبقى قابلنى لو كنت لسَّه خرجت من الحمام.
ثم أتبع بنفاذ صبر:
- اتحرك، انت واقف تبُصِّلي كده ليه؟!
أنهى (زياد) طقوسه الصباحية المعتادة من صلاةٍ وإفطارٍ وانطلَقَ مُسرِعًا يخوض غمار معركته اليومية في المواصلات حتى وصل -كعادته- متأخرًا، استقلبه صديقه (مروان) وقال له بصوتٍ خافتٍ:
- سأل عليك كالعادة وعاوزك تروح له أول ما تيجي.
- ماتخافش ياكبير، ما انت عارف، عامل حسابي.
واتَّجَه إلى مكتب المدير الذي استقبله ببرودٍ قائلًا:
- هاه، حد من قرابيك توَفَّاهُ الله ولا حد من أصحابك في المستشفى وكنت سهران معاه إمبارح.
أفلتت ابتسامة من (زياد) رُغمًا عنه وقال:
- لا ده ولا ده يا مدير، ده أنا كنت سهران بخَلَّص مشروع شركة العبور وقلت مينفعش أنام إلا ما أخلَّصُه، انت عارف إن ميعاد تسليمه كمان يومين ولازم حضرتك تراجعه.
- يعنى خلَّصتُه؟
أخرج فلاش ميموري من جيبه وناولها لمديره قائلا:
- طبعًا يا مدير، انت عارف، أنا مش ممكن أحط الشركة في موقف محرج مع العميل.
تناول المدير الفلاش ميموري ووضعها في حاسوبه الشخصي وقال وهو يتفحص المشروع:
- آه طبعا قلبك على الشركة أوي، عشان كده كل يوم بتيجي متأخر.
- طاب انت إيه رأيك؟
أخفى المدير ابتسامته وهو يقول:
- لسَّه يابشمهندس أما أخَلَّصُه هقولك رأيي، روح دلوقتى على مكتبك، أنا بعتلك ميل بمشروع جديد، عاوزك النهاردة تبعتلي تفصيل للمراحل بتاعته.
أجاب وهو ينصرف:
- تمام يا مدير.
وأغلق الباب بهدوء، ثم عاد يفتحه مُجدَّدًا وقال:
- إبقى انقل المشروع عندك طيب، عشان عاوز الفلاشه.
قالها وأغلق الباب مُسرعًا متحاشيًا سيل الشتائم التي أطلقها المدير واتَّجه إلى مكتبه بجوار مكتب صديقه (مروان) الذي بادَرَهُ قائلًا:
- أنا مش عارف هو سايبك ليه في الشركة لغاية دلوقتي، أنا بيتهيألي أنا لو جيت يومين متأخر في أسبوع واحد كان زماني ببيع فجل على أول الناصية.
- الإبداع ياباشا، هو سايبني علشان عارف إني مُبدِع، انت لو مُبدِع زَيِّي مكنتش هتقو،
قطع عبارته وهو يتفادى زجاجة المياه البلاستيكية التي قذفه بها (مروان) وهو يقول:
- طاب تحب أدخل أقوله دلوقتي يا مبدع إن المشروع اللى انت جاي تتمختر بيه ده أنا اللى مخلصهولك وباعتهولك امبارح الساعة (9)، يعني فخامتك مكنتش سهران بتخلَّص فيه ولا حاجة.
أجاب وهو يرسُم ملامح حُزن مُصطَنعةٍ على وجهِهِ:
- كده يا (مروان) انت بتذلني وأنا اللى كنت جاي أفرَّحَك وأقولك إني كلمت الحاج إمبارح وبيقولك تيجي انت ووالدك ووالدتك بكرة الساعة (7).
انفرجت أسارير (مروان) وهو يقول:
- بجد يله؟
- آه شكله كده هيوافق مش عارف ازَّاي؟!
قام (مروان) وأمسك بكتف (زياد) وكأنه يرَتِّب له ملابسه ثم التقط زجاجة المياه التي قذفه بها وهو يقول:
- لا كده بقى يبقى أنا آسف يا صاحبي.
ثم قَذَفهُ بها مره أخرى لترتطم برأسه هذه المرَّة وهو يقول:
- ولسَّه فاكر تقولِّى دلوقتى، ماكلمتنيش إمبارح ليه وقولتلي!
أمسك (زياد) برأسه وهو يصرخ مازحًا:
- آآآآه، لا ياعم أنا مش هجَوِّز أختي لواحد عصبي كده، أنا هقول للحاج يكنسل الجوازة دي.
أمسك (مروان) بكوب فارغ أمامه وكأنه سَيَقذِفَهُ بهِ وهو يقول:
- أختك إيه يله؟ ده انت يادوب ابن خالتها.
ثم أمسك بياقة سترته يُعدِّلها مردفًا:
- إنما أنا، خطيبها.
- انت لحقت تبقى خطيبها، ده انت لسه مدخلتش البيت، ده لسه الحاج حتى موافقش.
- وانتو تقدرو ترفضوني يا،
"بشمهندس (زياد)"
استدار (زياد) و(مروان) إلى صاحب العبارة فوجَدَا رجلًا في العقد الثالث من عُمُرِهِ يرتدي ثيابًا رسمية فاخرة ويقول بابتسامة مُصطنعة وهو يشير إلى (زياد):
- حضرتك البشمهندس (زياد مصطفى)، صح كده؟
أومأ (زياد) برأسه موافقًا وهو يقول:
- أيوه يا فندم، خير!
أعطاهُ الرَّجل بطاقة تعريف شخصية وقال:
- (شريف التهامي)، محامي (إبراهيم باشا الوكيل).
- أهلًا بحضرتك، أقدر أساعدك بإيه؟
- (إبراهيم) باشا زي ما انت عارف بالإضافة لشركاته المعروفة، عنده مساحة أراضي واسعة في محافظة (الإسماعيلية).
- لا والله معرفش، أنا عارف طبعًا شركات ومعارض (إبراهيم الوكيل)، بس معرفش بصراحة إيه علاقتي بالموضوع ده؟
- (إبراهيم) باشا بيوسَّع مزرعتة اللي في (الإسماعيلية) وتقريبًا اشترى أغلب الأراضي اللي جنبها.
- بردو مش فاهم، عاوزين نصَمِّم لكم سيستم للمزرعة؟
أجابه الرجل مفتعلًا ضحكةً صفراء:
- لا لا يابشمهندس، إحنا عندنا ناس متخصصة في الموضوع ده.
تطلَّع إليه (زياد) بصمت منتظرًا إياه أن يُكمِل، فتابع الرجل:
- زي ما قلتلك (إبراهيم) باشا بيشتري تقريبًا أغلب الأراضي في منطقة المزرعة بتاعته، ومن الأراضي اللي حاطِط عينه عليها الأرض والبيت بتوع والدك الله يرحمه.
هنا استوعب (زياد) ما يريده الرجل وقال:
- طيِّب الأمور دي مع الحاج والله، هو اللي بيتصرف في الأرض والبيت، هكتب لحضرتك رقم تليفونه تتفاهم معاه، وعلى ما أعتقد إن الأرض متأجرة، مش عارف عقد إيجارها هيخلص إمتى.
- بالنسبة لموضوع الإيجار احنا هنراضي الناس اللي مأجَّرة وهنخليهم يِخلُوا الأرض بالتراضي، أما بالنسبة للحاج فأنا اتكلمت معاه قبل ما أجيلك وهو رفض من غير ما يسمع العرض.
- طالما الحاج رفض يبقى الموضوع خلص.
- بس أنا أعرف إن الأرض دي بتاعتك انت، انت الوريث الوحيد للحاج (مصطفي) الله يرحمه، يعني القرار في إيدك.
- زي ما قلت لحضرتك الأرض تحت تصرف الحاج وهو الوحيد اللي ليه حق الموافقة على البيع، وصحيح الأرض باسمي لكن مَقْدَرش أبيعها من غير موافقته.
التقط الرجل بطاقة التعريف التي كان قد أعطاها لـ(زياد) وكتب على ظهرها رقمًا ما، ثُمَّ أعادَها إليه قائلًا:
- حتى لو كان هوَّ ده السعر؟
حدَّق (زياد) إلى الرقم في دهشةٍ وقال:
- أنا مكُنتش أعرف إن الأرض تجيب المبلغ ده، هي الأراضي الزراعية غِليِت كده؟
- لا غِليِت ولا حاجة، احنا بس مهتمين بتوسيع المزرعة وعندنا استعداد إننا ندفع المبلغ ده لإن زي ما انت فاهم ده استثمار، وطبعًا الأرباح المتوقعة هتغطيه، وياريت تكون مستوعب إن مفيش حد هيعرض عليك المبلغ ده تاني.
- على العموم يا متر زي ما قلتلك أنا ماليش تصرُّف في الموضوع ده، بس أوعِدَك إني هكَلِّم الحاج وأحاول أقنعه.
- تمام، هنتظر ردك سريعًا، الفرص دي مابتجيش كتير.
- ربنا يسهل، تشرب حاجة؟
قالها تلميحًا بنهاية اللقاء فنهض الرجل وافقًا وهو يقول:
- متشكرين يابشمهندس إن شاء الله نشرب يوم ما نمضِي العقود، ومد يده ليصافح (زياد) الذي نهَضَ بدورِهِ ليصافحه، ثم استدار مغادرًا.
أمسك (مروان) بطاقة التعريف وهو يطالع المبلغ المكتوب على ظهرها واتَّسَعت عيناه في دهشةٍ قائلًا:
- يخرب بيت أبوك ده انت مليونير يله وأنا مش عارف!
نظر إليه (زياد) بغضب، فتلعثم (مروان) وهو يقول:
- قصدي بيت السيد الوالد يعني، الله يرحمه.
ثم أردف قائلًا:
- فهِّمني بس أرض إيه دي؟ انت أول مرة تجيب سيرة عن الموضوع ده.
- ياسيدي ده البيت بتاع بابا الله يرحمه، بيت وأرض زراعية جنبه متأجرة دلوقتي، زي ما انت عارف بعد الحادثة ووفاة بابا وماما، خالتي أخَدتني أعيش معاها وفضِلت معاها بعد ما اتجوِّزِت، والحاج (سليمان) جوزها اللي بعتبره أبويا هو اللي بيتصرف في الأرض، خلاني أفتح حساب في البنك وبيحط فيه إيجار الأرض، وأنا لما بحتاج فلوس بسحب منه كل شويه، بس فعلًا معرفش حاجة عن إدارة الأرض أو تأجيرها، حتى لما بعرض عليه إني أسحبلهم مبلغ لما بنمُر بظرف ولا حاجة، عينه بتحمر وبسمع شتايم من اللي قلبك يحبها زي "انت قليل الأدب"، "انت هَتِصرِف علينا يله"، "انت عمرك طلبت حاجة واتأخرت عليك فيها"، فبطَّلْت تمامًا أفتح سيرة الموضوع أو أتكلم فيه.
- طاب هو مش عاوز يبيعها ليه؟
- مش عارف، رغم إني كده كده هبيعها لإن عمري ما هقعد هناك في يوم من الأيام، ومستحيل هلاقي عرض أفضل من ده، على العموم لما أروَّح هتكلم معاه.
- (زياد)، عاوز أقولك حاجة.
- اهرِي.
- أنا عاوز أتراجع عن كلامي إنك ابن خالة (سمية) مش أخوها، انت أخوها طبعًا، ده انت أخوها أكتر من (عمر) ابن خالتك، اللي هو شقيقها.
نظر إليه (زياد) بعدم فهم فتابع:
- أيوه يا ابني، وأنا هبقى خطيب أختك، وكمان شويه هبقى جوز أختك، هاه جوز أختك، ماتنسانيش بقى لما تبيع الأرض.
ضحك (زياد) بشدة قائلًا:
- ده انت داخل على طمع بقى.
- آه، آه، أنا أصلًا إنسان انتهازي.
- طاب والله لأقول لـ(سمية)، وللحاج (سليمان) كمان.
- يخرب عقلك، أهبل وتعملها، بطل هبل يله.
ضحك (زياد) وهو يُخرج هاتفه المحمول وكأنه سيهاتف (سمية)، فاندفع (مروان) نحوَهُ ليأخذه منه، فأخذ (زياد) يعدو خارج الشركة، و(مروان) يركُض خلفه ليلحق به كالأطفال.
***************

ميثاقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن