٦

18 5 3
                                    


مَرَّ أسبُوع تقريبًا منذ حصول (زياد) على الصندوق، كان يذهب في الصباحِ إلى العمل وعند عودَتِهِ لا يفعل شيئًا تقريبًا إلا البحث في كُرَّاساتِ الطلاسِمِ ونسْخها على حاسوبه، حتَّى في الشركة أثناء وقت فراغِهِ كان يعمل على محتوى المذكرات المنسوخة على حاسوبه، حتى أن (مروان) لاحظ انشِغَالِهِ وتغيُّرِهِ وعندما سأله، أخبره أنه يقرأ مذكرات جده التي كانت في الصندوق، وعندما حاول (مروان) أن يعرف محتوى هذه المذكرات أخبره أنها أشياء عادية حول حياته الخاصة، حتى (عمر) كان ينظر إلى الطلاسم التي ينسخها (زياد) على حاسوبه بخوف، ولا يدري سبب اهتمامه بها لهذه الدرجة ولكنَّهُ لم يزعجه بأي مزاحٍ أو حتى سؤال فقد كان الأمر يبدو هامًا جدًا بالنسبة إليه.
كان (زياد) في هذا اليوم مشغولًا كعادته بين كُرَّاسات الطلاسم وحاسُوبِهِ حين سَمِع طرقًا على بابه، فأجاب دون أن ينظر إلى الباب: ادخل.
كان الطارق (مروان) الذي دلف إلى الغرفة وقال:
- فهِّمْنى بقى يا عسل إيه حكايتك، ومتقولِّيش مذكرات وكلام فاضي، (سمية) بتقولِّي إنك بترجع من الشغل تدخل أوضتك ما بتطلعش منها إلا عشان تاكل وتدخل الحمام.
نظر (زياد) إلى (مروان) وقال مازحًا:
- انت إيه اللي جابك هنا؟
- مفيش كنت جاي أزور خطيبتي وأشوف صاحبي اللي تاني مرة آجي البيت ومايطلعش يقابلني.
- انت جيت مرتين في الأسبوع ده؟ مش كتير شويه ولا انت إيه رأيك؟!
- قال يعني انت أخدت بالك أصلًا إن أنا جيت، يابني انت بتبقى معايا في الشركة ومابتشوفنيش.
قالها واختَطَف أحد الكُرَّاسات من أمام (زياد) وقال:
- هي دي بقى المذكرات اللي واخداك مِنِّنا كده؟
قام (زياد) بسرعة ليستعيد منه الكُرَّاس وهو يصيح بحدة:
- بس يا (مروان)، الموضوع ده مش للهزار.
فتح (مروان) الكُرَّاس وهو يقول:
- هو انت في حاجة عندك مش للهزار ده انت بتبهدلني لما آجي هنـ،.
قطَعَ عبارته وتغيَّرت معالم وجهِهِ حينما رأى الطلاسم والرموز، وألقَى بالكُرَّاس من يده كما لو أنها أفعى ستقوم بلدغِهِ وهو يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إيه يابني ده، انت دَخَلْت على السحر والشعوذة؟
التقط (زياد) الكُرَّاس التي سقطت على الأرض وقال بغضب:
- أنا قُلتلك ماتفتحش الدفتر، الموضوع مش هِزَار.
- هو إيه اللي مش هزار يا بني، ماتفهِّمني، هي دي المذكرات بتاعة جدك إيه اللي بتقول عليها.
رفع (زياد) أحد الكُرَّاسات ليعرضها على (مروان) قائلًا:
- هي دي المذكرات، الباقي طلاسم ورموز خاصة بالجن.
قال (مروان) بانزعاج:
- ماتهزَّرش يا (زياد)، إيه ده بالظبط.
- أنا ماكنتش عاوز أدخَّلَك في الموضوع ده بس أعمل إيه بقى في مناخيرك الطويلة.
قالها وأخذ يروي له تفاصيل ما حدث منذ ذهابه إلى (الإسماعيلية) مرورًا بالمذكِّرات و(حمزة) وزيارته لزوجِ خالته ووصولًا إلى كُرَّاسات الطلاسم.
اختلَطَتْ علامات الدهشة على وجه (مروان) بعلامات الفزع وهو يقول:
- انت بتتكلم بجد ولا بتستعبط كالعادة.
- يابني مهو كل حاجة قدامك أهي، أنا كنت زيك كده بردو، بس بدأت أتأقلم مع الموضوع.
- يعني (حمزة) ده زار الحاج (سليمان) فعلًا؟
- أيوه، زارُه مرتين.
- طاب ليه مازاركش انت بدل كده؟
- مش عارف، في حاجات كتير لسه مش فاهمها.
- يعني في حاجات تانية انت فاهمها؟!
ضحك (زياد) بقوة وهو يقول:
- أنا مش عارف أنا ليه ماقلتلكش على الموضوع ده من بدري، انت الوحيد الي هتسليني في اللعبة دي.
- لعبة؟ لعبة إيه يا (زياد)، قوم يابني احرق الكتب دي واخلص منها، ماتدَّخلش نفسك في حوار انت مالكش دعوة بيه.
- مش قبل ما اعرف إيه الحقيقة المخفية اللي بيقول عليها (حمزة)، وليه عاوزني أقرا الكلام ده، خاصةً لما تِقرا الكلمتين دول.
قالها وأعطى له مذكرات جده الأكبر وطلب منه أن يقرأ الكلمات في الصفحة الأولى.
قرأ (مروان) بصوت مسموع: إن الحقائق الَّتِي اضْطُّر أصحابُها إلى إخفائها لَن تنْجَلي إلا إذا اجْتمَع الأحِبَّة، ونظَرُوا إلى تفاصِيلِها، وأشَارُوا إليْهَا بِدِقَّة، عندَها فَقَط سَيَتضِح للجميع ما يُمكِن لِرَابِطِ العَائِلَةِ أن يَحْمِل مِن قُوَّة.
ثم تابع: مش فاهم بردو، كلام عميق جدًا، إيه علاقته بقي بصاحبك العفريت قصدك يعني علشان استخدم كلمة الحقايق المخفِيَّة، وجدك هنا قال الحقائق التي اضطُّر أصحابها إلى إخفائها؟
- بالضبط، لمَّاح من يومك، المشكلة بقى إن اللي كاتب الكلام ده مش أبو جدي ولا حاجة.
- يعني إيه؟ هِيَّ دي مش مذكراته؟
- آه مذكراته بس لما فحصت الدفاتر كلها لقيت فيها 3 خطوط، الخط بتاع أبو جدي (جمال)، وخط تاني بتاع جدي (سعد) في دفاتر مكتوب عليها اسمه، والخط التالت المكتوب بيه العبارة دي بس، واللى اتكتبت بقلم جاف مش حبر زي الباقي وبخط مختلف عن باقي المذكرات.
- قصدك تقول إن العبارة مكتوبة جديد بقلم جاف على المذكرات مش بخط أبو جدك.
- تمام بدأت تفهمني يا عسل، بما إنه مش خط الحاج (جمال) الله يرحمه ولا خط جدي (سعد) الله يرحمه بردو، وبما إن المذكرات دي خطيرة وتعتبر إرث عائلي يتبَقَّى مين؟
- أبوك، مفيش غير أبوك اللي فاضل، هو الوحيد اللي ممكن يكون كتبها.
- تمام، انت فينك من زمان يا بني؟
- ماشي، فلنفترض إن أبوك هو اللي كتبها، بردو كلام مش مفهوم، الحقايق المخفية هتنكشف لما الأحبة يتجمعوا، مين اللي المفروض يتجمع علشان الحقايق دي تبان؟
قال (زياد) بأسى:
- أظن المقصود بيها أكيد عيلتنا، بس طبعًا بعد وفاتهم مفيش إمكانية إننا نتجَمَّع.
- طاب ما يمكن يقصد عيلته هو قبل ما يتجوز، جدك وجدتك وأبوك؟
- يعني إحنا صعب نتجمع بسبب وفاتهم، هنعرف نجمَّع اللي ماتو من 30 سنة؟
- ما يمكن يكونوا متجمَّعين أصلًا، مفيش صورة ليهم كلهم متجمعين فيها ممكن يكون كاتب على ضهرها حاجة.
- للأسف مفيش صور ليهم معايا خالص.
- طاب الصورة اللى كانت في غرفة المكتب في بيت (الإسماعيلية)، مش بتاعتهم؟
- مش عارف، ممكن، بس في الغالب لأ، لإن الصورة فيها طفلين مش طفل واحد وبابا ماكانش ليه إخوات.
ثم سكت قليلًا وهو يفَكِّر وقفَزَ من مكانه قائلًا:
- تصَدَّق إنك عبقري يا (مروان)، استنى هسأل الحاج على حاجة.
قالها وهَمَّ بمغادرة الغرفة إلا أن (مروان) استوقفه قائلًا:
- الحاج مش هنا يافالح مش بقولك انت مش عايش هنا.
أخرج (زياد) هاتفه واتَّصَل بزوج خالته، وما إن أجاب حتى قال:
- السلام عليكم، معلش يا حاج هزعجك شوية، هيَّا الصورة بتاعتي أنا وبابا وماما حضرتك جبتها منين؟
سكت قليلًا يستمع إلى ردِّه ثم قال:
- ماشي ياحاج معلش قطعنا عليك دور الطاولة، مش هعطَّلك أكتر من كده، سلام.
ثم قال لصديقه:
- زي ما توقعت الصورة كانت في الصندوق.
قالها وأخرج الصورة من درج الكومود وقال:
- أكيد هِيَّ دي الصورة المنشودة، بس مفيش حاجة على ضهرها ولا وشها حتى، الصورة دى أنا حافظ كل ركن فيها مفيهاش أي إشارة.
- ممكن علشان انت حفظتها من وانت صغير مش هتاخد بالك من التفاصيل، وَرِّيني كده.
التقطها (مروان) وأخذ يتفحصها قليلًا ثم قال:
- بص يا كبير، انت معندكش خبرة مع العيال الصغيرة، بس أنا عندي قرود في البيت متنكرين في هيئة عيال أختي، وطبعًا لو جيت أشيل أي واحد منهم على كتفي كده من غير ما أمسك إيديه الاتنين علشان مايقعش، في الغالب أنا اللي هبات في المستشفى ساعتها، إيد واحده مش كفاية إنها تمسك عيِّل على كتفك.
- ماشي فلنفترض أن أبويا ماكانش عارف تعليمات السلامة دي، إيه علاقة ده بالموضوع؟
- العلاقة إنه في الغالب مضطَّر إنه يسيب إيدك التانيه، وأكيد علامة (اللايك) اللى عاملها دي مش سبب مهم، غير إنها مكانتش منتشرة في الوقت ده في الصور، كمان مفيش حد بيعمل العلامة دي ويميل صابعه كده، في الغالب أبوك بيشاور على حاجة.
اختطَفَ (زياد) الصورة من (مروان) وألقى نَظْرةً متفحصة عليها، كان قد لاحظ مَيْل إصبع والدِهِ من قبل إلا إنه لم يُفكِّر هكذا، ربما لأنه لم يعلم من قبل أن الصورة قد تشير إلى شيءٍ ما، ورسم خطًا وهميًا مع ميل إصبع والده وقال:
- مفيش غير اليافطة اللي فيها اسم الشارع، (شارع المطرية)، مفيش حاجة تانيه مكن تتقاطع مع إشارته في الصورة.
- أيوه بس ده شارع كبير جدًا، إيه المطلوب بردو؟
ثم أخذ يتفحص الصورة ثانية وقال:
- قول معايا العبارة المكتوبة، إلا إذا اجْتمَع الأحِبَّة، ونظَرُوا إلى تفاصِيلِها، وأشَارُوا إليْهَا بِدِقَّة، اجتمع الأحبة ولقيناها، أشاروا ولقيناها، باقي إيه؟
أجاب (زياد) بسرعة: (نَظَرُوا).
والتقط الصورة متمَعِّنًا فيها، كان يظُنُّ طوال السنوات السابقة أن والدَهُ ينظر إليه، إلا أن زاوية ميل رأسه مع اتجاه حدَقَتَيْهِ، كانتا تتجاوزاه بالفعل، كان الفارق بسيطًا لكنه ملحوظ إلى حد ما، فأخذ يرسم خطًا وهميًا آخرًا في اتجاه نظرة والده فلم يتقاطع إلا مع رقمين مكتوبين يدويًا فوق بعضهما على الجدار في خلفية الصورة، فابتسم (مروان) قائلًا:
- دلوقتي معانا اسم شارع ورقم بيت وفي الغالب الرقم التاني رقم الشقة.
أكمل (زياد) عبارته:
- ومفتاح، الصندوق كان فيه مفتاح، طالما في شقة يبقى محتاجين مفتاح، إن شاء الله بكره أروح أدَوَّر على العنوان ده وأشوف إيه القصة.
هَمَّ بالاعتراض إلا أن خالة (زياد) اقتحمت الغرفة وعلى وَجْهِهَا علامات الذُّعرِ وفي يدها هاتفها وهي تقول في انزعاج: (سليمان) عمل حادثة وفي المسشتشفى.

***********

اندَفَعَ (زياد) و(مروان) و(عُمَر) إلى قاعة استقبال الطوارئ في مستشفى الدمرداش وأخذو يبحثُونَ عن الحاج (سليمان) حتى وجَدُوهُ على أحَدِ الأسِرَّة وَمَعهُ أحد أصدقائه، والذي أخبرهم أن سيارة مسرعة اندفعت عبر الطريق وهو يعبره واصْطَدَمَت به وألقته أرضًا وانطلقت مُسرعة فأحضره إلى المشفى حيث قاموا بإجراء الفحوصِ والأشِعَّات اللازمة واتَّضَح أن هناك كسر في قدمِهِ اليمنى وهو الآن في انتظار الطبيب ليقوم بوضع قدمه في الجبس.
كانت آثار البكاء بادية على وجه (عمر) وهو يقول: أنا هروح أشوف الدكتور فين.
دخل طبيب شاب إلى المكان وقال: أنا جيت أهو، الحمد لله الحاج سليم بس في كسر في رجله وهنضطر نحطها في الجبس 6 أسابيع، لو سمحتم بس تستنونا بره لغاية ما نخلص الجبس.
قال (زياد): ماشي ياحاج، إن شاء الله سليمة هنستناك بره.
أومأ (سليمان) برأسه موافقًا فاندفع ثلاثتهم إلى خارِجِ المكان، وعند خروجهم وقف (زياد) مصدومًا عندما رأى (شريف التهامي) المحامي الذي ما إن رآه حتى قال:
- يا محاسن الصُدَف، إيه يا بشمهندس بتعمل إيه هنا؟
أجابه (زياد) في حدَّة:
- انت اللي بتعمل إيه هنا؟
- سمعت إن واحد حبيبي عمل حادثة وهو بيعدِّي الشارع، عربية جايَّة بسرعة خبطته وجريت، ويا عيني رجله اتكسرت، فجيت أطَّمن عليه، ماتعرفش هو عامل إيه دلوقتي؟
لم يَكَد يُكمِل عبارتَهُ حتى فوجِئَ بقبضة (زياد) تصطدم بوجهِهِ في قوة واندفع (زياد) نحوه ليُسقِطَهُ أرضًا، وجَثَمَ على صدره وأتبَع اللكمة الأولى بثانيةٍ وثالثةٍ حتى استطاع (عمر) و(مروان) الإمساك به ورفعاهُ من فوق المحامي الذي سَالَت الدماءُ من أنفِهِ وفَمِهِ فوقف يبصُق الدِّماء قائلًا:
- على العموم هنتنقابل تاني.
قالها وانصرف مغادرًا، فقال (مروان):
- انت شاكك يكون ليه علاقة بالحادثة؟
- ده وَصَف اللى حَصَل بالتفصيل، أنا مش عارف الحيوان ده عاوز مِنِّي إيه؟
- اهدَى بس، نطمِّن على الحاج وبعد كده نشوف الموضوع ده.
انتهى الطبيب من وضع قدم (سليمان) في الجبس وأخبرهم أنه يمكنهم اصطحابه للمنزل مع الحفاظ على الأدوية الموصوفة.
وفي طريق العودة مال (مروان) على صديقه قائلًا:
- اعمل حسابك هنرُوح بكرة العنوان مع بعض، وإيَّاك تروح لوحدك.
هم بالاعتراض إلا أنه تذكر أنه لا يعرف ما ينتظره بهذا العنوان وأن بعض المؤازرة لن تضر فأومأ برأسه موافقًا وعلامات القلق لا تزال تغزو وجهه.

ميثاقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن