أخذ (زياد) يتقَلَّب في فراشه ولم يستطع النوم بعدما أرشده (يورقان) إلى حجرةٍ أخرى ليبيت بها ليلته، كان أكثر ما يشغله هو (مروان) و(أمل) وهل هما بأمان بالفعل كما يقول (حمزة) أم أنه يدَّعي هذا ليَبُثَّ في نفسه الاطمئنان.
كان الجو شديد الحرارة فقرَّرَ الذهاب إلى الخارج ليتنَسَّم بعض نسمات الهواء الباردة ولكن أحد الحراس اعترض طريقه فقال (زياد) بغضب:
- أعتقد إن أنا مبقتش سجين خلاص!!
قال الحارس:
- لقد أمرني السيد (يورقان) بحراستك وأن أحرص على ألا تتسَلَّل مجددًا.
كاد (زياد) يصرخ في وجهِهِ ليُحضِرَ سيدَهُ هذا ولكن صوت (حمزة) أتى لنجدته كالعادة قائلًا:
- اتركه يا (قادريل).
تنحى الحارس جانبًا على الفور وخرج (زياد) ليجد (حمزة) مستلقٍ على ظهره فوق رمال الجبل يتأمل السماء فقال غاضبًا:
- صاحبك (يورقان) ده غريب جدًّا، أنا مش عارف انت مستحمله إزاي، أنا لو مكانك كنت سلمته لـ(آزريل) من زمان.
ضحك (حمزة) وهو لا يزال مستلقيًا وقال:
- لو كنت أنا مكانك لكنت أكثر حذرًا من أن أقول هذا، فلو سمعك (يورقان) لما استطعت أن أقنعه بأن يتركك حيًا هذه المرة.
جلس (زياد) أرضًا بجواره وقال وهو لا يزال غاضبًا فتابع (حمزة):
- اعذره يا (زياد)، فهو له أكثر من خمسين عامًا مُطاردًا ومشتًّتًا بين عشائر الجن هو وأهله يهربون من (آزريل) وأعوانه، هذا كفيل بأن يفقد الثقة بي شخصيًا.
بدأت علامات الغضب على وجه (زياد) في الزوال وقال:
- بصراحة ربنا يعينه، ده كفايه عليه ملامح وشُّه، كلها غضب بشكل مش طبيعي.
- لا تغُرُّك ملامح وجهه الغاضبة، فهو يمتلك قلبًا حنونًا لن تستطيع اكتشافه إلا عندما تراه يُداعب الأطفال، لك أن تتخيل أن جميع الأطفال في هذا المكان يحبون (يورقان) أكثر من آبائهم.
- بصراحة مش هقدر أتخيل ده نهائي، (يورقان) بيلعب مع الأطفال!!
ضحك (حمزة) قائلًا:
- أنت على الأخص ينبغي ألا تندهش، فلقد حملك حينما كنتَ طفلًا واهتم بك يومًا كامِلًا حتى استطاع تسليمك إلى خالتك.
اعتدل (زياد) في جلسته وقال:
- هو ده،
قاطعه (حمزة):
- الجني الوحيد الذي ائتمنه (سعد) عليك في غيابي، كان من المفترض أن يتواصل هو معك حينما تُتِم دراستك، ولكن تم وضع تعويذة عليه تكشفه حال تشَكُّلِه في عالمكم بعدما علم (آزريل) من مصادره تواجده أحيانًا في عالم البشر، فلم يستطع إتمام مهمته واضطُّرِرت أنا لاتخاذ بعض الخطوات الخطيرة لأتمكن من التواصل معك حينما أصبح لا مفرَّ لي من ذلك.
ضحك (زياد) بشدة واستلقى على ظهره بجوار (حمزة) وقال:
- أكيد أنا طبعًا كنت ولد مؤدب جدًا وإلا كان ولَّع فيَّا.
ابتسم (حمزة) ولم يرد فتابع (زياد):
- انت تعرفه من زمان؟
- لقد تربَّيْنا معًا فهو يكبُرُني بعامٍ واحد، هو أشبه بأخي المزعج والمخلِص في نفس الوقت، هل تعلم أنك و(مروان) تُذكِّرانِي بي أنا و(يورقان) بشكل كبير، هل أخبرتُك من قبل أنني كنت خاطبًا لأخته.
اعتدل (زياد) وقال مازحًا:
- أوبَّا بقى، (حمزة) اللي رايح جاي ما بين العوالم، مخترع البوابة الوحيدة بين عالم الإنس والجن، واللي عنده 130 سنة ولسه متجوزش لغاية دلوقتي مش عارف إزاي يعني، طلع عنده مشاعر عادي أهو، وبيحب وبيخطب زيِّنا.
قال (حمزة) دون أن ينظر إليه:
- يقول هذا من لم يستطع النوم قلقًا على محبوبته.
كرَّر (زياد) متسائلًا:
- محبوبتي؟
أغمض (حمزة) عينيه وقال:
- نعم محبوبتك.
قال (زياد) في ارتباك:
- تقصد (أمل)، الموضوع مش زي ما انت بتظُن.
قرَّب (حمزة) وجهه من وجه (زياد) وحدَّق بعينيه مباشرة وقال:
- وماذا تَظُنُّ أني أظُن؟
حدَّق (زياد) بدورهِ بعينَي (حمزة) قليلًا ثم أشاح بوجهه وقال:
- خلاص ماشي، بس بردو الموضوع مش لدرجة حب، مش هنكِر إنِّي معجب بذكائها، وبشجاعتها، ورقتها، وجمالها طبعًا، بس الموضوع موصلش لدرجة حب.
- يجب أن ترى وجهَكَ في المرآه لترى نظرة السعادة والابتسامة اللَّتَانِ تَعلُوَان وجَهَك وأنت تتَحَدَّثُ عنها، حتى تعلم أين وصَلَت مشاعرك وأنت لا تدري.
أزال (زياد) سريعًا الابتسامة التي ارتسمت على وجهه لا إراديًا وقال:
- هو أنا باين عَلَيَّا مدلوق كده بجد؟
أومأ (حمزة) برأسه موافقًا دون أن يتكلم، فتابع:
- بس أنا معرفش عنها حاجة، ده أنا لسه عارفها من أسبوعين تقريبًا، وممكن تكون مرتبطة بحد تاني.
- ليست كذلك.
قال (زياد) بدهشة:
- إيه اللي عرفك؟
- ليست خالتك وحدها من أجرت تحرِّيَّاتها، لقد تحرَّيْتُ عن جميع معارِفِها وأصدِقَائِها بمجرد دخولها لمنزل جدك، فمن الطبيعي أن أحاول معرفة سبب اهتمامها بالمنزل.
قال (زياد) بلهفة:
- يعني مفيش حد في حياتها خالص.
أومأ (حمزة) برأسه إيجابًا فتابع: بس بردو معرفش هيبقى رد فعلها إيه لو صارحتها، افرض لو أحرجتني.
- أنت بالفعل تدهشني يا (زياد)، تمتلك الشجاعة لتغامر بدخول عالم يعتبر مرعبًا لأكثر بني جنسك، وتحاول الهروب من جبلٍ مليء بالجِنِّ الأقوياءِ الأشداءِ، ولا تمتلك الشجاعة لتعرف ما هو رد محبوبتك.
- أكدب عليك يعني، أنا أصلًا جبان جدًا في الحاجات دي.
- حسنًا، كما تريد.
ونظر إلى السماء مُتَصَنِّعًا اللامبالاة وتابع:
- وأنا من كنت أتخيل أنك تريد أن تعرف أنها أصيبت بانهيار عندما علمت بأمر اختطافك حتى أن عينيها تورمت من شدة البكاء.
قال (زياد) بلهفة:
- بجد؟
- ليس هذا فقط، فلقد كان عليَّ إقناعها هي و(مروان) بأي مبرر لاختطافك، فانتهزت فرصة اختفاء المذكرات وأخبرتهما أن سبب اختطافِك مُرتبِط بالمذَكِّراتِ والأوراق التي وجدناها في الصندوق، ومن اختطفك فعل ذلك ليجبرك على فك شيفرتها.
- هيَّا المذكرات اختفت؟
- نعم، على الأرجح (آزريل) قام بسرقتها، ولكن الشَّاهد هنا أنها فَوْرَ عِلمِهَا بهذا الأمر، لم يهدأ لها بال حتى فكَّكت شيفرة الأوراق وتوَصَّلَت إلى ما كان (سعد) يريد إخبارنا به، على أمل أن يفيدنا هذا في التفاوض لإعادتك إذا اضطُّرِرنا إلى ذلك.
- بجد، يعني فهمتوا الورق؟
شرح له (حمزة) ما توصلت (أمل) إليه وأن الأمر متوقِّف الآن على العثورِ على المذكِّراتِ، فقال (زياد):
- يعني انت عاوز تفَهِّمني إن لولا التمثيلية بتاعة الخطف دي مكانتش (أمل) هتهتم بفك شيفرة الورقة.
- يبدو هذا.
استلقى (زياد) على ظهره هو الآخر وأخذ يتطلع إلى السماء بدورِهِ، كيف لم يَلحَظْ من قبل جَمَالَ السَّماءِ ورَوْعَتها، ذلك القَمَرُ المضِيء وَسَط ظُلُماتها الحالِكَةِ، وتلك الابتسامةُ السَّعيدة الواسعة التي تعلو وجْهَهُ المنير والتي أوْرَدَتهُ بَحرًا من الأماني لا شاطِئَ لَهُ، وتلك النجوم المتناثرة كاللآلئ اللامعة على صَفحَةِ السماءِ الوَاسِعَةِ تنسابُ في نُعومَةٍ لترسُم آمالًا وأحلامًا طَال انتِظَارُها.
استغرَقَ تأمله الصامت للسماء بعض الوقت وعلى وجهِهِ ابتسامةٌ حالمة فقاطَعَ (حمزة) تلك الأفكار قائلًا:
- يبدو أن رحلتك في اكتشاف السماء بدأت في وقتٍ غير مناسب على الإطلاق.
سكت (زياد) قليلًا ثم قال بخبث:
- بس واضح إنك انت اكتشفتها من زمان.
قال (حمزة): إذا أردت نصيحتي يا (زياد) فالحبُّ ليسَ كَما تَتَخَيَّل، اسمَعْهَا من رجلٍ يفوقُ عمره عُمر جدك الأكبر، الأمر ليس إعجابًا بجسدٍ جميلٍ وعقلٍ راجحٍ، الأمرُ يفوقُ ذلكَ بكثيرٍ، فهو كامتزاجِ كيانَيْنِ في جَسَدٍ واحدٍ بحَيثُ يصبح انفصَالهَما يحتاجَ إلى عملية جراحية ستنتهي بموت أحدِهِما إن لم يكن كِلَيْهِما، لم يكن كافيًا بالنسبة لي تهديدات أبي وتوسلات أمي رحمها الله لأنسى "درة"، فالأمر ليس سهلًا أو يسيرًا لأنساها، حتى وإن كان سهلًا، فهل من المتوَقَّع مني أن أحاول نسيان جُزءًا من كياني لمجرَّدِ أنني أستطيع ذلك، لم يفلح أي رجل مهما بلغت مكانَتُهُ في العشيرة أن يقنعني بأن أباها خائن، فكيف لخائِنٍ أن يربيَ ملاكًا، لم تفلح علامات الزمن وبؤس الفقر والمطاردة التي مرَّت بها في أن تزيح وجهها الساحر من أحلامي ليلًا وتخيلاتي بلقياها نهارًا، لم يفلح استِتَارها عنِّي حينما تعلم بوجودي بالجبلِ واختفاؤها عن ناظري في إرغامي على نسيان تفصيلةً واحدةً من تفاصيل وجهِهَا الرقيق، لقد افترقنا منذ أكثر من خمسين عامًا، قَضَيْتُ أكثرَ منهم قبل لقائِهَا هائمًا على وجهي بين عالم الجن وعالم البشر لا أعرف لقلبي قِبلة ولا لعقلي ملاذًا، حتى التقيتها وعرفت أنها قِبلتي وملاذي، خمسون عامًا من الفراق لم تنجح في تغيير مشاعري تجاهها ولو بمثقال ذرة، فلازالت (دُرَّة) حياتي ومهجة فؤادي.
كان (زياد) ينظر إليه بدهشة دون أن ينبس ببنت شفه فابتسم وتابع قائلًا:
- لماذا أنت مندهشٌ هَكَذا، لا يمنع كوني محاربًا قويًا أن أشعر بالحب أنا أيضًا.
هز (زياد) رأسه وكأنه يستوعب الأمر:
- مش موضوع محارب، أنا لغاية أسبوعين فاتوا كانت فكرتي عن الجن إنهم مجرد كائنات مش مهتمة غير بإيذاء البشر، ودلوقتي أكتشف إنهم مش بس فيهم أفراد صادقين بيدافعوا عن قضية، ومش بس أصدقاء أوفياء بيخلصوا لبعضهم، لا دول كمان عندهم مشاعر وبيحبُّوا زينا.
- المشاعر الصادقة ليست خاصَّة بجِنسٍ دون آخرٍ، بالعكس إن المشاعر والروابط الأسرية لدينا تحظَى باهتمامٍ أكبر بكثير من عالمكم المشَتَّت اجتماعيًا، إن رابط العائلة لدينا يبدأ فور عقد القران بل فور ارتداء خاتم الخطبة ولا يَنْفَك إلا بالموت أو لأسباب قهرية أباحها الشرع،.
قاطعه (زياد) فجأة قائلًا:
- رابط العائلة.
كرَّر (حمزة):
- نعم، رابط العائلة.
- أنا إزاي ما أخدتش بالي من الموضوع ده، خاتم الخطوبة أو خاتم الزواج هو رمز لرابط العائلة صح كده؟
- بالطبع، وما الغريب في هذا؟
- الغريب إن الكلمة دي اتذكرت زي ما هِيَّا كده في مذكرات جدي، وكان بابا الله يرحمه هو اللي كاتبها، العبارة اللي وصلت من خلالها لعمتي، "عندَها فَقَط سَيَتَّضِح للجميع ما يُمكِن لِرَابِطِ العَائِلَةِ أن يَحْمِل مِن قُوَّة " رابط العائلة هو خاتم جواز بابا، واللي كان قبلها مع جدي، تفتكر في قوة أكبر من قوة الصولجان ممكن يكون الخاتم بيحملها؟
اعتدل (حمزة) جالسًا وقال باهتمام:
- هل أنت متأكد أن خاتم والدك كان لـ(سعدٍ) من قبله؟
- أيوه، أنا شُفتُه في الصور اللي عند عمتي، ولفت انتباهي طبعًا لإنه معايا دلوقتي.
- إذا كان (سعد) قد امتلك هذا الخاتم فبالتأكيد في فترة حبسي لأني لم أرَه بيده من قبل، أي بعد أن استطاع التعامل مع قطعة الصولجان.
- هى القطعة دي أد إيه؟
- القطعة التي تخُصُّ قبيلتنا كانت عبارة عن حجرٍ أحمرٍ مستدير يعلو الصولجان نفسه، وإذا كان كلامُك صحيحًا فعلى الأرجح أن حَجَرَ الخاتَم هو حَجَرُ الصولجان ولكن جدَّك غيَّر حجمه بعد أن استطاع التعامل معه فإن أمكنه تدميره فهو بالتأكيد يستطيع إعادة تشكيلِهِ، هذه تعويذة شائعة لدينا، ولكننا لم نستطع أن نقوم بها مع قطع الصولجان، ولكن هناك إشكالية في هذه الافتراضية، وهي أن (مصطفى) لم يكن يعلم بمكان القطعة من الأساس، فهو كما تعلم لم يُرِد أن يتعامل معنا حتى وفاة جدك، فكيف يخبرك بمكان شيءٍ لا يعرف هو مكانه؟!
- انت واثق إن جدي ماعرَّفوش مكانها؟
- أنا على يقينٍ أنه لم يخبره حتى سُجِنت، وبعد خروجي كان جدُّك قد توفاه الله ووالدُكَ أكَّد لي أنه لم يخبره بمكَانِها.
- ولكن بابا مكانش بيثِق فيك زي ما انت ما قلت، وارِد جدًّا إنه يكون جدِّي قالُّه على مكانها وهو قرَّر أنه مَيْقُولَّكْش.
- هذا واردٌ بشدَّة، خاصةً إن أوصاه (سعد) بكتمان مكانها عنِّي كما كان اتفاقي مع (جمال).
- طاب احنا مستنيين إيه تعالى نرجع بسرعة للقصر نجيب الخاتم.
- أليس الخاتم معك؟
قال (زياد) بارتباك:
- لا، نسيت ألبسه تاني بعد ما كنت باخد دش قبل ما نروح البرج، هتلاقيه في حمام الغرفة اللي نمت فيها أنا و(مروان).
انتفض (حمزة) من مكانه وقفز ثلاث قفزات سريعات أوصلته إلى سفح الجبل وامتطى إحدي الدواب وانطلق مسرعًا إلى القصر.
لم يتحرك (زياد) من مكانه حتى أذَّن أحدهم لصلاةِ الفجرِ، فَصلَّى مع الحُرَّاس وجَلسَ مستندًا برأسه إلى الجبل في انتظار (حمزة)، وما إن أشرقت الشمس حتى لمح (حمزة) قادمًا من بعيد على ظهر دابته التي تثير النَّقْعَ من حولِها، وما إن وَصَل إلى سفح الجبل حتى ترَجَّلَ وصعد الجبل في خطواتٍ سريعةٍ وصل بها إلى (زياد) وقال في أسى:
- لقد اختفى الخاتم.
![](https://img.wattpad.com/cover/361195199-288-k42997.jpg)
أنت تقرأ
ميثاق
Horrorأخذ يُقَلِّب الدِّماءَ مع رَمَادِ الورقة ثم سَكَبَها على يده اليمنى وطلب من (زياد) أن يمد له كفَّهُ اليمنى وأطبق عليها بكَفِّه المملوءة بالدماء وأخذ الخليط يتساقط من كفَيْهِما وقال: ردد معي ما أقول.. بسم الله الملك.. قاهرِ الجبابرة.. ومالكِ الدنيا و...