أن يعيد صياغة نفسه. لكن الدروب كلها كانت مسدودة في وجهه، إلا درب المشرحة التي فتحت له بوابتها الحديدية على آخرها. كل شهر، وفي نهار أول جمعة بعد استلام الراتب، كانيذهب إلى شارع المتنبي ليشتري الروايات والكتب الفلسفية والدينية والمجلات الفنية المتخصصة بمتابعة المشاهير وخاصة الممثلين والممثلات، وهذا ما منحه لقب (الفيلسوف) بين موظفي وعمال المشرحة سواء من باب السخرية أو الاحترام. كان معظم الأطباء أثناء مناوبتهم الليلية في المشرحة يستعيرون منه المجلات الفنية طرداً للضجر لذا كانوا يجاملونه أيضاً ويمزحون معه. وعلى الرغم من أنه انقطع عن الذهاب إلى شارع المتنبي وساحة التحرير منذ أشهر، فإن غرفته مليئة بالكتب والمجلات وأقراص الأفلام المدمجة.
كان يحس بعزلة داخلية قوية وبشعور حاد بأنه وحيد ولا أحد يفهمه. يؤمن بأن عالم الإنسان الداخلي هو المهم، فهو الجوهر، وكل ما عدا ذلك ليس إلا القشور العلاقات الاجتماعية وعلاقات العمل بل وحتى العلاقة الزوجية ليست إلا القشرة التي تحيط بالوجود الإنساني، فالإنسان، كما كان يعتقد، وحيد في كل الأحوال، وإن إمكانية التواصل البشري هي محاولة يائسة، فالإنسان كائن مرعوب، وحيد، وأن المجتمع ليس إلا الدليل على محاولة الإنسان الفرد للهروب من الوحدة.
كان متقوقعاً على ذاته. يخاف الناس في أعماقه. يخاف كل الموظفين في المشرحة. يخاف الأطباء والإداريين. يخاف الجنود
الأجانب، بالرغم من أنهم أكثر تهذيباً من بعض الجنود العراقيين الذين يمر بهم عند نقاط السيطرة التي يعبر منها أحياناً. كان يخاف
نظرات السابلة في الشوارع. يحس نفسه أحياناً أنه قريب من القنفذ،
الذي يتقوقع على ذاته. الإنسان الوحيد الذي لا يخاف منه، من بين الأحياء، هو بائع الأقراص المدمجة الذي يشتري منه الأفلام. أما الموتى، جثث الموتى، فهم الأصدقاء الذين لا يخافهم بل ويتعاطف معه، ويحترمهم لأنهم عبروا حاجز الحياة ودخلوا في المنطقة الأخرى حيث لا شعور بالألم، بل كان يحس بالإشفاق على أهلهم الذين يراهم يتوافدون على المشرحة عند وصول جثة ما متباكين أو نائحين. يشفق عليهم لأنهم لا يدركون بأن أحبتهم تجاوزوا المعاناة والألم في هذه الدنيا، ويشفق عليهم أيضاً لأنه يرى عمق
الألم والفقدان الذي يعانيه هؤلاء الأهل.
أحياناً، بعد منتصف الليل كان ينسل من غرفته، كالقنفذ، ليدخل إلى قاعة التشريح فيتأمل الجثث بلا خوف أو رهبة، مهما
كانت بشاعة المنظر، من حيث إن الكثير من الجثث تأتي مشوهة أو ناقصة. قليلة جداً تلك الجثث التي تبدو كاملة لأن أصحابها
إما ماتوا في المستشفى أو لأسباب صحية في بيوتهم. كانت تتشكل لديه علاقات خاصة مع بعض الجثث، فحينما
يأتون بجثة ما ويشعر بإحساس التعاطف معها فإنه يتتبع وضعها لحين إخراجها من المشرحة، بل ويعتني بها أيضاً، حيث يذهب إلى قاعة المشرحة أو قاعة الثلاجات ليراها أو ليغطيها أو يعدل من وضعها.
كان يشعر بالحب تجاه بعض جثث النساء الشابات. مرة أحب جثة فتاة قروية في الثامنة عشرة من العمر، ماتت نتيجة تلقيها طعنة في القلب من أخيها الذي يصغرها بسنتين في العمر، لأن أهلها
أنت تقرأ
مشرحة بغداد
Terrorرواية مرعبة جداً،تحاكي من زاوية أخرى الوجع العراقي الذي لا يريد أن يصل إلى نهاية أبداً،يبقى الستار مفتوحاً أن اعتبرنا العراق أكبر مسرح على الأرض ، يعرض أكثر المسرحيات تراجيدياً،حيث تقوم الجثث بأداء أدوار خانقة ، ويكون الديكور أشلاء ودماء الضحايا الأ...