الأعلى. كان يتحين الفرص للصعود إلى هناك، لكن لم تؤاته أية فرصة حقيقية لإرواء فضوله. دائماً يجد مساعد الطبيب متربصاً له، وكأنه يعرف نواياه، ففي أي وقت من الليل يصعد إلى الطابق الأرضي ناوياً الصعود إلى الطابق الأعلى يظهر له مساعد الطبيب في الممر، أو عند الاستعلامات أو نازلاً من الطابق الأعلى، أو خارجاً من باب إحدى غرف الموظفين المغلقة، ليسأله عما يريد، ولماذا هو يريد الصعود، فيخبره بأنه نسي أن يفتش الغرف إن كانت مغلقة بالمفتاح أم لا ؟ فتأتي إجابة المساعد بأن واجبه هو أن يقوم بحركة التفتيش الليلة قبل منتصف الليل، وليس من حقه أن يقوم بذلك بعد منتصف الليل، وفعلاً، فإن الحارس آدم منذ عمله كحارس في المشرحة يقوم بالتفتيش في المشرحة ليلاً، ودائماً قبل منتصف الليل، ولم يحدث أن قام بذلك حتى هذا الوقت، غير أن الأصوات التي يسمعها والحركة الواضحة التي يشعر بها
تحدث بعد منتصف الليل، وبعد أن يقوم بجولته الليلية.
دخل الحارس آدم إلى غرفته في الطابق تحت الأرضي. جلس على الصوفة الجلدية، انتبه إلى أن الوقت هو العاشرة ليلاً. فكر أن بغداد غارقة الآن في الظلام، الخوف والغدر والموت يتربصان في كل زاوية ومنعطف وزقاق فيها. لم يكن يعرف ماذا يفعل، هل يبدأ بجولته الليلية في المشرحة، أو ينتظر قرب حلول منتصف الليل؟ أجال النظر في غرفته. الكتب التي اشتراها من شارع المتنبي
تتراكم فوق بعضها على طاولة في الجانب الآخر من الغرفة الصغيرة، وعند رأسه مجموعة من الكتب وأقراص الأفلام (دي في دي). لا يعرف لِمَ ، وكيف تذكّر أبيات شعر مترجم لشاعر
إنكليزي، فردّدها مع نفسه: قد سمعت صوت المفتاح يدور في الباب مرة، ولا يدور إلا مرة نحن نفكر في المفتاح، كل في سجنه يفكر في المفتاح، كل منا لا يتثبت من سجنه إلا عند حلول الليل...انتبه إلى أن حياته الحقيقية تبدأ في الليل أيضاً، ويتحقق من عالم الأسرار في الليل أيضاً، فكل ما يدور في النهار من حركة للمراجعين، ونقل للجثث، وتشريح لها، لا يكاد يكون هو العالم الحقيقي والواقعي، وإنما في الليل، حينما تخلو المشرحة من دبيب الناس وحركتهم، وبالتحديد بعد منتصف الليل، حيث تبدأ الحركة الحقيقية في الطابق الأعلى، إذن هل عليه أن يتثبت من سجنه كما تقول القصيدة. هل هو معزول وسجين في المشرحة أو حارسها، وحارس الجثث التي ترقد فيها ؟
ظل جالساً، ومفكراً في عدم رؤيته أي شيء يثير التساؤل حينما يقوم بالتفتيش ؟ لذا قرر أن يتأخر في جولته هذه الليلة إلى ما بعد منتصف الليل. ولكي يقضي الوقت المتبقي في غرفته، ضغط على الريموت كونترول فبدأ التلفزيون يبث برنامجاً حوارياً سياسياً، فضغط متنقلاً بين المحطات التلفزيونية التي كان معظمها يبثّ برامج حوارات سياسية، وهو بطبعه يكره السياسة والسياسيين، لا سيما وهم يتحدثون بطريقة تكاد تكون واحدة، بل أحياناً يرى
بعض من يُطلق عليهم اسم المحللين السياسيين يظهرون في أكثر
أنت تقرأ
مشرحة بغداد
Terrorرواية مرعبة جداً،تحاكي من زاوية أخرى الوجع العراقي الذي لا يريد أن يصل إلى نهاية أبداً،يبقى الستار مفتوحاً أن اعتبرنا العراق أكبر مسرح على الأرض ، يعرض أكثر المسرحيات تراجيدياً،حيث تقوم الجثث بأداء أدوار خانقة ، ويكون الديكور أشلاء ودماء الضحايا الأ...