سر الموت

206 7 0
                                    

أحد يعرف سر الموت، ولا أحد يعرف لغز الحياة. بل إنه أحياناً يشارك حجج الماديين في أن الحديث عما بعد الموت هو أوهام وخيالات الأحياء نتيجة خوفهم من الموت، فما من أحد عاد من

الموت ليخبرنا عن سره.

أحياناً كان يفكر بهؤلاء الفلاسفة الذين يحترم تفكيرهــم الفلسفي وتأملاتهم، ويسأل نفسه كيف دوّنوا تلك الترهات فهم يتحدثون عن الحساب في القبر وأهواله، ثم يسأل نفسه: ماذا عن مئات الملايين من الهنود الذين تم حرقهم وأُلقي برمادهم في الأنهار المقدسة ؟ كيف سيحاسبهم منكر ونكير؟ وماذا عن المسيحيين الذين يؤمنون بأن السيد المسيح هو مخلصهم وهو

الذي تحمل ذنوب البشر كلها؟ كان يجلس لفترات طويلة مفكراً في البشر، وكيف هم يسمون هذا الكوكب الأرض، بينما الأرض لا تشكل سوى سدسه؟ فالبحار

والمحيطات هي التي تحتله، أي أنه كوكب الماء.

كان يفكر في هذه الأرض التي هي أصغر من حبة رمل صغيرة في هذا الكون المترامي الأنحاء والذي يزدحم بعشرات المجرات الهائلة ومليارات المليارات من الكواكب والنجوم؟ أحقاً أن هذا الكون كله خلق من أجل الإنسان؟ من أجل هذه الكتلة من السوائل الكريهة والبول والبراز والفضلات النتنة؟ هذه الكتلة

من الغرائز والرغبات ؟

لم يعتقد الإنسان أنه سيد الأرض؟ بينمـا عـدد الأشجار

تفوق عدد البشر مئات المرات؟ أيهما أجمل وجوداً، الأشجار أم الإنسان؟ الأزهار أم الإنسان؟ أين هي يا ترى تلك الأفكار العظيمة والتأملات الفلسفية الهائلة ؟ أين شطحات الصوفيين؟ أين

عالم النور الذي غنّى له الشعراء والمصلحين؟ أين الأفكار العظيمة التي تعذب المفكرين، وقتلوا، وصلبوا، وأعدموا، من أجلها؟ هل جثث هؤلاء تختلف عن جثث عامة الناس؟ أين هي الحقيقة؟ أين

هو الجمال؟ أين هو الخلاص؟ لكن بالرغم من أنه يعمل في المشرحة منذ حوالى سنة وثلاثة أشهر، إلا أن هذه الأفكار والتحولات النفسية والفكرية التي تعرض لها وعاشها كانت نتيجة تعامله اليومي مع الجثث البشرية في أبشع

صورها.

كان يفكر في الأحياء من خلال حقيقة موتهم، ونهاية دورهم في الحياة، وليس من خلال تأمل الحياة الواقعية، التي يعيشها هو أيضاً، لذا ارتعب حينما شاهد الفيلم عن ذبح الشاب هادي في

حوض الحمام في بيت أحد الأعضاء المهمين في الدولة. كان ثمة حاجز خفي بين الحياة والموت، شعور تعود عليه،

واستمده من الأطباء ومساعديهم، شعور يتلخص في أن الجثة ليست بشراً، ولا يمكن التعامل معها على هذا الأساس. هي جسد ميت بلا روح كتلة من اللحم والعظام المغطاة بالجلد. ذبيحة يمكن التعامل معها بلا أي شعور بالذنب أو الإحساس بالتعاطف.

لكنه كان يقاوم مثل هذا الشعور. لم يكن يستطيع ألا

يقرن الجثة بشخصية صاحبها أو لا يفكر فيها بأنها كانت تنبض

بالحياة، وكانت لها مشاعرها وأحلامها وأحقادها وتأملاتها الفكرية والعقائدية، مثلما يتأمل هو الآن هذا الإحساس كان يعذبه ويتركه

في حالة تناقض وصراع نفسي مستمر.

مشرحة بغدادحيث تعيش القصص. اكتشف الآن