بَحثت كثيراً عن كلمات تعبر عن شعورها ولكن .. لا شئ!
إختفت الكلمات ، والمعاني غير مُعبرة ..
شعورها غير قابل للوصف
هو ألم وعذاب ..
هو حسرة وكسرة ..
هو جرحاً أصابها ونزفه يزداد ..
نزفٍ ووجع يشغل داخلها طاقة إنتقام وغضب..
شعور بالإختناق يسحب أنفاسها من قلة الحيلة والعجز
وفجوة تتسع ولن تنغلق إلا بإمساكها به وقتله!
تخليص حقها وحق جسدها المُنتهك ، إنتقام منه ومن مَن مثله ولكن .. مَن هو !
سالت دموعها برجفة ، تنظر بصمتٍ وشرود للفراغ أمامها ، من سيأتي بحقها المسلوب ، إلي من تلجأ وتشكو ومَن سيسمع ويتفهم ..
من سيري ظُلمها وألمها قبل أن يري العار والشرف !
وللأسف تلك هي الأنثي !
ضمت ركبتيها إلي صدرها وإزداد نشيجها ولا يوجد بيدها غير الإختباء والهرب !
*****
جلس موسي أمام حاسوبه الخاص يتابع أعماله عندما طرق الباب وأقبلت عليه سكرتيرته الخاصة
- مستر تامر وصل يافندم
قال ممسكاً ببعض الأوراق يتفحصها
- تمام خليه يدخل
أومأت بإحترام وخرجت تنفذ امره
أقبل تامر وعلي وجهه إبتسامة عريضة
- موسي باشا واحشني ياراجل
نهض موسي ضاحكاً
- إنت اكتر والله .. ايه يا عم مختفي فين
قال تامر بإرهاق واضح
- مفيش انت عارف السفر بقي وانا دلوقتِ قربت أخلص الورق عشان بفكر أصفي الشغل بره وأرجع بقي
وتابع ببسمة مشيراً للمكان حوله
- هرجع ها ..
ضحك موسي قائلاً
- والله براحتك بس لو رجعت وعد هندخل شغل سوا منا برده مش هسيبك تحتاس وهعطف عليك
قهقه تامر ووضع قدم فوق أخري
- ماشي يا سيدي كلك ذوق ، عموماً انا مسافر ومش هنزل قبل خمس شهور كده ولا حاجة عشان أبقي نهيت كل حاجة خالص ومرجعش تاني بقي
وتابع بمكر هامساً
- مع إن اللبنان جميلة اوي اوي اوي ياموسي
ضحك موسي بشدة حتي ظهرت نواجذه قائلاً من بين ضحكاته
- طول عمرك صايع سبحان الله مبتتغيرش .. بس توصل بالسلامة يا عم وابقي هاتلك عروسة من هناك بدل أعدتك دي
شرد تامر قليلاً وكأنه يفكر في شئ ما ثم إبتسم بأمل
- لا انا هتجوز مصرية بس لما الاقيها
ضيق موسي عينه وقال بسخرية
- الله الله ، هي السنارة غمزت في واحدة تايهة ولا إيه ؟!
إبتسم تامر إبتسامة جانبية وأجاب سعيداً
- لا تايهة ولا حاجة أنا لقتها خلاص بس إعتبرها مسافرة كده و اول ما ترجع هعرفك عليها أكيد
نظر له موسي بتفكير وقال بخبث
- انا هتغاضي عن العجين اللي عجنته دا لاني مفهمتش ، وتابع غامزا
- بس شكلها سر جميل عموما ً اهه مستنيين
بعد قليل ذهب كلاً من تامر وموسي الي باب المكتب الضخم وودعه موسي بحرارة علي أمل بلقاء قريب ثم تحدث الي سكرتيرته
- لو سمحت هاتيلي الفكسات اللي جت وإتصليلي بفرع أمريكا ووصليني بيه
- اهلا يا بابا إزيك ؟
- الحمدلله تمام .. إنت اخبارك ايه واخبار الشغل ؟
أضجع في مقعده بأريحية وقال بخيلاء
- لا كله تمام ونقول مبروك أنا خدت صفقة الصوافي ،عقبال الحمولي
- مبروك ياحبيبي دا الطبيعي بتاعك
- المهم بقولك .. راجع امتي رقة هانم بدأت تاخد موقف اهه أنا قلت أنبهك
ضحك رشيد مرة اخري
-لا انا راجع النهاردة بس عاملها مفاجأة ، اوعي تقع بلسانك
قال موسي بخبث
- انا !! عيب يا حاج دا انا حتي احسن واحد يعمل من بنها ..ولا نسيت ؟
- لا منسيتش وبطل كلامك المتغطي هنتفهم غلط ، يلا لما اوصل نحتفل كلنا بمناسبة المناقصة الجامدة دي .
وضع موسي سماعة الهاتف وأذن للطارق وماكانت غير السيدة منة التي دلفت وقالت بهدوء
- انا نزلت الاعلان خلاص يابشمهندس حضرتك اللي هتعمل الانترفيو ولا الفريق
نفي موسي برأسه وهو يطالع حاسوبه
- لا انا اللي هعمله دي مفهاش لعب دا شغلي كله هيبقي في إيد السكرتير الجديد ، لازم أشوف صلحياته بنفسي ، عموماً اتفضلي انتي وهاتيلي قهوتي لو سمحت
- تحت أمرك يا فندم
*****
رشيد الهاشمي ..رجل في العقد السابع من عمره مُهيب ذو نظرات حادة وثاقبة تُوقف أعتي الرجال عن الكلام في الحال ، ذو ذوق رفيع وصاحب هدوء تام في أصعب المواقف يتميز بالقوة والصلابة وقد ورث موسي الكثير والكثير منه
تزوج رشيد من رقة وهي إبنة عمه الأكبر وكان الزواج ضروري فقد إتفق عليه الاخوان حتي تظل الاسر في توحد وضمان عدم خروج الميراث او دخول شخص غريب علي تلك العائلة الضخمة ولكن بعد الزواج بدأت رقة تشعر بالحب والتقدير لذالك الزوج الراقي الهادئ والذي يهابه الناس فكان رغم صلابته الا إنه يتملك قدر ليس بالقليل من الحنان والطيبة
لم تنجب منه الا التوأم موسي والذي أخذ جميع طباع ابيه بإختلاف العيون الزيتونية فتلك عيونها ويوسف الذي أخذ الكثير أيضا ولكنه كان الأقرب لها في الطباع
*****
في صباح اليوم التالي دلف موسي مكتبه وخلفه سكرتيرته كالمعتاد
-أنا لغيت الاعلان يا فندم بس دا كان في اعداد كبيرة اوي قدمت
قال موسي وهو يخرج بعض الأوراق من جرار مكتبه
- خلاص في سكرتيرة بكرة هتيجي
ثم تابع بإبتسامة
- تقومي بالسلامة إن شالله وانا سبتلك في الخزنة ظرف متنسيش تاخديه ..
قالت منة بإمتنان وشكر
- شكراً جدا لذوق حضرتك أنا بجد كنت هسمي موسي والله لو البيبي كان ولد ، بس المرة الجاية بقي يمكن يطلع زي حضرتك
أجابها بابتسامة هادئة
- شكراً .. وبكرة اول ما توصل أنسة ميان دخليهالي
دلف يوسف والقي التحية وجلس بعد أن طلب قهوته من منة قبل خروجها
مسح وجهه بإرهاق وقال مغمض العين
- ها لقيت سكرتير مناسب ولا لسه ؟!
- لا منا شلت الاعلان خلاص ..الحاج ياسيدي متوسط لواحدة
يوسف بدهشة تحولت لضحكٍ
- واحدة معاك إنت ! .. بجد!! ، غريبة يعني .. رشيد بيه وواسطة ؟!! تيجي ازاي دي ؟
مط موسي شفتيه قائلاً بتفكير
- ما دا اللي مطمني أكيد هي زي مدام منة وأفضل المفروض تكون فوق الممتاز مدام حطها قدامي ، هيا اصلاً بنت أنكل كامل
ضيق يوسف حاجبيه مستفسراً
- مين كامل دا ؟!
- ركز معايا يا بني إنت.. كامل الاسيوطي والد أفيندار مدير فرعنا في أمريكا
- اه افتكرته ..طب تمام أنكل كامل دا كويس متقلقش يعني
أراح موسي ظهره مرة أخري للخلف
- منا مش قلقان بس خايف الانسة تدلع عشان جاية بواسطة وكده إنت عارف الشغل دا خصوصاً من البنات وبعدين دي دلوعة البيت لإنها وحيدة وعندهم ظروف كده ومخبينها وحاجات غريبة سمعتها ، المهم بقولك إطلعلي علي الجمارك وشوفلي الشحنة وقفت ليه.. بقالها 4 ساعات متعطلة ، عشان إبراهيم دا غبي وانا مش عاوزه يجي قدامي لمصلحته
يوسف ضاحكاً
- لا ياعم بلاش يجي قدامك أنا هشوف في إيه عنده ، صدقني إبراهيم كويس بس بطيئ
ظل موسي صامتاً لثوانٍ ثم قال بنبرة ثابته عندما نهض اخيه
- يوسف ! .. متفكرش كتير هتتحل إن شاء لله
أجابه بإيماءة من رأسه مكرراً بهمس
- إن شاء لله
*****
وهنا في إحدي الشقق الكبيرة بوسط القاهرة كانت ميان تقفز محدثة ضجة وصخب وهي تضحك من فرط سعادتها
ميان فتاه في أوائل العقد الثالث من ربيعها ملامحها تحمل كل معاني البرائة والرقة بعيونها ذات اللون الازرق السماوي الصافي والتي تشبه عين أبيها ،
بيضاء البشرة ذات وجه مستدير برقة وخصلاتها حالكة السواد إسترسلت خلفها حتي تخطت أسفل ظهرها فبدت كأمواج هادئة
فُتح الباب وقالت رقية ضاحكة
- بابنتى هتتجنني والله ، عليا العوض فيكي
هتفت ميان بسعادة مفرطة
- يا ماما انا مش مصدقة اخيراً هشتغل وأنزل من البيت !
ظهرت معالم الآسي علي وجه رقية وقالت بعتاب
- إخص عليكي يا ميان هو إحنا سجنينك ؟!
نفت ميان مسرعة عندما شعرت بما قالته
- لا ابدا يا ماما مش قصدي والله ، ثم اقتربت منها وقبلتها وهي تقول بسعادة
- يلا بقي نفسي في بيض بالجبنة الرومي
ضحكت رقية
-هتفضلي طفلة إنشالله لو اشتغلتي سفيرة
كانت رقية امرأة يبدو علي ملامحها الطبية في اواخر العقد الخامس من العمر، بشرتها بيضاء بوجهٍ خلي من الشوائب وجسد شابته بعض السمنة ولكنه مازال جميل ومنسق لعمرها
إستدارت ميان لوالدتها وقالت
- بصي يا ماما هطلع لروسيل أفرحها علي ما تعمليلي البيض بتاعي ، ولم تنتظر رداً عندما ركضت من أمامها خارجة من الشقة ، صعدت درجات السلم الرخامي الي أن وصلت الي باب المنزل العريض ذو اللون البني القاتم وبدأت تطرق الباب والجرس في آن واحد فكانت تعلم أن والدة صديقتها مازلت عند أختها المريضة في الأسكندرية لرعايتها
فتحت روسيل الباب بعد الطرق الصاخب وكان يبدو التعب والشحوب علي وجهها وتلك الجروج الكثيرة مما أقلق ميان وهتفت بذعر وصدمة
- مالك يا روسيل ! ..مال وشك في إيه ؟!
- مفيش عملت حادثة من يومين بالعربية بس الحمدلله جت سليمة
ميان بلهفة وقلق إنتابها فجأة
- إيه حادثة ؟!.. طيب فيكي إيه ؟.. حصلك إيه ؟
أجابتها روسيل مطمئنة وهي تسحبها للداخل
- متخافيش يابنتي انا كويسة اهه قدامك
قالت ميان بحزن وهي تتفحص وجه صديقتها
- كويسة ازاي انتي مش شايفة انتي عاملة ازاي ؟!
إبتسمت روسيل بمرارة
- لا شايفة .. الحمدلله علي كل شئ
ميان بعتاب وحزن
- طيب روحتي المستشفي ؟! مقولتليش ليه بس ؟
نفت روسيل برأسها بهدوء وقالت
- مستشفي ليه ؟ انا كويسة وبعدين إنتي نسيتي إني دكتورة ، وأديني عالجت نفسي اهه وجبت أدوية متقلقيش عليا
ميان بحزن وخوف من حال صديقتها
- الف سلامة عليكِ .. كان لازم تقوليلي
قالت روسيل بمداعبة
- أقولك ليه كنتِ هتيجي معايا مثلاً وتكلمي الدكاترة وتوصيهم عليا وكده ؟ ، ردي ياجبانة !
إبتسمت ميان وإحتضنتها بلطف وهي تقبلها قائلة بحزن
- الف سلامة عليكِ أنا بجد زعلت
ربتت روسيل علي ظهرها
- لا متزعليش ، المهم بقي شكلك كنتِ جاية فرحانة
إبتسمت ميان ولمعت عينها مرة آخري وقد إستعادة حالتها وطاقتها الكبيرة
-عندي ليكِ خبر هيفجأك وهيفرحك جداا
روسيل بإبتسامة جاهدت لإخراجها طبيعية
- طيب اعدي بقي واحكيلي
جلست ميان بسرعة علي الاريكة ونظرت لروسيل بعيون ضاحكة تملأها السعادة
- انا هنزل أشتغل !
نظرت روسيل لها بدهشة ما لبثت أن تحولت لإستغراب
- ازاي يعني؟! .. وعمو وافق !!
أومأت ميان بسعادة
- اه وافق اخيراً بس هشتغل في شركة صاحبه فهيكون مطمن عليا والكلام دا
إبتسمت روسيل بصدق من داخلها
- الف مبروك بجد انا مش مصدقة والله اخيرا، وإن شالله هتحبي الشغل بس إنتِ جمدي قلبك شوية
صمتت ميان وشردت وكأنها تذكرت شئ ما ثم قالت بقلق
-انا فعلاً خايفة اوي ياروسيل
- بس بقي يا ميان متخافيش محدش هيعملك حاجة وبعدين الناس مش بتاكل ولا بتعض ، إنتي لازم تتخلصي من الفوبيا دي عشان تعرفي تعيشي !!
ثم إبتسمت بسخرية وحزن شديد وقالت
- ربنا يبعد عنك ولاد الحرام ويحميكي ومتخافيش ارمي حمولك علي الله ، بس انتي لازم تبدأي تتعاملي مع الناس !
*****
كان كامل الأسيوطي رجل في اواخر العقد السادس من عمره صاحب عيون زرقاء واسعة ورموش كثيفة ورثتها عنه إبنته الوحيدة ميان .. أو كما تعتقد أنها الوحيدة !!
يتميز بالحنان وهدوء الطبع ، صاحب بشرة خمرية
إبن لعائلة الاسيوطي والتي لم تحظي بإنجاب كثير من الذكور وكانت والدة رقية زوجته تعمل كمربية له منذ الصغر إلي أن عرف إبنتها رقية تلك الفتاة الهادئة الجميلة وأصر علي الزواج منها عندما كبرت
فكان دائما يراها مناسبة له .. فتاته كما كان يهمس لها صاحبة العيون البنية الدافئة التي كانت في السادسة عشر من عمرها
حينها قامت القيامة وثار والده ليهدده بالإبتعاد وإلا طردهم وقطع رزقهم ، لكنه أصر الي أن انتهي الامر بأخذها بعيداً والزواج منها
ولم يندم لو للحظة علي هذه الخطوة حتي عندما علم أن رقية لا تنجب بعد أن أخذها للكثير من الاطباء وأخذت الكثير من العلاج
ومر سبع سنوات علي هذا الزواج وأصبح الحزن ملازم لهذا البيت ، حتي بدأت تلح عليه بالزواج من غيرها لإنجاب طفل له ولكنه كان يرفض بشدة وبعد مرور خمس سنوات اخري قرر الزواج وسافر أمريكا وأنجب طفل اسماه {افيندار} ومعناه العاشق وكم تمني هو وهي أن يسموا إبنهم الأول به
وبعد عدة أشهر تركه مع والدته {ايميلي} التي أصرت علي ذلك و حتي لا تتأذي مشاعر رقية
ولكن شاء القدر ولعب النصيب لعبته وأصبحت رقية حامل بمولود بعد مرور عامين وأنجبت فتاه رقيقة بعد خمسة عشر عام من الزواج واسموها {ميان} وتعني أقصي درجات العشق.
أنت تقرأ
كيف عشقت
Romanceفي إحدي الليالي حيث تجمعت الغيوم في سماء تلك المدينة الكبيرة تلبدت فيها السحب بإصرارٍ علي يومٍ ممطر، كان الظلام قد أسدل ستاره عندما كانت تلك السيارة الفارهة تشق شوارع مدينة 6 أكتوبر المُظلمة إلي أن ظهرت فتاه في العقد الثالث من ربيعها تركض مُسرعة بشد...