نحن لم نخلق لنبقى وحيدين ، بل لنجد من نحبه ويحبنا ونعيش أجمل لحظات الحياة معاً.
باولو كويلو
وكان من المفترض أن تعيش أجمل اللحظات.. أن تعيش حياه طبيعية وكريمة!
ولكن يبدو أن للقدر رأي آخر!
نظرت لعيناه المُغلقة بصمت، رامشة تلك الدمعة التي سالت فوق انفها، لا تعلم إن كانت تحبه أم لا!
مرت الدقائق وشرودها به مُستمر حتي رفعت اصابعها برعشة لتمسح جبهته.. وشعر بها!
شعر بلمستها، وتحكم بكل انفعالاته حتي لا يتحرك
- انا كسرت ماما !
همست بها بنبرة مبحوحة، وابتلع ريقه بصعوبة.. لا يعلم هل تُحدث نفسها أم تُحدثه!
- وبكرة هكسرك !
خفق قلبه بقوة من همستها الثانية ليصطحب ابتلاع ريقه صوتٍ خافت جعله يفتح عيناه لها
ابتسمت بحزن مُتحسسة بأطابعها فوق حاجبه الأيمن لتبتلع ريقها مثله قبل أن تهمس بضياع
- انا.. انا...
صمتت مُقطبة جبينها من عجزها ليبكي صوتها تاركاً ذرف الدموع لعينيها
مال ثغره بمرارة ليرفع اصابعه في مُلامسة لشفتيها وكأنه يحثهما علي الصمت
ورغم سعيه الكامل لتلك اللحظة، وكل ما فعله من أجل أن تُخبره وتصارحه.. هو من أسكتها!
ومن داخله ما كان يريد حديثها !
لا يريدها أن تتذكر.. لا يريدها أن تُخبره..
علي الأقل ليس الأن وتلك حالتها..
ليس وهي تري انها مذنبة ودمرت والدتها ..
- انتِ ملكيش ذنب
همس لها بخفوتٍ شديد خرج واضحاً من الصمت الذي لا يقطعه غير أنين بكائها المنخفض
- انتِ ملكيش ذنب في حاجة خالص..
كررها بصدقٍ، ورمشت ببكاء تريد تصديقه عل عقلها يرحمها من ذلك التأنيب القاتل
- انا مش هسيبك.. ارمي عليا حملك.. انا مش هتخلي عنك لومهما حصل.. ارتاحي وبس
أغمضت عينيها بقوة لتشهق من بكائها الشديد وكم كانت بحاجة لكلامه، وكم أثر بها..
وكيف إخترق حواجزها ليستقر في قعر قلبها المجروح
- شوفِ عاوزة ايه وانا هعملهولك.. شوفي حاسه بإيه وقوليلي..
- عاوزة ماما تقوم زي ما كانت.. عاوزة أصحي لو كنت نايمة
أومأ لها بإطمئنان
- هتقوم إن شالله.. وانتِ هتصحي
- مامتي قوية جدا.. طول عمرها قوية يايوسف .. انا كسرت القوة دي..
دمرتها عشان مكنتش متوقعة إن الضربة هتيجي مني انا
- انتِ ملكيش ذنب.. وهي هتقوم زي ما كانت
نفت برأسها وداخلها شعور أنها ستودع والدتها قبل أن تنهض من فراشها الكئيب
- انا هموت لو حصلها حاجة.. انا مستاهلش الوجع دا
مد أصابعه ولاول مرة يلمس وجهها ليمسح عبراتها بطرف أصابعه
- الوجع نصيب.. وكل شخص ليه نصيبه
- بس انا معملتش حاجة
همست بها بألم وإختناق نافية بكتفيها، وأجابها بتأكيد
- ولا انا..
غاصت داخل عيناه الدافئة، فِيما تابع ماسحاً بحنانٍ فوق شفتيها المبلبة من دموعها
- انا معملتش بس اتوجعت.. بالعكس بقي انا كمان ليا النصيب الأكبر في الإصابات .. بس أنا مرتاح لأن لو محصلش اللي يخنقنا ويتعبنا مش هتبقي دنيا.. لو محصلتش المواقف الصعبة دي مش هيبقي في حاجة اسمها اختبار الصبر.. ماما دايماً بتقول الصبر علي المصيبة فرج
ودي محنة واختبار لصبرك.. اوعي تسقطي فيه من ضغط شيطانك..
اوعي تخسريه عشان في امتحانات مبنعرفش نعيدها
أومأت مُتفهمة لتخرج شهقت بكائها بإختناق شديد
- هتصحي.. هتصحي بس أقوي من الأول لو مستسلمتيش
أمسكت بكفه الذي كان يتجول فوق وجهها بإرتخاء
- انا تعبانة اوي
همست له شاكية وقد احتضنت يده بقوة إلي صدرها
ابتلع ريقه من شعور يده بنبضها ليعود ببصره حيث عينيها المُرهقة
- هتخفي.. الضربة اللي متموتش بتقوي
نفت بنحيب مشددة من قبضتيها فوق يده
- بس انا هموت
إبتسم نافياً من بكائها ليقترب بجسده تاركاً يده كما هي في حضنها
- انا مش هسيبك تموتي
أغمضت عينيها بقوة متمتمة بتعبٍ
- عاوزة ميان.. خليها تيجي
أومأ لها موافقاً، وإرتخت تتمني قدومها.. تريد الغرق في سلامها النفسي..
ورغم أن هي من تعطيها الدعم دائما إلا أن وجودها يسحب منها طاقتها السلبية !
*****
مهما كانت الحياة قاسية, تحلو بتواجدنا مع من نحب.
أنطون تشيخوف
نظرت حولها بصمتٍ لتعود بنظرها حيث وجهه ونظراته المُسلطة بشرود فوق قدح قهوته، وقد انهي نصفه.. أثناء طعامها
تحركت عينيها فوق ذقنه النامية قليلاً وأهدابه التي أخفت زيتون حدقتيه بمواربه
شعرت بتلك النبضة الغريبة لتصعد حتي خُصلاته قبل أن تهبط لكف يده ومعصمه الذي تزين بساعة فضية رائعة، تحركت حدقتيها بإهتزاز لقميصه مُتذكرة هيئته بالكنزة القُطنية وقت مرضه، ولم تتخيل أن عيناها ستصطدمان بعيناه التي إنتبهت لها لتتابع تأملها بتأمل !
إنتفض قلبها لتتسع سمائها الزرقاء أمام ثغره الذي مال بعبثٍ قبل أن يهمس
- شكرا !
رمشت عدة مرات بحرج شديد لتتحول نظراتها لتساؤل من سبب شكره، واجابها مقترباً من الطاولة
- من نظرة الاعجاب !
إبتلعت ريقها تحت وقع إرتفاع نبضها لتهبط بعينيها عنه وقد تملكت منها صدمة تأملها له!
- عادي مش عيب تبصي..
قالها بهدوء مضيفاً بهمسٍ ماكر
- ممكن تلمسي كمان ..
إتسعت عينيها أكثر حتي كادتا أن تخرجان من محجريهما ليتوقف تنفسها بإضطرابٍ ظهر جلياً من إحمرار وجنتيها
- علي فكرة هيئتك دي بتلمس مرحلة خطر جوايا
نظرت له بعدم فهم ليرحل ببصره نحو سلساله النابض فوق عنقها
- قوليلي يلا بتحبي ايه غير عينيا ؟
زمت شفتيها بإستغراب مما تسمعه وهربت بنظراتها للمحيطين بهم وكأنها تبحث عن الفتيات الاتي تنظرن له، عادت لعينيه بشرود عندما رأت الجميع في عالمه
- بدوري علي إيه يا ميـــان
جفلت من سؤاله ليخفق قلبها تحت وقع غمزته العابثة وبسمته الغريبة التي تلاها همسه المحذر بنظرة لأول مرة تراها
- غيرتك عليا كمان بتلمس مرحلة خطر فيا
تسارع تنفُسها بينما ظلت حدقتيها مأخوذة لنظراته قبل أن ترمش ناظرة للأسفل تشعر أن عقلها لا يُترجم وقلبها ينبض بطريقة غريبة وكأنه يفهم ما لا تفهمه هي
إبتلعت ريقها وشعر بإرتباكها الشديد عندما إرتفعت يدها تتمسك بدرعها النابض فوق جيدها
- اجبلك ساندوتش كمان؟
سألها محاولة الخروج بها من تلك الهالة التي أحاطت بمشاعرهم قبل أجسادهم، ونفت بعد لحظات وكأن صوته وصلها للتو
- اجبلك عصير تاني طيب ؟
نفت مُتأخرة مرة آخري ليضحك بقوة
- شبكة عقلك وقعت!
نظرت له بخفقان سريع وإبتسم مخرجاً هاتفه
- ايوا يايوسف
نظرت للأسفل بحيرة من شعورها الذي سيطر عليها بالكامل
- ميان !
رفرفت أهدابها رافعة عينيها له وتحدث بهمسٍ أو بصوتٍ لم يصل لها.. لكنها فهمت من حركت شفتيه الباسمة
- روسيل عاوزاكِ
*****
- جدامكوا جد إيه وتوصلوا ؟!
إنتظر إجابة والده ناظراً لأعلي بعد أن سأل وعلم أن زوجة عمه دخلت في غيبوبة
- تمام أنا مستنيكوا بجي هشوف هعمل إيه علي ما الساعات دي تمر
مسح فوق خصلاته بحقدٍ
- مش جولتلك يابوي إني صح
تنهد ناظراً حوله ليهبط الدرجات
- خلاص توصلوا بالسلامة.. انا هروح اريحلي كام ساعة في أي فندج علي ما توصلوا
أغلق الهاتف وخرج من المبني نافخاً بقوة ومازال يحتاج لخطة مُحكمة حتي يرد كرامته مرة اخري !
*****
في صباح اليوم التالي ..
طرق يوسف الباب ودخل ناظراً لها
- ليه مش عاوزة تاكلي ؟
نفت بصمتٍ وأجابت ميان الجالسة علي طرف الفراش لتمسح فوق كفها
- قالت مش عاوزة
اقترب متوقفاً عند رأس الفراش ليلمس خصلاتها
- مينفعش ياروسيل.. قلة الأكل مش هتفيد
أجابته بهدوء دون أن ترفع رأسها
- انا مش عاملة إضراب عن الأكل.. أنا فعلا مش قادرة، لما أجوع هاكل
تنهد بصمتٍ وسحب المقعد ليجلس
- موسي فين ؟!
أجابته ميان بحرج ورغم أنه وموسي شيئاً واحداً هي تشعر بالإختلاف والقلق من الحديث مع رجلاً أخر غير موسي !
- بي.. بيجب حاجة
أومأ ببسمة من إهتزاز صوتها، وأحياناً يشعر بعجر عقله عندما يفكر كيف سيتعامل موسي معها.. تبدو غريبة وبريئة بينما موسي النقيض تماماً حتي أنها لن تتحمل مشاعره إن تعامل معها كرجل طبيعي.. فمابالها بموسي !
*****
- انا مش فاهمكوا ياعمي .. إيه المشكلة دلوجت؟
نظر له سامي بصمتٍ وقلبه يحترق في الداخل بعد أن علم عن تعرضها لنزيف دماغي أدخلها في غيبوبة من الممكن أن تطول إن نهضت منها !
- بالعكس المشكلة هتبقي عندينا إحنا .. يعني إحنا عرفنا منين إن مرت عمي الله يرحمه تعبانة وإنجلت علي المستشفي.. وبعدين هو إبنك إيه غرضه في الحكاية ديه!
- نفخ سامي بإختناق
- بس يا عثمان هملني دلوجت.. الدكاترة سمولي بدني.. كِيف يعني معرفوش ينقذوها .. أومال لزمتهم إيه عاد
مسح عثمان وجهه ولا يهمه في الأمر غير إبنه عمه.. سيخبر زوجها أن تذهب معهم للصعيد حتي تتعافي والدتها فلا يجوز بقائها وحدها في الشقة بعد الأن
- هروح أشوف جميل فين.. عشان نفطر ونتحدث مع الاستاذ يوسف ديه
لم يجيبه سامي وكان عقله في ملكوت اخر.. لا يريدها أن تبقي هنا.. لا يريدها أن تموت..
ورغم كرهها له إلا أنه يعشقها ولو مرت سنون وسيظل حتي تخضع وتقبل به، مسح فوق قلبه برتابة هاسماً لها وكأنها ستسمعه
- جومي تاني يا ناهد.. اطلبي اللي تتمنيه بس جومي عشان خاطر جلبي !
*****
- اسمعني بس ومتبجاش جبان..
هتف جميل بنزق، وتحدث الشاب بخفوت
- ياعم مش جبن انت مجنون ولا إيه.. دي متجوزة منهم يعني ينهونا قبل ما نعتب باب المستشفي
زفر بنفاذ صبر ليهتف به بخفوت ناظراً للممرات الهادئة
- خلاص اخفي من وشي مدامك خرع اجده
مسح الشاب فوق رأسه بقلق
- ياعم انا معاك بس نفرض البت صرخت ولا حد شم خبر.. هنروح في داهية.. انت متعرفش العيلة ديه
تمسك بحديثه ليُطمئنه بثقة
- أولا البت تبجي بت عمي بردك..
ثانيا انا بجولك هي نايمة ولا حاسة بالدنيا.. واخده مخدر ولا كأنها معانا في نفس الزمن.. ماتفتح مخك عاد ومتتعبنيش بجي
زم الشاب شفتيه ناظرا حوله ليومأ بضيق
- طيب موافق بس هناخدها إزاي؟
ربت جميل فوق صدره بإنتشاء
- ايوا اجده.. هو دا الكلام.. إنت هتكلم الرجالة يجيبوا معهم الشوم والمخدر اللي بترشوه ديه عشان لو حد حس بحاجة..
وانا هديك الاشارة اول ما يمشي من عندها.. وجتها نتحرك زي ما خططتلكوا !!
هناخد البت وهو هيجي ورانا.. ساعتها انا والرجالة هنديله الطريحة اللي هي.. ونسافر بيها زي ما حجزت الجطر .. اتفجنا !!
- طب ولو أبوك عرف؟!
- متفولش بجي.. مش هيعرف حاجة بالعكس وجودنا إهنيه ينفي أن إحنا اللي خدناها.. هتبجي في نظرهم هربت وخلاص وإحنا اللي هيكون لينا حج عنديهم.. وهو يبجي يثبت بجي إن أنا اللي ختلها ولا أنا اللي ضربته
أومأ الشاب له وبمجرد ما مر موسي حتي أشار له مسرعاً
- اهه دا اخوه
قطب جميل بين حاجبيه من رؤيته لموسي
- اخوه ازاي يامخبول انت.. مش بتجول عارف كل حاجة عنهم دا يوسف جوزها وجارهم
نظر له الشاب بصدمة ليهتف به بعصبية دون أن يرفع صوته
- جار مين دول ساكنين في قصر ودا موسي أخو يوسف اللي متجوز بنت عمك
نظر له لوهلة قبل أن تتسع عينيه ولم يأتِ لكتب كتابها حتي يعلم أن له شبيه!
تدلي فاهه بصدمة متذكراً شفائه من الجرح وقوته رغم أنه طعنه وجرح بالفعل
- يبجي أخوه اللي ضربني مش هو !
- أخو مين ؟!
شردت عيناه بعدم تصديق ليمسح وجهه محاولاً التركيز
- الم.. المهم مخططنا زي ما هو.. لما أديك الإشارة تكلم الرجالة وتيجي
أومأ الشاب فاركاً أصابعه
- وحقي فين يابرنس ؟
- مش لما نتنيل ونتمم العملية الأول
- لا ياحبيبي.. نص حقي قبل، وبعد العملية النص التاني .. ولاون الموضوع محتاج يزيد حبتين حَلوان إنك هتاخد البت منه
- نظر له جميل بضيق
- متعملش ناصح عليا.. انا عارفكوا يارجالة مصر انتو .. وبعدين انا والبت بنا علاقة جديمة، وانا يُعتبر بخلصها منه عشان متتفضحش، ويلا من هنا بجي أهم ألفين ونتحاسب بعد ما نخلص
- جميل!!
توقف بصدمة علي الصوت وتحرك الشاب مسرعاً من أمامه
إبتلع ريقه مُلتفتاً بتوجس ليجد عثمان امامه مُقتربا بخطوات بطيئة
- انا سمعت اللي جولته.. وهديك فرصة تبرره..
ابتلع جميل ريقه، فِيما اقترب عثمان متابعاً بهمسٍ خافت يحمل ما يكفي من الغضب
- عارف ليه هديك فرصة تبرر يابن عمي ؟
نظر له بقلق ومازال لا يصدق وجود عثمان، بل وعقله يفكر ماذا سمع ومتي حضر ليجد كذبة تليق بالجزء الذي حضر فيه، وتابع عثمان رابتاً بقوة فوق كتفه
- لان لو مبررتش اللي انا سمعته.. أنا هجتلك وهجتلها بدون ما أفكر حتي
- انت بتهددني ياعثمان.. وعشان إيه.. عشان مره
وشهق بقوة عندما احتلت قبضة عثمان تلابيبه ليقربه من وجهه ساخطاً
- المره دي تبجي بنت عمي.. يعني بنت عمك.. يعني لحمنا وشرفنا.. شرفنا يابن الصعيد..
شرفنا يابن الجيار .. ولو ناوي تجبلنا العار بتصرفاتك يبجي نخلص منك ونخلص حالنا.. والبت ديتها عِندينا رصاصة
- بس...
وقطع حديثه راجاً جسده بقوة
- متبسبسش.. برر..
برر عشان ورب الكعبة هجتلك وأدفنك مكانك لو اللي سمعته صُح !
*****
نهضت رقية من فوق الأريكة بألم وجلست تنظر له شارداً
- انت صاحي من امتي ؟
نفي برأسه
- منمتش لسه.. معرفتش انام
نظرت بحزن حولها وقد إحترقت الشقة بعدما تركت الشاي والبيض علي النار، وقد غفت تماماً عن كل شئ بسبب صراخ روسيل وما حدث
- طيب هنعمل ايه.. الحمدلله ميان باتت امبارح مع روسيل في المستشفي.. هنقولها ايه بقي
تنهد بإرهاق
- مش عارف هشوف شقة ايجار.. انا كلمت كام واحد يشوفلي سمسار للمنطقة
أومأت بصمتٍ ولو كان بيدهم لعادوا لشقتهم القديمة ولكن تعلم إن تحدثت في الأمر من الممكن أن يغضب عليها ويثور!
نهض ليأخذ حماماً دافئ قبل أن يذهب لرؤية ما سيجد السماسرة
- خدي دواكِ يا حببتي وأنا مش هتأخر ونروح المستشفي علي الظهر كده
*****
- انت بتجول ايه ؟!
نفض جميل يده عنه هاتفاً بعصبية
- زي ما بجولك أجده بت عمك عايشة لحالها من فترة كبيرة وانت افهمها بجي
نظر عثمان بصدمة للأسفل فيما تابع جميل
- بكرة تصدجني.. وبكرة نغسل عارنا
مسح فوق خصلاته بعنفٍ ولم يتوقع أن تأتيهم الضربة من روسيل حتي وإن كانت بعيدة عنهم..
- انت بتعمل ايه هنا ؟!
إقترب يوسف منهم بمجرد ما لمح جميل وتوقف أمامه بقوة نافضاً جلبابه
- جايين ناخد بنت عمنا
مال فمه بسخرية ليسأل بنظرات هازئة
- مراتي يعني !
طبق أسنانه بغضبٍ يري التحدي في عينيه وأجاب بكل ما إمتلكه من هدوء
- اياً كانت المسميات.. مرت عمي دلوجتِ شبه ميتة وبت عمي مش هتجعد لوحدها في الشجة.. يبجي تيجي بيت أهلها لحد ما أمها تجوم بالسلامة
اقترب يوسف خطوة وبسمته المستفزة في اتساع
- وبيت جوزها راح فين ؟!
- ميصحش إجده .. إحنا لسه معملناش الفرح ولا طلعنا عرضها
تحدث عثمان بهدوء، وأجابه يوسف بنفس هدوئه
- أياً كانت الأسباب.. مراتي مش هتتحرك من هنا.. مراتي مش بنت عمك!
نظر له عثمان مضيقاً عينيه
- تجصد ايه ؟!
مط شفتيه بلامبالاه
- والله كلامي واضح.. روسيل مش هتتحرك من هنا
هتف جميل بعصبية
- يبجي انت بتجلبها حرب بجي
نفي يوسف معدلاً من معصم قميصه
- لا حرب ولا حاجة.. القانون في صفي ياحبيبي .. أما بالنسبة للحرب يعني بالدراع .. فالدراع في صفي وإبعد دراعك عشان مقطعهوش لان في بنا حساب مخلص
توقف عثمان أمامه محاولاً التفكير بهدوء
- احنا مش جايين نعمل مشاكل.. احنا جينا عشان خبر مرض مرات عمي.. وياريت نجعد ونتحدث بهدوء عن إجده
أومأ ببرود ناظراً للأمام
- مفيش مشاكل .. نتكلم .. بس هنتكلم انا وانت.. عشان كلامي مع جميل مش هيكون باللسان!
- جصدك ايه هتضربني يعني ؟!
أومأ مؤكداً ليهمس
- بالظبط كده ..
*****
جلست رقة جانب روسيل لتمسح فوق فخذها برفق
- عاملة ايه ياحببتي دلوقتِ ؟
أومأت بصمتٍ ثم نظرت لها مُطمئنة
- الحمدلله كويسة..
إقتربت رقة مُلتقطة كفها بين يديها لتقبض عليه بحنان
- روسيل .. أنا زي مامتك.. لو عاوزة اي حاجة قوليلي ومتشليش هم اي حاجة أياً كانت انا موجودة وكلنا هنا معاكِ.. انتِ مش لوحدك ومش هتكوني لوحدك.. ورشيد زي باباكِ إعتمدي علينا ومتتحرجيش
- انا اسفة تعبتكوا معايا بجد
- متقوليش كده .. محدش بيتعب من ولاده.. ورشيد زمانه جاي يطمن عليكِ بنفسه.. هو بس إتأخر عشان عم يوسف هنا من فترة وموجودين عندنا
نظرت لها بإمتنان لتبادلها مسكة اليد
- شكراً لحضرتك.. بجد شكراً علي كل حاجة
إبتسمت لها مُتحسسة جانب وجهها حيث تلك الكدمة، ورغم حيرة الجميع من سبب ما حدث لم يسأل أحداً عن شئ
*****
خرجت المرأة تتلفت حولها بقلق حتي تخطت الشارع الجانبي للمدرسة وبمجرد ما خرجت لبدايته حتي وجدت سيارته مُصطفة جانباً
أسرعت بخطواتها وفتح لها الباب من الداخل، وكانت ثوان قبل أن ينطلق بها من المنطقة بأكملها
- لمواخذه يابيه.. بس كان لازم نتقابل لان لو كنت استنيت لمعاد المرواح كانوا هيشكوا فيا.. انا قلت إن بنتِ تعبانة ورايحالها بس يارب البواب ميجبش سيرة إنه جابلي رقم سعدتك
- مش هيتكلم.. خد اللي يخرسه.. إتفضلي
زمت شفتيها مُعدلة من حجابها بقلق من حدته
- انا هحكيلك كل حاجة بس اوعدني متأذنيش الاول
نظر نحوها ومرت ثوانٍ من ثبات نظراته التي بثت بها الرعب
- بعد ما أسمع .. هشوف هوعدك بإيه!
نفت برجاء وتوسل رابتة فوق صدرها
- لا يابيه الله يخليك.. انا عندي عيال، عندي ولدين وبنت صغيرين وملهوش غيري
- وانا!
نظرت له بتساؤل، فِيما تابع ونبرته قد اصبحت انتقامية
- كان عندي بنت.. وأنتو أذتوها
ارتجفت من نبرته البطيئة ونظرت لثبات عيناه لتسأل بعد فهم
- هو حضرتك ليك بنت في.. في المدرسة.. هي ميان تبقي بنتك؟!
سألته بذهول غير مصدقة أن تكون له فتاه بعمر ميان ولو مهما كان مهتماً ولا يظهر عليه السن، لن يكون شاباً هكذا
- ميان مراتي وانتو ظلمتوها.. بنتِ اللي ضيعتوها.. مش كده وبس..
انتو خلتوها ولا حاجة.. حتي أم لولادي مش هتنفع .. وياريتكوا اكتفيتوا، لا كمان بتخبوا الموضوع
نظرت له بدموع، فِيما تابع هو بهمسه حاقدة
- ياتري ايه اللي هاخده منكوا في المقابل.. فكري كده!
مسحت دمعة سالت فوق وجنتها لتنفي برأسها
- انا اسفة.. وعندك حق يابيه.. بس غصب عني، وانا هحكيلك مش عشان خايفة منك..
لا عشان انا ضميري تاعبني وحاسه إن اللي جرا لبنتِ بسبب سكوتي
مسحت عينيها المُجعدة بألم
- بنتِ عملت حادثة واتعمت ونظرها مش هيرجع تاني وكل ما اشوفها عاجزة مع انها طفلة.. بموت
بشوفها مشلولة ومحبوسة جوا ظلمة عنيها بفتكر ميان لوحدي.. بس مكانش بإيدي وربنا يشهد عليا.. ساعات الفقر بيجبرنا نعمل اللي بنكره يابيه.. زي ما بيذل دايماً
لم تتأثر نظراته بل إزدادت برودة وكأنه لا يبالي.. ولن يبالي!
لم يكن يوماً عاطفياً ولن يكون.. ولو قصت عليه ابشع طرق لموت اطفالها جميعاً.. ألم تكن ميان مجرد طفلة مثلهم ولم يرأف أحدا بها !
- كان في بنت اسمها دانا.. البنت كانت جيالنا بعد سقوط سنين والمدارس رفضتها لانها غير مؤهلة بس الست شريفة وافقت بعد ما اهلها اتفقوا معاها ودفعوا اضعاف المصاريف
- اسمها ايه دانا.. وفين أهلها
نفت برأسها
- والله معرف يابيه.. كان اسمها دانا محسن بس معرفش اسمها بالكامل
- غير مؤهلة إزاي ؟!
ابتلعت ريقها ناظرة بقلق لعينيه المظلمة ولا تعلم كيف تري بهما شر العالم رغم أنها ثابتة ونظراته لا تتغير
- كانت مريضة نفسيا
- بس!
همس بها بمقتٍ، وارتجف جسدها لتهمس
- وشاذة
ضغط ضروسه حتي تحركت عضلة فكه التي رأتها لتُتابع قبل أن تثير غضبه
- انا مكنتش اعرف ولا هم بيتهيألي .. هي كانت بتحب البنات بس عادي.. انا مكنتش أعرف إن الموضوع دا موجود استغفر الله يعني.. ومعرفتش الا لما المشاكل حصلت.. ساعتها شافتها الاخصائية وقالت انها مش طبيعية وحاجات قالتها للمديرة انا معرفهاش اقسملك بالله
وقتها المديرة معملتش حاجة لانها كانت عارفة من الاول إن البنت مريضة وحاولت تساعدها بدروس خصوصية جوا المدرسة.. بس البنت مستجابتش وكانت مُتعبة اوي فبقت تنجحها وخلاص ودا مقابل مبلغ كبير اوي من اهلها
- عرفتِ منين انها شاذة !
فركت كفيها ببعضهم مجيبة بخفوت حزين
- لما شفتها مع بنت اسمها جمان !
تضخم صدره مختنقا بالتنفس، بينما تابعت هي بندم وحزن
- والله ماكنت اعرف في الاول .. شفتها بتقرب من البنت عادي وبعدين البنت تعبت نفسياً وبقت غريبة ومحدش عارف السبب.. وانا توقعت ان نفسيتها بسبب دانا بس مكنتش اعرف عملتلها ايه.. وبعدها جت ميان، كانت في حالها اوي ودانا قربت منها.. في الاول فرحت من جوايا لان ميان كانت وحيدة اوي وبتخاف من الكل.. حتي اعدت شهور علي ماخدت علي دانا.. وبعدها بقت دايماً معاها وطبعا دانا اللي مسيطرة ومهتمة ودا لانها اكبر منها في العمر زي ما كانت مع جمان .. لحد ما جه يوم وسمعت عياط في الحمام ولما فتحته شفت دانا مع جمان والبنت منهارة
قلبي انقبض وجسمي اشعر وانا مش مصدقة اللي شفته ووقتها خفت علي ميان خصوصاً انها كانت غلبانة وبريئة اوي.. بس وقتها توقعت إن ميان شاذة زي دانا لانها كانت كويسة .. ولما راقبتها عرفت انها بتنضرب في الحمام برده زي جمان.. عرفت المديرة وهي حكمت الموضوع وجابت اهل البنت وعملت مشكلة بس الدنيا رجعت تاني بعد شهور لما أهلها قالوا انها بدأت علاج وبتخف.. وانا صدقت لان جمان وميان كانوا هديوا فعلاً بس لما كنت داخلة انضف الحمامات لقيتها مع بنت تانية جوا بس البنت كانت موافقة وهي اللي طلبت مني مقولش حاجة وجابتلي حلويات تاني يوم كأنها بترشيني يعني
صمتت لتسيل عبراتها متذكرة كل شئ ولم يتحدث هو و كأن لسانه احترق وسط نيرانه الهائجه
- بعدها بيومين لقيت ميان في الحمام .. كانت..
تسارع تنفسه ناظراً أمامه بثورة ،وشهقت هي ببكاء مستغفرة بألم
- كانت عريانة ومنهارة .. مقدرتش اسكت وضربت دانا من غير ما أحس وبعدين خت ميان ألبسها وأنا بحاول أهديها بس اتخنقت فجأة ووقعت في الأرض .. ولما نقلناها المستشفي تحت طلعت بتاخد بخاخ..عشان عندها أزمة نفس.
*****
- الموضوع منتهي وملوش لزمة الخلاف يا استاذ سامي
تحدث رشيد واضعاً قدم فوق أخري ليبعد قدح قهوته من أمامه
- اتفجنا.. وبرده دا حجنا انت عارف إحنا صعايدة وكل حاجة تمشي بالأصول.. إبنك أه كاتب كتابها بس البت لسه بنتنا وملهاش دخول لبيته إلا بعد الفرح
أومأ رشيد متفهماً
- يوسف مقالش هياخدها بيته.. يوسف رفض انها تسافر الصعيد
- ما بردك إحنا معندناش بنات تجعد لحالها
ابتسم ببرود يعلم ما يريده ليعتدل ناظراً في ساعته
- مختلفناش والوضع يتم زي ما اتفقنا عمتها وزوجتك يجوا ويفضلوا معاها في شقتها لحد ما مدام ناهد تقوم بالسلامة
وتابع ناظراً بهدوء نحو سامي رغم حزن نبرته
- وحاول تبعد إبنك عن ولادي.. إبنك غلط كتير وبلاش نرجع نندم بعد كده
نظر له سامي بضيق
- انت بتهددنا يارشيد بيه
ابتسم رشيد بهدوء قبل أن ينفي
- لا العفو.. انا بقولك خد بالك منه.. روسيل مرات يوسف مش خطيبته واللي ليه كلمة عليها دلوقتِ إبني وانت عارف فملوش لزمة فرد الدرعات والحاجات اللي ابنك بيعملها.. وانا لولا تصرف ابن اخوك عثمان وأدبه كنت خت موقف تاني بس انا عامل حساب للنسب اللي بنا
زم سامي شفتيه وإلي الأن لا يعرف لما أتي به إبنه المعطوب إلي هنا وإلي ماذا كان يخطط ليغضب عثمان منه
- يلا انا هقوم .. انت عارف المشاغل
أومأ له سامي بشرود وظل جالساً كما هو لا يعلم متي سيتخلص من خزي إبنه !
*****
- انا عارفة إن ميان متستاهلش بس والله غصب عني
تخلل خصلاته بقوة وكل ما فيه يثير رغبة القتل داخله
- أنا وقتها عرفت المديرة وقالت اننا لازم نتابع دانا ونمنعها من اي فعل مُشين زي دا.. بس مقدرناش للاسف البنات كانت بتخاف منها وبيوافقوا معادا ميان وتولين اللي كانوا بيعافروا معاها وبتوصل للصريخ والهستيريا..
بس برده اهل البنتين كانوا ساكتين محدش فيهم جه.. لحد ما عرفت إن جمان إنتحرت وأهلها لحقوها بس دخلت مصحة نفسية وفقدت النطق .. قررت وقتها أدور علي أهل ميان عشان خفت تنتحر هي كمان بس حصلت الكارثة ودانا هي اللي انتحرت في الفصل
تحدث من بين أسنانه ولهيب أنفاسه قادراً علي حرق الكون بما فيه
- عاوز اسم دانا بالكامل.. اضربي الارض وطلعهولي يا اما هوديكِ ورا الشمس
بكت بعجزٍ متوسلة
- والله يابيه ماهعرف اجيبه.. المديرة حرقت كل حاجة ومستحيل نلاقي بيانات ليها
- واهلها فين؟! .. ايه خفيتوا الجثة كمان
نفت ماسحة دموعها
- لا يابيه المفروض إنهم جم وخدوها عادي.. معرفش عملوا ايه بس انا حستهم ما صدقوا خلصوا منها والمديرة قالت انها هددتهم لو إتكلموا هتسلمهم لأهل جمان لإن باباها كان وزير سابق وعيلتها كبيرة
- معاكِ يومين تفكري فيهم أجيب أهل دانا منين.. يومين بس.. لو ملقتيش طريق أوعدك أندمك علي كل لحظة عشتيها والثانية اللي شوفتيني فيها!
*****
أنت تقرأ
كيف عشقت
Romanceفي إحدي الليالي حيث تجمعت الغيوم في سماء تلك المدينة الكبيرة تلبدت فيها السحب بإصرارٍ علي يومٍ ممطر، كان الظلام قد أسدل ستاره عندما كانت تلك السيارة الفارهة تشق شوارع مدينة 6 أكتوبر المُظلمة إلي أن ظهرت فتاه في العقد الثالث من ربيعها تركض مُسرعة بشد...