الفصل التاسع والثلاثون

59.9K 1.7K 39
                                    

سيل الدموع لا يُريح دائماً
فبعض الدموع تسيل دون أن تحمل ذرة واحدة من الألم !
سرين عادل

وألمها لا يقل.. وجعها لا ينتهي !
توقفت امام الزجاج تنظر لجسد والدتها الراقد، ترحل عينيها لجهاز القلب والضغط ثم إلي الجلود فوق صدرها ويديها

تنظر لهم وتتوسل أن يرأفوا بها..
تتوسل دون وعي لجهاز القلب ألا يتوقف وكأن هو من سي
ُنجدها !
لتنظر ناحية الجلود متوسلة.. وللفراش راجية !
ولم تستجب الاجهزة لها..
فلن يشعر بها الجماد.. لتصدر الاصوات فجأة
!
-
ما.. ماما !
اتسعت عينيها من تحرك والدتها وتشبثت بالزجاج لتنال الحسرة وقد عاد كل شئٍ لموضعه
!
عاد كل شئ دون جهاز القلب الذي أصدر صوتاً مُتصلاً دائماً ما كان مُقبض لقلب الحي!

نظرت للأطباء الذين حضروا بسرعة البرق ليمروا من الباب الزجاجي الذي انغلق بمجرد دخولهم
لتعلم أن ما حدث كان مجرد حركة طبيعية ولا ارادية ليس أكثر..
ليتبعها خلل في النبض أوقف القلب تماماً !
- ماما.. ماما
تحدثت بصدمة دون صراخ وعينيها تلتهم كل من في الغرفة لتغمض عينيها بالنفي عندما نظرت لجهاز الصدمات الكهربائية
بكت بميان بذعر متمسكة بالحافة الرخامية لا تريد عيش موقف كهذا بينما اقتربت رقة من روسيل المصدومة لتحيط خصرها في دعم لا تعرف من أين أتت بقوته!
نفت برأسها تنظر لعد الأطباء قبل أن يضربوا الجسد للمرة الثالثة، وتحول صمتها الغريب لصُراخ هستيري وضربات فوق الزجاج الشفاف قبل أن تتراخي قدميها بوهن، سقطت رقة بها أرضاً، بينما جلست ميان مستندة علي الجدار خلفها لتسقط كاتمة أذنيها ببكاء
- مش هتعيش.. انا السبب.. انا السبب
تتالت صرخات روسيل وضرباتها فوق الأرض الرخامية من بين محاولات رقة لمنعها.
تداري جميل والشاب خلف الجدار ينظرن لهن، وقد صعد مقرراً أخذها بينما والده جالساً مع يوسف ووالده في الأسفل.. ولكن تفاجأ بما حدث وإنهيارها
- مش دا قريبك؟!
سأله الشاب بإستغراب عندما رأي ركض عثمان المسرع نحوهما بمجرد ما رأها
- روسيل .. روسيل اهدي
هتف بها ممسكأ بجسدها الثائر من بين ذراعي رقة ليرفعها بقوة من فوق الأرض مقيدأ ذراعيها
- فوجي .. وحدي الله .. اهدي
شهقت ببكاء متمسكة بجلبابه
- انا السبب.. ماما ..
- وحدي الله بجولك .. وحدي الله .. اهدي
تمتمت موحدة برجفة تريد الجلوس أرضاً وقد نفذت حياتها وليس مجرد طاقتها، ومالت عليه ساقطة في سوادٍ تام!
*****

- انا اسف ياحبيبي مقدرتش أجي والله
تحدث كامل بأسف، وأجابه أفيندار بتفهمٍ دائماً ما كان فيه
- لا عليك يا أبي أنا لست غاضباً.. وسيأتي يوم وتري كريستين نحن بإنتظارك في أي وقت
إبتسم كامل بحنين وكم يتمني رؤية حفيدته الأولي
- سلم علي ايميلي وإعتذرلها إني مقدرتش أجي عشان متضايقش
- لا تستاء أبي هي تعلم كل شئ ولا تنسي أن تطمأننا عن جارتكم وميان
تنهد كامل بضيق عندما ذُكر إسم إبنته ولا يعلم أين كانت بالأمس.. وإحتراق الشقة خير دليل علي أنها لم تذهب كما قال موسي وأكدت هي.. وكما صدق هو !
إبتلع ريقه بعد أنهي المكالمة مع إبنه وعقله لا يستطيع تجميع الصورة للوصول للمنطق الصحيح
بل صدمته كبيرة بكذب ميان! ..
ولو مهما صار ما كان سيُصدق أنها تستطيع الكذب !
*****
مسحت ميان فوق كفها ببسمة عندما فتحت عينيها
- ماما!
همست بها ببكاء ونطقت ميان مسرعة بسعادة
- هي عايشة.. والله الدكتور قال.. هم لحقوها ياروسيل مش ماتت
رمشت عدة مرات لا تصدق ما تسمعه وللحظة ظنت ان هذا عقلها الباطن ليس أكثر ولكن إقترب رقة وقبلتها الحنونة فوق رأسها كان أكبر شعور لصدق الواقع
- هي..
مسحت رقة فوق خصلاتها هامسة بحنان
- هي بتقاوم ياروسيل.. قلبها رجع نبض والدكاترة برغم الحالة إلا أنه حاسين بأمل والله وقالوا انها بتقاوم
سالت عبراتها بحزن ورجفة
- حمدلله علي سلامتك يا بنت عمي .. شدي حيلك
نظرت بإستغراب من وجود عثمان، لا تعلم متي وكيف أتي.. بل شعورها وكأنها غائبة عن العالم ولا تشعر بأي شئٍ غير الألم المتعاظم داخلها..
- شدي حيلك عشانها ومتجلجيش إحنا جمبك وأمي زمانها علي وصول هي وعمتك.. متخافيش من حاجة خلي أملك بربنا كبير
أومأت له بدموع ونظرت نحو رقة مرة أخري لتهمس برجاء
- عاوزة أروحلها.. عاوزة أشوفها
أومأت لها بموافقة لتمسح فوق خصلاتها
- حاضر .. بس يوسف دلوقتِ هناك عندها.. هم سمحوله بالزيارة
نظرت لها بإستغراب شديد لا تصدق أنهم سمحوا له ولم يسمحوا لأحد ولا حتي هي
- عاوزة أدخلها أنا كمان.. عشان خاطري
- متجلجيش هتدخليلها بس لما جوزك يجي لان الدكاترة جالو إن مينفعش أكتر من واحد بس.. اهدي إنتِ بس وإجمدي إجده وكل حاجة هتكون عال بأمر ربنا.. توكلي عليه
إبتلعت ريقها ناظرة له بإمتنان لتقبض فوق كف ميان الصامتة بنظرات هادئة، ومازالت لا تعلم من يعطي من الدعم والهدوء!
*****
جلس جانب فراشها الثابت مُلتقطاً كفها بين قبضته الدافئة
- انا مش عارف اقولك ايه.. في دكاترة قالوا انك سامعة حتي لو مش حاسه، وفي قالوا مستحيل تكوني سامعة لإنك في إنعزال تام عن حياتنا .. بس أنا هتكلم عشان لو كنتِ سامعة ..
يعني .. ساعتها كلامي هيفرق !
إبتلع ريقه بقوة ماسحاً فوق كفها القابع في يده
- روسيل مغلطتش زي ما انتِ فاكرة .. هي إتظلمت
تنهد بألم يشق صدره ليخرج بعد أن تم دفنه لأشهر عدة دون محاولة نبش تربته
- انا مش عارف انتو اتكلمتوا في إيه.. بس واضح إنك فهمتِ غلط وهي مبتقولش غير إنها السبب
إبتلع ريقه معدلاً من غطاء رأسه المعقم كما زيه الأزرق وحذائه الطبي
- هي إغتصبت.. يعني بالغصب.. غصب عنها
إرتجفت شفتيه كما تباطئ نبضه متذكراً تلك الليلة
- انا اللي لقتها.. كانت بتجري وأغمي عليها.. انتِ عارفة انها كويسة ومستحيل تعمل حاجة زي دي برضاها
ختها المستشفي لانها كانت شبه ميتة بس لما رجعت كانت هربت.. هربت عشان مش هتعرف تواجه
عاد يبتلع ريقه لتسقط أول دمعة ساخنة
- دورت عليها شهور ولما فقدت الأمل لقتها قدر.. وقتها فهمت هي هربت ليه مع إنها شخصية قوية زيك
مسح وجنته متنهداً بإختناق وحزنٍ
- هي عاشت خايفة عليكِ انتِ .. مش عاوزة تكسرك ولا تجبلك العار.. عارفة إن محدش هيتقبل اللي حصل مع إنه مش ذنبها.. شوفي هي قاومت أد ايه ومبينش اللي فيها.. متسبيهاش دلوقتِ.. متتخليش عنها عشان هي محتجالك أكتر مني ومن أي حد..
ضغط فوق كفها متوسلاً كما يتوسل داخله
- متستسلميش.. متسبيش نفسك.. روسيل محتجالك.. وانا خايف عليها
عاد يمسح عينيه بألم لينظر لها بقوة محاولاً دعمها كما سيفعل بالفعل
- ارجعي وواجهي.. انا مش هسيبكم.. ومحدش يقدر يتكلم عليها.. انتِ بس إرجعي وأوعدك كل حاجة هتتحل
- بعد إذنك يا مستر يوسف كفايا كده
نظر نحو الممرضة وأومأ لها ناهضاً
- مفيش مشكلة.. بس لو روسيل حابة تدخل
أومأت له بتفهم
- حاضر.. انا كلمت الدكتور وهيسمح لها.. حضرتك متقلقش
إبتسم لها شاكراً وخرج بينما إتجهت هي تتفقد جميع الأجهزة قبل أن ينزعها الطبيب عنها
*****
قالوا أن جعل الرجل الطيب شريراً، أسهل من جعل الرجل الشرير طيباً.
وهو لم يكن طيباً !
هو كان ومازال ما يناسب الحياه..
و الحياه لا تصلُح إلا للأشرار !
سرين عادل

دارت سيارته في جميع الشوارع والطرقات، ذهبت وعادت بأقصي سرعة لديها
كما كان عقله يدور.. يعصف به لأقصي قمم الألم مصوراً له أقصي طرقاً للإنتقام والوجع!
إنعطف بالسيارة ليأخذ مُنحي أخذه للمرة الرابعة
قلبه يؤلمه.. جسده يحترق.. عقله يضغط عليه
!
قصت المرأة ما حدث.. ورأي هو!
رأي أسوء مما تخيله.. وما كان ليتخيل أن كل هذا السواد يحدث في عالم الأطفال!
وفي النهاية لا يوجد إلا حقيقة واحدة .. صغيرته البريئة صادقة وعانت
حتي أنه الأن يعلم عن معاناتها أكثر مما تتذكر هي
!
تم إختيالها بكل قسوة ودون رحمة ..
والأن ماذا.. من سيطلُب منه الرحمة.. من سيتجرأ ويطلب العفو !
*****
- هنعمل إيه دلوقتِ ؟
نفخ جميل بضيق
- يابني إفصل شوي وترتني .. اهدا شوي بجي
مسح الشاب فوق خصلاته ناظراً حوله في الممر الهادئ
- ما إنت ولا هامك.. عارف لو إتمسكنا هيعملوا فينا ايه؟
نظر له بغضبٍ ليدفعه ناهراً
- وانت ليه بتجول إننا هنتكشف.. ما تجطم بجي مش حشيت ألفين إجنيه وهتحش زيهم بعد ما نخلص العملية .. نجطني بسكاتك بجي
أومأ له الشاب بصمتٍ وبالفعل لا يهمه غير ما سيناله فليحترق الجميع وإن تم كشف الأمر لن يعترف به ولا بشئ مما يخصه
*****
وضعت رقية الحقيبة وقد قامت بطهي الطعام من أجل روسيل وميان
- أنا حطيت الأكل في العلب خلاص
نهض كامل وتمم فوق العلبة الحرارية المُغلقة قبل أن يغلق الحقيبة
- تمام.. يلا روحي إلبسي الجاكت وخدي دوا القلب عشان معاده هيجي وإنتِ هناك
- حاضر بس خليك فاكر نجيب عصير فراولة وجوافة عشان دول أكتر نوعين بيحبهم
إبتسم لها بحنان وكم تذكره بمربيته الحنون، وكم يشعر بالإمتنان لفوزه بإنسانة مثلها، إمتلكت كل صفات الحب والطيبة وكأن والدتها قد ورثت كل ما لديها لإبنتها قبل أن تتوفي
فتح البراد وأخذ إبر الأنسولين الخاصة بها وخرج حاملاً الحقيبة لينطلقوا للمشفي .
*****
أحياناً نتمنى أن تكون أحلامنا حقيقة .. وأحياناً نتمنى لو كانت حقيقتنا حلماً.

وهي من النصف الثاني.. ورغم مرور أقل من يومين إلا أنها تأمل أن تكون داخل حلماً !
نظرت لوالدتها الساكنة وقد تم رفع عدة من الأجهزة لتظل فقط من تقيس النبض والسلك المتصل بأنفها

وضعت أصابع يدها اليمني فوق الزجاج تناجيها بصمتٍ، وكم بث يوسف بها من قوة وأمل
أغمضت عينيها بإرهاق ولو مهما مر من وقتٍ وزمن لن تنسي موقفه معها ولا دعمه لها رغم أنه لا يعشقها !
أو كما تعتقد هي !

نظرت جانبها علي لمست ميان فوق يدها لتمسكها بصمتٍ قبل أن تهمس بهدوء دائماً ما لاق بها وكأن الهدوء خلق من أجلها
- متزعليش.. ماما بتقول إن دايماً بعد ما الانسان بيتخنق أوي ربنا بيخرجه وبيساعده
إبتسمت لتسيل دمعتها قبل أن تقترب لتحتضنها بشكرٍ ماسحة فوق ظهرها
-
خليكِ معايا يا ميان
وكانت رقة تتابعهم بحزن شديد .. وقلبها يتآكل علي روسيل وحالتها
إبتسمت بإستغراب من ثبات ميان وقلة بكائها رغم حساسية المواقف حتي أنها أحياناً تبكِ وميان هادئة فقط تنظر بصمتٍ!

ربتت ميان فوق ظهرها بتردد ورعشة من تلامسهما، وظلت كما هي ثابتة حتي ابتعدت روسيل ماسحة دموعها لتعود ناظرة حيث الزجاج
- ليه حاطين سلك في مناخيرها
سألتها بإرتباكٍ لم تتخطاه بعد والغرض كان إلهائها كطفل صغير، وأجابتها روسيل بمرارة
-
عشان الغذا بيوصلها عن طريق المناخير دلوقتِ
اومأت بشرود لتسأل بإستغراب
- مش المفروض محلول زي اللي بيحطوه في الايد
ابتسمت روسيل ناظرة لعينيها بحنان
- عارفة انك بتحاولي تلهيني ياميان
اتسعت عينيها من فهمها لغرضها من الحديث وزمت شفتيها بضيق من الجميع وكأنها تتحدث بصوت مرتفع، ولم تتخلص من فهم موسي لجميع ما تفكر به حتي تكشفها روسيل أيضاً
-
طيب خلاص هسكت بقي
ضحكت روسيل بتلقائية لتمسح فوق خصلاتها بإمتنان
-
وجودك كفايا..
- طيب ليه مش بتدخلي وتكلميها زي الافلام والروايات يمكن تصحي وتبقي كويسة
انتفضت ميان من لمسة رقة وانتفضت رقة من رد فعلها الغريب

-
انا اسفة مقصدش اخوفك.. وبعدين انت هنا في أمان متتوتريش كده مفيش حاجة
اومأت لها ميان بصمت محاولة تجنبها علي قدر المستطاع فلا تريد التداخل والحديث مع احدا غريب.. لا تستطيع التأقلم
ولا تريد.. فقط تريد الإستكانة بهدوء كما نشأت !
*****
قالوا..
ابتعد عن غضب الرجل الهادئ وعن أنقضاض الحيوان المروض.

وكان من الأفضل للجميع الإبتعاد عنه..
ولكنهم بطريقة أو بآخري مسوه.. بل لعبوا بعيارات ثباته!
مسح
بعنف فوق خصلاته وقد مر أكثر من ساعة كاملة يحاول تهدئة جنون غضب وإلي الأن يقيد نفسه بكل ما لديه من قوة حتي لا يذهب ويهدم المدرسة فوق رؤسهم جميعاً
قبض فوق المقود لينحني داخل المنحدر المؤدي لطريق المشفي ومازالت صورة طفولتها المحطمة لا تغيب عن عقله!

كيف عشقتحيث تعيش القصص. اكتشف الآن