الفصل السادس والثلاثون

60.9K 1.7K 20
                                    

من باب الواقعية، لاحياة تخلو من الهموم فابتسم.
باولو كويلو

ولكن ما لديه ليس مجرد هموم.. ليست خلافات..
هو لديه مصائب!
مر الوقت وهو قابعاً في سيارته، افكاره تُلقي به من الشرق إلي الغرب
لا يعلم كيف لم يحدث! .. وكيف أثبتت السجلات هذا !..
تنهد بإختناق من المنطق الذي يُوضح أن تلك الحادثة بالفعل لا يمكن مداراتها، ولا يمكن للمديرة الكذب عليه في شئ كهذا ولكن قلبه يحارب منطق عقله ..
قلبه يخبره أن ميان صادقة !
أغمض عينيه بقوة من الفكرة، ولكن ليس امامه غير ذلك التصرف حتي لو كان غير مقبول بالنسبة إليه !
رفع هاتفه وبعد ثوانٍ أتاه الرد لينطق بحزمٍ

-
استاذ شريف بعد إذنك عاوز فريق بحث علي مدرسة *** البريطانية للبنات، عاوز بحث في سجلات المدرسة وأوراق القيد.. في بنت كانت هناك وماتت في حادث انتحار، شنقت نفسها في الفصل ودا كان من حوالي 12 او 13 سنة .. حضرتك دور في كل السنين أنا سألت ونفوا الحادثة بس أنا متأكد من وجودها .. وللأسف دي كل المعلومات اللي عندي حاليا!
انهي المكالمة والقي بالهاتف، وإن كان إثناهما يبدوا صادقتين إذا عليه الشك بالمديرة أولاً
قاد سيارته وانطلق محاولاً التخلص من لح شعوره بحاجة رؤيتها
وقد لازمه ذلك الشعور فجأة منذ عودتهم، لا يُريدها أن تغيب عن عينيه، وكأنه مَرَضَ بهوس ضياعها مثل والديها !
*****


إحذر المرأة بعد البكاء، فإنها تكون أكثر قوة.
أنطون تشيخوف

وهي بكت كثيراً في الأمس، وقبل الأمس! ..
بل هي تبكِ منذ أكثر من سبع أشهر !
والأن لم تكتسب قوة فقط، هي إكتسبت غضباً من الجميع .. وهو أولهم !
نفخت روسيل بضيق واضعة الاوراق فوق المكتب
-
الشغل دا مش المفروض اتعمل قبل كده؟!
نفت تميمة
-
للاسف لا.. المفروض كانت رودينا خلصته، بس طلبوها في الموقع وكان لازم تروح وانا وانتِ اللي نقدر نعوض مكانها في الشغل المكتبي، وانتِ عارفة لسه معايا اربع زي الملف دا ومستر يوسف قالي أوكلك بدا
تنهدت بكبتٍ وجلست لتفتح الملف وما كان ينقصها غير مضاعفة العمل واليوم.. والأن!
مسحت خصلاتها تشعر بإختناق شديد منذ مناقشتها مع والدتها أمس، تعلم أنها محقة ولكن الأحداث تتابعت ولم تفكر في الإتصال لينتهي الأمر بخلاف نالت منه التأنيب والتحذير كطفلة صغيرة !
-
متفكريش انك هتتصرفي براحتك وبدون معرفتي عشان اغلب الوقت انا مش في البيت
-
يا ماما مش موضوع براحتي هو شغل وجه فجأة وكنا هنرجع بس الظروف مسمحتش
-
اسمعيني يا روسيل.. اسمعيني كويس وافهمي كلامي عشان مش هعيده
انا معنديش بنات تبات بره البيت، ومش عشان يوسف كاتب كتابك يبقي عادي، لا فوقي انتِ هنا في بيتي انا مش في بيته وكتب الكتاب دا ولا يلزمني مدام لسه متعملش فرح واشهار للكل

-
يا ماما مش...
-
متقطعنيش قلتلك.. اسمعيني وانتِ واعية وفهماني كويس.. بيات بره البيت لا، وإن إتكررت تاني هيبقي في كلام تاني خالص مش هيعجبك وإنتِ عارفة دماغي وإسلوبي فخلينا صحاب بلاش نزعل من بعض .. إنتِ مش صغيرة
-
روسيل.. روسيييل!
-
هاا
همست بعدم انتباه ناظرة له لتعتدل في جلستها مبتلعة ريقها
-
اتفضل !
رفع احد حاجبيه دهشة وإستدار نحو مكتبه
-
تعالي علي مكتبي
زمت شفتيها ونهضت وفي الاساس هي غاضبة منه ومن تصرفاته الهوجاء ولأخر لحظة ستظل تندم علي مصارحته
اقتربت ناظرة له بعد أن أغلقت الباب
-
كنتِ فين بقي بره؟!
نفت برأسها لتتحدث بما يليق في العمل من وجهة نظرها
-
مفيش سرحت شوية سوري.. هو انت بقالك كتير واقف ؟!
لم يُجيبها وكأنها لم تسأل كما فعلت هي وإستراح في مقعده
-
اه سرحتِ في ايه يعني؟!
اغمضت عينيها لحظة محاولة السيطرة علي عصبيتها وضغطها من الجميع، ولو في يدها الخيار لصرخت عليه وتركته من عصبيته وتسرعه، وكم كانت تمكت تلك الشخصيات في حياتها لتتزوج أحدهم !
-
دي حاجة تخصني، وبعدين لو مهما كانت اكيد مش هقولك حاجة تاني
نظر لها بسخرية من حدتها
-
ودا من ايه إن شالله ؟!
-
مش من حاجة، انت دلوقتِ طلبتني للمكتب .. في حاجة في الشغل ؟
ضيق عينيه مُستنداً علي المكتب
-
دا تجاهل لكلامي مثلاً ؟!
نفت عاقدة ساعديها امام صدرها ببرود
-
لا تجاهل ولا حاجة.. احنا في الشغل والمفروض اي كلام يخص الشغل.. ودا كان كلامك!
ابتسم فجأة ليضحك عالياً قبل أن يتحدث بإستخفاف
-
طيب اسمها كلام حضرتك مش كلامك.. ونرجع تاني للشغل مفيش اي مشكلة
اومأت بصمتٍ وتتمني حدوث ذلك حقاً حتي تتخلص من تصرفاته واهتمامه الذي بدأ يغزوها دون شعور، وتكفيها ساعات الليل التي مضت بين ضيق من نقاش والدتها الحازم معها و.. وشعور غريب من تمضيتها الوقت معه رغم ضيقها من فعلته ومحادثة عمها وكأن ليس لها شأن !
*****
- طب مفيش حاجة بتوجعك النهاردة.. ممكن نروح نكشف عادي متخافيش ؟
تحدثت رقية مُتحسسة وجهها، ونفت ميان ببسمة لتُقبل وجنتها مُطمئنة ودائماً ما استطاعت طمئنتهم عليها.. ولو في أشد مرضها كانت تدعي حتي لا تضطر مرغمة الذهاب للكشف !
- ولا في اي حاجة تقريباً وشي اللي اضرر وجرح صغير هنا
قالتها مشيرة لعنقها نحو اللاصق، واحتضنتها رقية حامدة وشاكرة علي حفظ ابنتها رغم أنها مُبتلاه ودائماً ما تسقط وترتضدم بالأشياء
- ياماما متخافيش والله
همست ميان ماسحة فوق ظهر والدتها
بحنانٍ
- ازاي بس يا ميان.. برده يوم ما اتخبطي في باب السلم ويوم ما وقعتي عليه انا حسيت قلبي هيطلع من مكانه، انا هشوف كامل وندبح اي حاجة لوجه الله تعالي فداء ليك
ضحكت ميان قائلة بمُشاغبة
- هو انا كل ما اتخبط هتدبحوا حاجة.. كده الناس ممكن تخطفني عشان تدبحولهم طول العمر
قبلت كتفها ونهضت أتية بذلك الثوب الذي جلبه والدها لها وكانوا سيتركونه كهدية لعيد ميلادها ولكنهم قرروا أمس بعد وصولها أو يفاجئوها به عوضاً عن ألم حادثها
- غمضي عنيكِ طيب
فعلت العكس لتتسع عينيها ببهجة وإستغراب
- ايه دا مفاجأة ؟
أومأت رقية مُتوقفة قُرب باب الخزانة المفتوح
- يلا غمضي بقي
أغمضت عينيها وبمجرد ما رأت الثوب حتي قفزت بعدم تصديق، وقد كانت تتمناه حقاً ولكن ثمنه كان مرتفعاً بشدة مقارنة بكونه مجرد ثوبٍ في النهاية !
- مين جابه دا غالي جدا
ابتسمت رقية بحنان وإقتربت تضعه فوق الفراش حتي تخرج وتغير ميان لقياسه
- مفيش حاجة تغلي عليك ياميونتي .. يلا قومي قيسي بقي هطلع أهه
ضحكت بسعادة حقيقية وإلتقطته لتفتح سحابه بعدم تصديق، بينما خرجت رقية ببسمة من حرج ميان منها في أن تغير أمامها أو أمام أحد رغم أن قرارها هذا ونضوجها كان من عُمرٍ صغير !
*****
الشك داء، يؤدي للجنون.
سرين عادل

وهو سيُصاب به إن إستمرت الأمور علي تلك الوتيرة !
- عملت ايه يا استاذ شريف؟!
مط شفتيه بإستغراب ناظراً له خلف المقود وقد توقف موسي بالسيارة في مكانٍ هادئ، بعد أن مر وأخذه من أمام المدرسة
-
مين قالك إن كان في حادثة زي دي هناك؟
-
مش ضروري المصدر
ابتسم شريف برزانة وعادتاً ما كان موسي هكذا
لايعلم أحد شئٍ إلا إذا أراد هو ذلك!
-
لا ضروري يا موسي.. الموضوع مش بسيط
وغالباً المصدر غلط.
نظر له بضيقٍ وتقطيبة إحتلت جبهته
-
أنا بقولك حصل.. انا مُتأكد
أغلق شريف الملف وربت فوق كتفه بهدوء ودايماً ما كان كوالد ثانٍ له ولأخيه منذ الصغر
-
طب اهدى.. عرفني بس مصدرك مدام الموضوع مهم كده
تخلل خصلاته زافراً بإختناق وتشوش من فكرة كذب ميان أو تخيُلها لكل ما قصته عليه
-
إنت متأكد بنسبة كام إن مفيش بنت ولا حادثة؟!!
-
بنسبة 100%.. إنت عارف شغلي كويس..
وشفت بنفسك فريق البحث، احنا مسبناش ملف في الأرشيف.. مستحيل يبقي الموضوع صح ومفيش ولا ورقة تثبت دا!
قبض فوق عجلة القيادة بضغطٍ كبير، فِيما تابع شريف بأسفٍ
-
مصدرك مش صح ياموسي.. للاسف اللي قالك مش صادق ومفيش حاجة زي دي حصلت اصلاً
أغمض عينيه مُستنداً برأسه للخلف بينما توهجت حدقتاه من اشعة الشمس الراحلة
-
انا معاك وانت عارف دا.. ولو في اي حاجة هساعدك بس كده احنا ماشين في طريق غلط.. مفيش حادثة حتي لو كانت مثلاً وقوع من علي السلم او موت بأي طريقة
أومأ له بصمتٍ وشرود، وربت شريف فوق فخذه بحنان
-
انا هروح عشان عندي شغل مع رشيد.. لو احتجت حاحة كلمني، والكلام بنا مش هيخُرج انت عارفني
تنهد مُبتلعاً ريقه وظل كما هو حتي بعد ذهاب المحامي..
عقله لا يستوعب مايحدث..
قلبه يخبره أنها صادقة وعانت وأكبر دليل الوشم
ولكن المنطق والواقع ينفي هذا
ومرضها النفسي سلاحاً ضدها للأسف!
والحقيقة تُدلي بأن قصة الفتاه إختلاق وخيال، والرجل فقط هو من كان موجود..
هذا إن كانت صادقة فِيما يخُص قصته
!
زاد من قبضته فوق المقود مُشغلاً السيارة قبل أن يضغط فوق دواسة البنزين مُنطلقا بأقصي سرعة لديه!!
*****
دخلت روسيل المكتب بعد أن أذن لها بطريقته الباردة والمستفزة كما تُلقبها
- تمام مفيش مشكلة.. البقاء لله
أنهي مكالمته ليضع الهاتف وقد هاتفه عمها الكبير ليطلب منه تأجيل الزيارة بسبب توفي أحد معارفه

-
تميمه قالتلي إن حضرتك عاوز الملف ده
تحدثت مقتربة لتضع الملف أمامه، وأشار لها بالجلوس دون أن ينظر نحوها

-
اتفضلي اعدي
نظرت له ثوانٍ عندما فتح الملف، واجابت مُحاولة تجنب أي حديثٍ معه، لاتعرف كيف تقنعه أن طاقتها حقاً نفذت علي الأقل لليوم !
-
اصل انا لسه عندي شغل كتير
رفع رأسه لها كصقر إلتقط فريسته فجأة

-
نعم ! .. شغل!
سأل بإستغرابٍ، وتابع بحزمٍ مشيراً للمقعد
-
هو انا هقعدك اهزر معاكِ، اعدي يا أنسه في ايه علي الصبح ؟!
زمت شفتيها بحرج من فظاظته معها وجلست بهدوء، بينما عاد ببصره مرة آخرى للاوراق التي كانت امامه
تنهدت بصمتٍ وحيرة من شخصيته وتصرفاته الغريبة وكأنه طفلاً صغير بمجرد ما تضايقه يعاندك ليثير غضبك، أغمضت عينيها بإرهاق وللأسف عليها التحمل ولو قليل إلي أن تتخلص، تعلم أن هذا هو الافضل له قبل أن يكون لها ..
فهي لم تعُد مراهقة صغيرة لتنجرف خلف مشاعرها أو لتسير دون حساب للعواقب!

قطع شرودها صوته الغاضب
-
ما انتِ لو مش مركزة اعدي في بيتك أحسن !
نظرت له بدهشه محاولة فهم ما قاله
-
افندم ؟!
ألقي بالملف فوق المكتب
-
مش دا الملف اللي تميمه قالتلك عليه .. وحضرتك مش مركزة، شاطرة بس تقوليلي عندي شغل وكأني عازمك علي العشا .
ابتلعت تعنيفه بهدوء
-
لا هو ده حضرتك
-
اممم.. يعني انا اللي مش مركز !
نفت بهدوء وتريُث تعلم أنه يحاول ليثير غضبها
-
العفو يافندم.. مقصدش كده بس تميمه قالتلي ملف تعدين الــبــهــي
-
لا .. تميمه قالت اني عاوز ملف تعدين عمران
نظرت له بإستغراب من ثقته في الحديث
-
صدقني مجبتش سيرة عمران .. قالت البهي، انا فاكرة كويس قالت إن حضرتك عاوز البهي ..
أومأ لها ورفع سماعة الهاتف طالباً من تميمة الحضور
وبعد لحظاتٍ دخلت بإحترام
- اؤمر يا فندم
-
حضرتك قلتِ للانسه روسيل تجيب ملف ايه؟
-
مــلــف تــعــديــن الــعــمــران .
صُدمت روسيل من انها أخطأت بالفعل بينما قام يوسف بصرف تميمه عائداً بحدقتيه نحوها فسارعت مُتحدثة بدهشة وإستغراب شديد
-
مش عارفه والله ايه الي حصل.. بس انا فعلاً مسمعتش عمران خالص
اجابها بسخرية كما فعلت نظراته
-
طبعاً ما لازم متسمعيش ومتخديش بالك مدام مش مركزة اصلا !!
رفعت عينيها له بغضبٍ منه ومن معاملته الجافة، وإبتلعت ريقها كاتمة غيظها وللاسف أن الموضوع ضدها وقد أخطأت بالفعل
تنهد بضيقٍ ناظراً للملف بعد أن أغلقه
-
اتفضلي يا انسه رجعيه هخلي تميمة تجيب التاني، وانتِ روحي كملي شغلك الي عطلت سيادتك عنه
جزت فوق اسنانها ونهضت بهدوءٍ لتخرج وكأن شيئا لم يكن!
تهدأ نفسها بأن كل شئٍ سيُصبح علي ما يرام.. فقط تصبر حتي تتخلص دون أن تتأذي أكثر ودون أن تجرحه وتصدمه بها كما صُدم أخيه بميان !
*****
الظروف قاهرة، فأحياناً تُجبرنا علي التعامل مع أشخاص لا نطيق مجرد رؤيتهم.
سرين عادل
- ازيك يا موسي؟ .. اتفضل اطلع طيب
أجاب دون أن يظهر شيئاً من صوته
- لا معلش عشان مستعجل خلي ميان تنزل لو جهزت
-
اه خلصت هتنزل دلوقتِ .. ولاون مينفعش تيجي تحت البيت ومتطلعش، وإنت أصلاً مش بتيجي خالص
- معلش شغل بقي انت عارف المسؤليات.. مرة تانية إن شالله

خرجت من غرفتها بضيقٍ تشعر أنه أجبرها علي الخروج وقد رفضت عندما سألها علي الهاتف، تشعُر بإحتياجها للعُزلة ولو لأيامٍ فقط لتُفاجئ بتحدثه مع والدها وإخباره أنه سيمُر عليها ليأخذها
-
متتأخريش بقي بليل
اومأت مُقبلة وجنته بحبٍ قبل أن تتحرك لتخرج، ولحظاتٍ مرت بينهم من سلام هادئ منه وردٍ مستسلم ومحرج منها قبل أن ينطلق بها وكأنه لم يفعل شئ ولم يجبرها علي الخروج !
-
مش عاوزة تشتري هدوم تاني؟!
نفت برأسها ونظرت له تريد سؤاله بما يدور في رأسها منذ عودتهم
- هو .. انا ممكن أسأل س.. سؤال .. عادي ؟!
ابتسم رغم ما به وأومأ غير محيداً بنظره عن الطريق
- اسألي سؤال عادي
ابتلعت ريقها بإرتباكٍ كما مسحت كفيها في ثوبها الوردي
- هو .. هو حضرتك تعرف.. يعني .. ال...
صمتت فجأة لا تعرف كيف تُكمل وحثها لتتابع يريد أن يري ما هو هذا السؤال الذي تسبب بإحمرارها لتلك الدرجة
- ها .. أعرف ايه ؟!
تنهدت قابضة يدها بقوة لتنطق مُسرعة
- ال.. البنات في المحل ؟
رمش مرتين وثلاث بدهشة من السؤال الذي لم يتوقعه قد
- أعرفهم ازاي يعني ؟!
زمت شفتيها بندم من سؤالها وتسارع تنفسها من إنتظاره لإجابة
- ت..تعرفهم عادي!
مال ثغره ببسمة عابثة كما ضاقت عينيه بمكر ليهمس ناظراً لها وقد ترك ليده مهمة القيادة دون النظر
- عادي .. أعرفهم حب يعني وعلاقة ؟!
إرتبكت بشدة من همسه ونظره لها رغم أنها تنظر للأمام ودون إرادة إرتفعت يدها تتمسك بدرعها الدائم والذي تمثل حديثاً بسلساله !
- هو انت بتحبهم ؟!
نظر للطريق لينفجر ضحكاً من سؤالها الأبلة ويُجزم أنها تسأل دون تفكير من توترها
- بحبهم جماعة يعني .. هو في قلب بيحب أكتر من واحدة ؟!
لم تُجيبه وظلت بين رفرفات أهدابها وإنغلاقهم
- لا يا ميان معرفهومش.. وممكن يكونوا مكانوش يعرفوني
نظرت له بإستغرابٍ من عدم فهمها وكان هذا كل ما أراده، أن تنظر له وكأن قلبه اشتاق لسماء عينيها الصافية
- انا صاحب المحلات دي ياميان .. وهم كانوا بيشوفوا مين اللي المحلات اتفتحتلها قبل معادها بأكثر من ثلاث ساعات.. وممكن لأنهم مكانوش يعرفوا شكلي وكانت أول مرة يشوفوا المالك
أومأت بشرودٍ ولم تتخيل أنه المالك لكل ما أخذها عليه، هي إستغربت وقتها أن تلك المتاجر مفتتحة ولكن لم تتخيل أنها فُتحت من أجلها حقاً
- ميان..
ناداها بخفوتٍ مبتسماً من شرودها الطفولي وإندهاشها الواضح ونظرت له رامشة ليصدمها همسه وبسمته الغريبة
- انتِ بتغيري عليا ياميان؟!
هربت بنظراتها مقطبة الجبين ليبدأ صدرها بالصعود والهبوط ويديها بالإرتجاف الذي إزداد تحت وقع ضحكته وهمسه
- خلاص خلاص .. اهدي

ابتلعت ريقها ونظرت أسفل ودام الصمت بينهم حتي توقف بسيارته أمام مبني المدرسة، وهبط ليفتح بابها بثباتٍ وكأنها مجرد صدفة !
-
تعالي يلا إنزلي هدخل أجيب حاجات من واحد معرفة وبعدين نمشي
هبطت من السيارة وقد تغير الشارع كثيراً، ولكن بمجرد ما إستدارت ورأت المبني حتي ذهب لونها !
إرتعشت مُستندة علي السيارة وقد تحولت نظراتها للأرض وكأنها تقنع نفسها أن هذا مجرد تهيؤ ليس إلا.. والمبني مختلف !
- مالك؟ ..
نظرت له بتشوش وعادت تنظر ببطئ نحو المبني تتمني أن يختلف، ولكن الحقيقة ضربتها بثباته ولونه الذي لن تنساه ولو مهما مرت الأعوام، تحول تنفسها لنهيجٍ لتُنفي بصدمة
ضغط علي نفسه وليس أمامه خياراً أخر وقد عاد للحارس ليُطمعه بالمال عله يعلم شيئاً ولكن علي ما يبدو أن جميع العاملين تغيروا خلال السنون ولم يتبقي غير المديرة والأوراق التي نفت الحادثة بأكملها

- يلا عشان منتأخرش
نفت مجددأ بدموع بينما جذبها بهدوءٍ لتتخطي السيارة وتصلبت قدميها أمام بوابتها الحديدية
- مش عاوزة .. مش .. عاوزة أدخل
همست بتوسل خافت وكأنها تتحدث لنفسها وأحاط ظهرها ليتخطي البوابة

نظرت حولها بذهولٍ من صوت الفتيات في الصفوف وتحركت ورأسها في نفيٍ مستمر لا تُصدق وجودها في هذا المكان، بينما جذبها برفقٍ لتسير وتحركت لتتمسك بالباب الحديدي الكبير وكأنها إمراءة عجوز لا تستطيع التحرك
إبتلع ريقه ببطئٍ وأحاطها بقوة لتتحرك، وسارت بجسدٍ يرتعش وكأن الكهرباء تضربه بتواصل، وإرتفعت يدها متمسكة بساعده دون شعور، والعجز يزداد عليها ليُثقل جسدها

-
متخافيش انا معاكِ.. مش هنتأخر جوا
همس لها وداخله يتألم من حالتها المذرية ومن غير الممكن أن تكون إدعاءٍ، ولكن ما باليد حيلة وليس أمامه طريقاً أخر
لم تسمع شئ مما قاله وتحرك بها بثباتٍ
وكان بالنسبة له يسحبها لداخل مدرستها.. أو كذبتها

ولكن بالنسبة إليها كان يسحبها لداخل نفقها المُظلم.. أو حيث هلاكها !
ارتفعت نبضات قلبها بقوة واصبحت هي من تتشبث بجسده، بعدما أحاطت خصره برعشة لتتمسك بذراعه الآخر بكل ما تبقي لها من قوى
- هنروح للمديرة وهتواجهيها بوجود صاحبتك وأنا وساعتها أنا هقفلها وهسجنهم !

إبتلعت ريقها وصوته لا يصل وقد إحتلت أذنها أصواتٍ آخري بمجرد ما إقتربت من الملعب الرملي!!
- ميان .. إنتِ سمعاني؟!
سألها بتوجس من بداية تعرقها وبرودة يدها التي تحولت كالبوظ فوق ساعده

ولم تجيبه كما لم تسمعه، نظرت جانباً وقد تباطئت خطواتها لتصبح حركتها بفعل جذبه ليس إلا
-
لا مش بحبه
- ليه يا ميان؟
- كده بيخنقني.. انا مش بحب الثوم ولا اي توابل
- طيب جربي شبسياية واحدة بس.. دا طعمه حلو اوي
- لا مش عاوزة
- خلاص حاضر.. تحبي اشتريلك ايه..
- مش عاوزة حاجة
- لا هشتريلك حاجة .. بصي استني هجبلك عصير وانا صحيت الصبح وعملت سندوتشات بيض بالجبنة الرومي زي ما انتِ بتحبيها
- ماما عملتلي كمان .. أنا معايا
- خلاص تعالي ناكل منهم ياميونة واللي يتبقي نديه للشحات اللي بره زي كل يوم
شهقت بإختناقٍ غارزة اظافرها في يده لتُغمض عينيها بقوة من تلك الأصوات
-
اجري يا مياااان.. يلا اجري يابنتي
- انتِ دايماً بتسبقيني ولما انا بكسب انتِ بتكوني قاصدة وبتمثلي عشان تفرحيني صح
فتحت عينها شاهقة بدموع سالت كما عرقها الذي بدأ بالسيل من رقبتها لبداية كنزتها
- ميان .. اسمعيني .. بصيلي بقولك
توقف هاتفاً بها بقلق من حالتها التي بدأت تسوء بطريقة مفزعة، ولم تنظر له بل نظرت لأحد للزاويا البعيدة

-
انت هبلة يا ميان.. انا مش مضايقة اني بذاكرلك.. انا بحب كده وبعدين انا بسقط عشان مش بحب العربي والانجليزي بس بعشق الرياضة.. يلا حلي المسألة دي وانا هساعدك اهه
آنت بألم محاولة حجب تلك الأصوات وقد أصبحت في منتصف الملعب
- ميان بصيلي
هتف بها ماسحاً ظهرها وذراعيها من برودتها وشحوبها الذي حول لون شفتيها لزراقٍ شاحب
إهتزت حدقتيها وقد وصلها صوته خافتاً مُختلطاً بتلك الاصوات حولها

- اهدي ياحببتي .. اتنفسي ومتخافيش
نظرت لأعلي حيث نوافذ الفصول، ورغم وقوع ضوء الشمس فوق حدقتيها هي لم تضيقهم أو ترمش
-
انتِ بتعيطي ليه بس. . متخافيش انتِ كويسة اهه
-
بس انا هموت.. انا سمعت ماما بتعيط في الاوضة وبتقول لبابا حاسه إن ميان هتموت وتروح مني
- لالا مش هتموتِ بعيد الشر عليك.. متخافيش هتلاقيها بس بتقول كده عشان شافت كابوس
عادت تغمض عينيها بقوة كما قبضت يدها المُرتجفة شاعرة بقُبلات دانا وهي تتوسلها ألا تبكي
نظرت له بتشوش عندما شعرت بجسده وذراعيه التي احاطت جسدها من تراخي قدميها وكانت ستفيق لولا رؤيتها للمُساعدة البدينة في الأمام، ورغم أنها لم تتذكرها ولكن شعر بإنقباضٍ غريب من رؤيتها
-
انا بحبك ياميان.. انا اسفة اني حبيتك بس مش بإيدي.. وعد لما نكبر هتجوزك ومش هسيبك خالص
تعالي صوت بكائها فجأة لتشهق مُحتضنة خصره بقوة وقد دفنت رأسها في صدره تستمع لصوت لضحكاتهن وصرخاتها في الاعلي باكية عندما ضربتها دانا في دورة المياه، حتي ربتات دانا فوق خصلاتها الشقراء وكتفها لتُطمئنها أنها بخير وتخطت أزمة التنفس بعد البخاخ
-
انت كويسة اهه.. اهه بتتنفسي.. متخافيش
- خايفة اموت!
- متقوليش كده عشان خاطري مش هتموتي
زادت من غرز رأسها في صدره وقد تحول تنفسها لنهيجاً ثقيل لتبدأ باللُهاث الحاد
أبعد رأسها عنه يريدها أن تفيق وقد قرر حملها والخروج بها سريعاً يشعر أنها لن تتحمل رؤية أحداً
وبكت بقوة نافية برأسها لتغرزها في صدره مُستمعة لنبضٍ لا تعلم هل نبضها أم نبضه
- هشيلك متخافيش .. حاولي تركزي عشان خاطري ..

لم تتحرك قدر إنشٍ، فقط نقلت جزءاً كبير من رعشتها لجسده

- ميان.. فوقي بقولك .. إبعدي عاوز أشيلك ونمشي من هنا.. ركزي
نفت في صدره محاولة تجاهل شعورها بذلك السائل الذي سال فوق قدميها مجدداً ولم ينتبه إلا عندما بدأت بالتراخي وركضت المساعدة ببكاء شديد نحوه
- البنت بتنزف
توقف قلبه لثانية ونزعها بالقوة من تشبثها به لنظر لجسدها بهلع صارخاً بها
- ميان.. ميان وقفي تفكيرك.. فوقي
كان يتحدث بينما حملتها ذراعيه ليركض نحو سيارته وقد تشبثت به لتدفن وجهها محاولة التخلص كما تفعل ولكنها تفشل بوصول أصوات آخري لها
- افتحي الباب بسرعة
هتف بالمرأة بعد أن فتح السيارة من جهاز تحكمها وركضت تفتح الباب ببكاء شديد وشفقة أكلت قلبها وقد عرفتها من الوهلة الأولي وكيف تخطأ بفتاه مثلها !
- مسحت المرأة دموعها بقهرٍ ونظرت له عندما دار ليحتل مقعده
ودون شعور إتبعت لتتمسك بزجاج نافذته
- انا هقولك كل حاجة يابيه.. انا عارفة اللي حصل بس طمني عليها الله يخليك انا قلبي بيتقطع عليها من زمان
كانت نظراته في إتساع من إعتراف المرأة ورغم غضبه وثورته من الجميع نطق مسرعاً ليشغل محرك سيارته
- هجيلك النهاردة أخدك بعد المدرسة
أومأت بدموعٍ موافقة
- حاضر.. بكرة الساعة 4 هطلعلك علي أول الطريق، عشان أعرف اللي معايا إن ورايا مشوار ومحدش يشك فيا.
*****

حين تُكرر ارتكابَ خطأٍ ما، فلن يُصبحَ خطأ بعد ذلك : إنه قرارٌ واختيار
.
باولو كويلو

كيف عشقتحيث تعيش القصص. اكتشف الآن