الفصل الرابع والخمسين

7.2K 189 21
                                    


كانت تراه يقف بعيداً عنها وعلى وجهه ابتسامة صافية.. كان يمد يده لها يريدها أن تذهب معه.. وحين وضعت كفها بيده لتراه يبتعد عنها وقد أصبح سراباً.. انتفضت قائلة بفزع " يوووسف " ذهبت إليها ياسمين بسرعة فكانت مريم شاحبة تماماً وقد ذهب الدم من وجهها.. لهثت بشدة.. لقد كان كابوساً.. لم يرحل يوسف.. أجل كان كابوساً.. رفعت أنطارها لياسمين الباكية فقالت بقلق " مالك يا ياسمين.. بتعيطى لية " نظرت لها ياسمين بذهول.. ألا تتذكر ما حدث.. ردت ببكاء " يوسف مات يا مريم.. يوسف مات " ضحكت مريم قائلة " لا طبعاً دة كان كابوس بس " هزتها باسمين بشدة وهى تصرخ فيها لتفيق " بقول لك يوسف مات.. أخويا مات " رمشت بعينيها عدة مرات بعدم تصديق.. أقالت يوسف.. كيف.. ردت بنظرات تائهة " لا مستحيل.. يوسف عمره ما يسيبنى ويمشى.. مستحيل " انهمرت دموعها وهى تهز رأسها بشدة نافية لحديثها فاحتضنتها ياسمين بقوة وقد انخرطت الفتاتان فى بكاء شديد..

بينما فى الغرفة المجاورة.. كان يرقد عبد الله على الفراش موصول بالعديد من الأجهزة.. لم يتحمل خبر وفاة ابن أخيه فأصيب بجلطة فى القلب.. بينما يرافقه خالد وياسين كلا منهما يبكى بصمت مؤلم على فقدانهم لأعز ما لديهم..

أما فى الخارج.. كان حمزة يجلس على أحد الكراسى ينظر الى الفراغ.. كيف يتركه رفيق دربه بمنتصف الطريق ويرحل ليجعله يكمل طريقه وحده.. كيف يذهب دون وداعه.. كيف يفعل هذا به.. يعلم إنه ليس بمقدور يوسف ولكنه كان يتمنى أن يبقيا سوياً حتى يشيبان على طاعة الله ولكن إرادة الله فوق كل شيء.. إنه لا يستطيع تمرير يوم دون أن يراه أو يحادثه على الأقل.. كيف تستمر حياته وهو غير موجود.. حتى أنه لا يستطيع أن ينعم بسماع صوته العذب فى تلاوة القرآن.. لن يصلى بهم مجددا فى مسجد الشركة.. كيف سيبدأ يومه وهو يعلم أنه لن يراه.. يحتاجها بجنبه.. يحتاج أن تطمئنه بأن كل شئ سيكون على خير ما يرام.. اتصل بحنين فأتاه الرد على الفور وهى تقول بقلق بالغ " حمزة.. انت كويس.. بتصل بيك من امبارح مردتش لية " رد بصوت متهدج كمن يوشك على البكاء " يوسف مات يا حنين.. أخويا مات " ذهلت من رده.. أقال يوسف.. كيف.. لقد كان يحادث حمزة منذ عدة ساعات فقط.. انهمرت دموعها قائلة " انت فين هاجى لك انا وبابا حالاً " أعطاها عنوان المشفى فأغلقت الخط وأخبرت والدها بسرعة الذى تسمر مذهولاً.. يوسف الراوى.. مدير الشركة المحبوب.. كيف.. إنه بصحة جيدة وفى سن صغير.. ارتديا ملابسهما بسرعة واستقلا سيارة أجرة متجهين الى المشفى..

بالمشفى.. لم تجف دموع مريم بعد.. وقد اعطى لها الطبيب حقنة مهدأة بعدما كانت تصرخ بهيستيريا.. فنامت بعدها بهدوء والدموع تنهمر على وجنتيها ولا تزال الأحلام تصارعها.. كانت حنين ومحمود قد وصلا أخيرا فاتجها الى مكتب الاستقبال يسألون عن الطابق الذى به عائلة يوسف.. ثم صعدا مسرعين فذهلت حنين من منظر حمزة.. كان يجلس على أحد الكراسى يُرجع رأسه الى الوراء وينظر الى السقف بشرود بينما تنهمر دموعه على لحيته الكثيفة وقد بدا عليه الذبول والإرهاق.. ابتلعت خطواتها لتصل إليه.. لا تعلم كيف فعلت ذلك ولكنها حاصرته بين أحضانها تبث له القوة.. بينما هو تمسّك بها بشدة وقد انفجر باكياً.. مسّدت على شعره وظهره بحنان بالغ ببنما تنهمر دموعها حزناً على يوسف وعلى زوجها.. أما محمود فكان يتابعهما بعيون حزينة.. لا زال لا يصدق خبر وفاته..

أخبر الطبيب حمزة بضرورة البدء فى إجراءات الدفن.. فحاول التماسك وقد ساعده خالد فى اتمام تلك الإجراءات بينما عبد الله ومريم لا يزالان يرقدان فى الفراش ويرافقهما ياسين وياسمين..

فى المساء.. كان بفيلا يوسف الراوى ما لا يقل عن خمسمائة شخص.. أتى كل فرد من الصغير الى الكبير من جميع فروع الشركة ليقدمون تعازيهم فى أكثر شخص كان يعاملهم بتواضع كأخ لهم.. وقف حمزة وخالد وياسين بعيون دامعة ليقومون بتحية الحاضرين بينما مريم فى الأعلى بغرفته.. كانت تتلمّس كل شئ بيدها وكأنها تدعوه للحضور.. تتمنى لو عاد الزمن لتقف بجانبه وتدافع عنه.. ولكن بما تفيد أمنيتها الآن..

مضت أيام العزاء وكان عبد الله لا يزال فى المشفى موصولا بالأجهزة.. فلم يفق من غيبوبته بعد.. وقد أصرت مريم على العودة الى منزلها الذى جمعها بيوسف.. أخذت معها كل حاجياته وكل ما كان يستعمله من غرفتها بفيلا والدها.. ذهبت ياسمين معها لتقوم برعايتها هى وطفلها..

مضت أيامها متشابهة وروتينية.. أصبحت ذابلة ووزنها قل للنصف.. تظل طوال الوقت شاردة وهى تطالع صورهما سوياً.. لا تستطيع النوم سوا وهى نائمة بفراشه تحتضن قطعة من ملابسه التى لا تزال رائحته متعلقة بها.. تنثر عطره فى أنحاء الغرفة علها تشعر به بجوارها..

بينما حمزة قد أصر على متابعة ما بدآه سوياً.. يظل  بالشركة حتى وقت متأخر من الليل يعمل بكل نشاطه وقوته ليعيدها الى سابق عهدها.. وقد ساعده خالد فى ذلك.. بينما ياسمين فقدت بهجتها ومرحها الدائم.. أصبحت تبكى طوال اليوم وهى تتذكر كل موقف جمعها بأخيها.. تقضى معظم أوقاتها بغرفته فى الفيلا وقد انقطعت عن الذهاب لكليتها.. بينما حنين كانت تطمئن عليها دائماً ولم تتركها تنغمس فى الحزن.. فكانت تذهب لها يومياً تعطيها المحاضرات وتحاول فتح الاحاديث معها لتخرجها من قوقعة حزنها.. أما عبد الله فقد خرج من المشفى ولكن لم يعد بمقدوره تحريك ذراعه الأيسر الذى أصيب بالشلل جراء الجلطة.. بينما ياسين قد عاد لسابق عهده.. ابتعد عن التفكير فى مريم ووجه جام تفكيره فى الدراسة وتحصيل أفضل الدرجات.. كما ابتعد عن أصدقاء السوء وتقرّب من محمد اكثر الذي قد أتم خطبته على حبيبته مى.. أما فريدة فكانت تعيش أيامها بسعادة شديدة.. تسافر الى العديد من البلدان وتتسوق كيفما تشاء.. ولم تكرس دقيقة واحدة للاعتناء بزوجها المريض..

فى إحدى الأيام.. كانت مريم بغرفة يوسف كعادتها.. تقوم بما تفعله كل صباح.. تتلمّس كل شئ بالغرفة بحنين وشوق شديد.. لم تنضب دموعها أبداً.. جلست على مكتبه الذى غطاه التراب.. وشردت فى ذكرياتهما.. تذكرت حين كانا يحضران الفطور كل صباح فى جو مرح.. تذكرت حين كان يفاجئها بمحاصرته لخصرها وهى تقف بالمطبخ.. يضع ذقنه على كتفها ويقبّلها برقة شديدة.. تذكرت حين لوّثت وجهه بالشيكولاتة عندما رفض أن يأكل منها.. تذكرت حين دخلت الى غرفته فوجدته يجلس على مكتبه منكباً على أوراقه دون أن يوجه لها أى اهتمام.. فأخذت الأوراق ونثرتها على الأرض فيكون عقابها أن يقبّلها بقوة.. كانت تكرر فعلتها دائماً فقط لقبلته.. وكان هو يعلم ذلك.. تذكرت حين كانت تتوسد صدره فتنام ملئ عينيها براحة شديدة.. تذكرت حين كان يؤمها بالصلاة ويتلو القرآن بصوته العذاب.. تذكرت حين كان يسبح ويستغفر على يديها لتشاركه الثواب.. اندفعت الذكريات بعقلها تاركة أثراً فى قلبها يستحيل أن يمحى.. انهمرت دموعها ثانية حين تذكرت كل هذا.. هى لم تنساها من الأساس.. اتجهت الى خزانة ملابسه وارتدت آخر ما كان يرتديه قبل وفاته.. وضعت يديها بجيوب الجاكيت فتلمّست يدها شيئاً ناعماً.. أخرجته فوجدت دفتراً جلدياً متوسط الحجم باللون الأسود محفور عليه اسمه.. وضعت أصابع يدها على اسمه وهى تقوله ببطء.. فتحت أولى صفحاتها فتجد ما خُطّ بيده.. قرأت المكتوب " اليوم الخامس عشر من مايو.. اليوم الذى يلى عقد قرانى على حوريتى الصغيرة.. هو نفس اليوم الذى علمت فيه أمر مرضى بورم فى الفص الأيمن من المخ.. يعلم الله أننى لست حزيناً او غير راضياً.. كله خير من عند الله.. وسأصبر على هذا الابتلاء حتى أشفى منه على خير" ازداد نحيبها وهى تتابع " اليوم الواحد والعشرين من يونيو.. أول يوم بجلسات الكيماوى.. ياللعذاب الذى شهدته داخل تلك الغرفة المظلمة رغم أن حوائطها بيضاء.. ينتشر الألم فى جميع جسدى بقدر لا أستطيع تحمله.. كشخص يشق جسدى بمنشار حاد.. يا الله.. أنا لا أعترض على أمرك.. ارحمنى من هذا العذاب انك على كل شيء قدير " شعرت بقلبها المذبوح من كلماته التى خطها تقطع نياط القلب.. تجاهلت عدة صفحات حتى تابعت " اليوم العاشر من يوليو.. يوم أن كنت ميت على قيد الحياة.. ذبحتنى من توقعت أنها لن تؤذينى يوماً.. طعنتنى بدم بارد دون أن تلقى بالاً لحبى لها.. اكتشفت خيانتها لى ولعل قد حدث الأمر وهى مجبرة.. أتمنى من كل قلبى أن يكون الأمر كذلك.. سامحك الله يا حبيبتى " وضعت يدها على فمها لتكتم شهقتها المتألمة.. مررت عدة صفحات فوجدت " اليوم الثالث والعشرين من يوليو " توقفت عن متابعة القراءة.. إن هذا التاريخ قبل وفاته ب 4 أيام فقط.. يوم أن خرج من الفيلا مسرعاً ولم يخبرها عن وجهته..  كان هذا آخر ما كتبه.. تابعت " حبيبتى.. عانقينى لينتهى الخراب الذى بداخلى.. أشعر بالضياع.. طعننى شخص بكلماته التى لم أتوقع يوماً أن يقولها لى.. تعلّمت دائماً أن كما تدين تدان.. ولكن الخير الذى أثمرته بهذا الشخص رُدّ لى بنكران الجميل والكره.. أثق كل الثقة بأن ثوابى عند الله " لم تستطع التحمل أكثر من ذلك فأجهشت بالبكاء.. كان يحتاجها أكثر مما كانت تحتاجه.. كان يحتاج عناقها وأن تبث القوة به.. ولكنها خذلته.. كان يريدها أن تطمئنه.. أن تبقى بجانبه.. ولكن يا لسخرية القدر.. لقد فعلت العكس.. كان لها زوجا وأبا وأخا وصديقاً وسندا وقوة ولم تكن له أيا من هذا.. كان يبدو قوياً وصلباً أمام الجميع.. ولكنه كان هشاً وضعيفاً من الداخل.. يحتاج من يسانده ويشد أزره.. كان من المفترض أن تكون هى هذا الشخص.. ولم تكن كذلك يوماً.. نعم.. لم تكن..

#نوران_الدهشان
متنسوش الڤوت 💜

" معذبتى " لنوران الدهشانحيث تعيش القصص. اكتشف الآن