الفصل التاسع
تصلب جسدها الرقيق أمام باب منزل أرماندو المفتوح على مصرعيه بينما رجال الشرطة يسارعون للخروج منه حاملين أدواتهم مغادرين بشكل نهائي.. وأحدهما يقوم بالتحدث على جهاز اللاسلكي الخاص به: "لم يتهما أحداً بشكل خاص وعلى ذلك ستحفظ حتى يظهر دليل قوي فنتمكن من إحالة المجرم للمحاكمة" صمت أمامها بعض الوقت ليكمل: "المكان نظيف تماماً".
أدركت أن لا دليل على القاتل الذي يبدو أنه محترف، تسارعات أنفاسها وتضاربت دقات قلبها وغشت عيونها ضبابية الخوف هلعاً على من اعتبراها ابنتهما واحتضناها بأكثر أيامها ضيقاً، امتنعت قدماها عن الإمتثال لأوامرها بالحركة والتقدم للداخل وعقلها غائب.. هل ممكن أن يكون جدها خلف ذلك القلق الذي استبد بمارتينا على مدار اليومين الماضيين؟؟
استبعدت ذلك الخاطر.. ثم عادت تلصقه به مرة أخرى بقسوة، ألم يعاملها كمرتزقة وهي حفيدته الوحيدة؟ ألم يقطع آخر شعرة بينها وبين مَنْ تمنت أن يلحظها، دعمت إستنتاجاتها بما سمعته منه نفسه وهو يكاد يموت من الذنب أمام جدة فابيو...
همسة أرماندو الباكية المنهارة أعادتها للواقع: "إنه ريكي" ماتت نظراتها على الواقف أمامها بإنهزام حقيقي، إنها تعرف كم يحب ريكي وقد كان صديق طفولته، خانتها دموعها بلحظة وهطلت على خديها بغزارة مشيعاً الخبر داخلها الحزن والألم.. ماذا فعل حيوان ضعيف لذلك المتجبر حتى يحاول أن يتخلص منه بخسة، وجدت نفسها تنجذب لأرماندو بفعل كفيه الأبويين عندما ارتاحت على كتفيها.. جمعت أحزانها لأحزانه على صديقهما الوفي الذي شكلت محاولة تسميمه مجرد نقطة في بحر آلامها، "هل تأذى؟" سألت ينازعها الشك فيما استنتجته تتمنى أن يرد عليها أنها مجرد محاولة جاءت بنتيجة سلبية أو تنتظر ريكي العجوز يخرج بنباحه ليقطع سكون صمتها الداخلي، زاد أرماندو في ضمها فعلمت أنه كان الضحية لكن وصلتها كلمات أرماندو خافتة حزينة: "كنتُ المقصود بذلك السم ولا أعرف من أين أتى لحقيبة طعامي التي تشمل غذائي فقد أعدت لي مارتينا وجبة طعامي اليومية وحملتها معي صباحاً ولكني شعرت بالتوعك فلم أتناولها وعندما عدت أطعمتها لريكي وبعد ساعتين كان يتلوى أمامنا فاستدعيتُ البيطري الذي قرر أنها وجبة مسمومة وأبلغ الشرطة للتحقيق في الأمر ولكن لا تهديد ولا دليل على أحد، أكاد أجن مما يحدث.. لقد جمعوا الأدلة التي هي حقيبة الطعام فقط!" علت صرخاتها الداخلية: (كيف لم ترَ قسوة جدها من قبل؟!) أحاطها أرماندو بذراعه وتولى أمر اقتيادها لداخل المنزل، تمتعت لحظات بترك عقلها خارج المنزل وترك أرماندو يتولى عنها حتى سيرها.. دلفت تبحث عيونها عن مارتينا تود أن تعتذر لها تشعر بالذنب المطبق يأكل أحشائها.
جمود من نوع جديد أصابها.. هل هو جديد حقاً أم أنها اعتادت عليه؟ تشعر أن حياتها مرصودة لتكون وحيدة ولا تقتات على شيء غير آلامها، تدلت شفتها السفلى وهمس أرماندو يصلها بغير تصديق لما تفعله مارتينا: "إلى أين مغادرة مارتينا بهذه الحقائب؟" تحركت مارتينا هابطة الدرجتين الصغيرتين اللتان تفصلان بين غرفة الإستقبال المتوسطة الحجم جمع تأثيثها بين البساطة والأناقة، اقتربت وهي تضعهما أمام أقدام شيارا العاجزة عن أن ترمش بأهدابها من صدمتها.. هل ما يحدث حقيقة؟... لا لا إنه محض حلم، مجرد خيال صعب على النفس بل مستحيل!
أكدت مارتينا أفكارها وهي ترمي عليها نظرة فارغة: "لست أنا المغادرة" صرخ أرماندو وقفز جاذباً يد مارتينا ليحركها بقسوة فتواجهه: "أجننتِ يا امرأة؟ أتطردين أمانة أليساندرو صديقي من منزلي" أطرقت بصمت يوازي صمت شيارا فيما ظل أرماندو يصرخ: "أظننتِ أن حبي لكِ سيكون شافعاً لما تفعلينه؟ إن غادرت شيارا لن تريني بعد اليوم أبداً" همست مارتينا بجمود: "وإن يكن... ستظل حياً على الأقل" صار الصمت يعربد بعويل حولهم.. (الموت.. الموت) همسات الخوف شبعت المكان بذرات الهلع والخزي، رفعت مارتينا رأسها بعد إطراقة طويلة: "أنتَ أهم ما لدي بالحياة أرماندو، يكفيني أن أعلم أنكَ حي.. فقط حي!" دموعها العزيزة صارت تجري بغزارة على وجنتيها البارزتي العظام كأي امرأة نضجت في شقاء، وضعت شيارا أصابعها المرتجفة على شفتيها الجافتين المترددتين بين الفتح والإغلاق تبحث عن صوتها لا تجده.. فلم تجد أمامها سوى أن تميل لأسفل ملتقطة حقيبتي الظهر خاصتها وحقيبة أوراق متوسطة الحجم وأخيراً استطاعت أن تخرج كلماتها المبعثرة بجهد جهيد لتقاطع جدالاً دائراً بين الزوجين اللذان حضرت لتقلب حياتهما لبؤس وكأن وجودها شؤماً على من يعرفها: "أنا مغادرة" اتجهت إليها أربعة عيون محدقة بنفس الصدمة والقلق، ابتسمت وهي تؤرجح حقيبتها وتعلقها على كتفها لا تستطيع مواجهة أعين مرافقيها بالغرفة: "أعتذر، لم أكن أتمنى أن أكون سبباً بما حدث لريكي" أردفت وسط اعتراض أرماندو: "ما بكِ أنتِ لم تذنبي بشيء! ماهذا الهراء الذي يحدث هنا؟!" وجدت نفسها مضطرة لتجاهل كلمات أرماندو: "كان كلباً طيباً حقاً لا يستحق أن تكون نهايته بتلك الطريقة البشعة" أخرجت مفاتيح السيارة من جيب بنطالها الجينز ومدته للأمام باتجاه مارتينا: "شكراً على السيارة.. بل شكراً على كل شيء" لم يتحرك أي من الزوجين ليأخذا المفتاح من يدها فحركت يدها لأعلى وأسفل كمن عجز عن التصرف ومالت للأمام مرة أخرى لتضعه على منضدة صغيرة بوسط الإستقبال، تحركت للخارج وقبل بلوغها الباب عادت تنظر إلى مارتينا بسؤال واحد: "أقام بالإتصال بكِ وتهديدك؟" توسعت عيون مارتينا وشاحت إبتسامة حزينة على شفتيها وكأن حملاً انزاح عن كاهلها.. ولم تحرك ساكناً للحظة قطعت بعدها الجمود بحركة مهزومة من رأسها وكأنها صراخ مَنْ لا حيلة له.
أومأت شيارا برأسها بالمثل وحملت حقائبها وخرجت، تعثرت بحقيبة حاسوبها وحقيبة يدها على أرضية الشرفة.. لم تدرك أنهما كانا معها، ابتسمت لهما مرحبة وحملتهما وخرجت بأحمالها التي ناء بها كاهلها.. لا تصدق أن جدها قام بالتهديد والقتل حتى ولو كان القتيل حيوان.. لا! إن في الأمر سراً بل أسراراً عديدة.. هناك مَنْ يتلاعب بالماضي ليأسر المستقبل بعد إحكام سيطرته على الحاضر، الهواء الخريفي البارد يصفع وجهها.. أحكمت لف وشاحها حول رأسها وأطبقت عليه بأسنانها تمنع إصطكاكهما.
أنت تقرأ
أنت جحيمي [مكتوبة]
Romanceالملخص صادفت منقذها في أصعب لحظات حياتها.. في قمة ضعفها وهوانها، كان السبب في نجاتها.. عشقته منذ التقت عيناها عينيه! كل ما يذكره عينان بنفسجيتا اللون تذكرانه بالسماء الدخانية فوق قمة جبال مون بلان الثلجية.. ظلت حوله رسالة ووردة أوريكيديا بيضاء بِلا...