الفصل الثالث
دفعت شيارا باب الطائرة الصغيرة التي تكفي لستة أشخاص من نوع بياجيو
فيراري التي صُنِعَت خصيصاً بناءاً على طلب لورنزو أسيدورا هاتفة للرجل الذي سبقها ومَدَّ يديه متأهباً كعادته ليتلقاها في حال سقوطها المتعثر برداء الطيارين الذي ترتديه، نجحت أخيراً في الوقوف ثابتة على ممر الوصول بمطار جنوة وهي تلعن: "تباً لك أرماندو، فعلاً كنتَ تبدو كثور حقيقي وأنتَ تُصِر على إرتدائي هذا الرداء السخيف" ابتعد ودار خلفها ليساعدها على خلع حقيبة مظلة الإنقاذ الخلفية: "متى ستدركين أنكِ أمانة ويجب حمايتك ولو كان الثمن حياتي!" ازدرد لعابه وأردف: "ألا تتذكرين ماذا فعل العجوز عندما علم أنكِ تلقيتِ دروساً بالطيران وصارت معك إجازة كطيار مدني؟!" ابتسمت وهي تهمس بخفة: "كاد يقتلع رأسك من فوق كتفيك، أدرك حجم المشاكل التي سببتها لكَ ولكنكَ كنتَ والدي الذي لم أره يوماً عزيزي أرماندو" ضم حقيبة المظلة لصدره بحنان: "وأنتِ ابنتي التي تمنيتُ إنجابها" خلعت الخوذة من فوق رأسها ونفضت شعرها الذهبي فتناثر حول وجهها الدقيق الملامح، كل ما فيها بدا خلاباً وأكثر راحة، منذ مدة طويلة لم يرها.. بل لم يرها يوماً سعيدة منفتحة على الحياة كما اليوم مما دعاه ليقول بإستغراب: "شيارا أراكِ اليوم عدتِ كما كنتِ صغيرة مفعمة بالحياة" كادت تصرخ وهي تضحك ببشاشة له: "نعم نعم لم يمت فابيو" ولكنها صمتت ورفعت الخوذة لأعلى تطوحها بتهديد بإشارة له أن يتلقاها.. وهذا ما حدث بالفعل، تلقاها الطيار الكبير الماهر وهو يضحك فبدا أصغر من عمره.
"أتعلم أرماندو؟ لو لم تكن صديق والدي الوحيد كنت أحببتك من أجل هذه الإبتسامة الساحرة" أجابها وهو يضغط يده على قلبه ويقول: "مولاتي أنا أيضا قلت كثيراً لنفسي لو كنتِ أكبر قليلاً كنتُ خطفتكِ وأجبرتكِ على الزواج مني" ادعت الخوف وحركت مقلتيها وسط اتساع عيونها: "أكاد أموت رعباً.. ولكن حقيقة ليس منك إنما من الخالة مارتينا، لو علمت عن حبك لي أرماندو ستلقيني في المتوسط بعد وضع حجر بحجم تلك الطائرة مربوطاً بعنقي" ابتسم وهو يتذكر سمراء إيطالية حقيقية بشعرها الغجري تتحدث أمامه محذرة كل يوم: "إن اكتشفتُ أن عينيك تلك تستطيعان أن تنظرا لامرأة أخرى سيكون اليوم الذي ستودع فيه عيناك مقلتيك.. سأقتلعهما من محجريهما وأطعم ريكي بهما" أفاق على عيون شيارا المتبسمة فقال بحب: "إنها زوجة مجنونة تهددني يومياً إن نظرت لامرأة أخرى أن تطعم كلبي ريكي بعيوني" ضحكت بعفوية واقتربت لتحتضنه وهي تهمس بأذنه: "لولاكَ أنتَ والخالة مارتينا كنتُ أصبحتُ شخصاً آخر" ابتعدت قليلاً وكفاها مازالا على كتفيه ثم استطردت: "كنتُ سأكون عبدة للملل والثراء الفارغ، أنتما من علمتماني معني الحياة في العطاء وليس في الأخذ بأنانية.. لقد منحتني أنتَ والخالة مارتينا من وقتكما وحبكما لذا لم أشعر يوماً أني يتيمة الوالدين" اندهش أرماندو بقوة ثم ما لبث أن قال لائماً: "أمك مازالت على قيد الحياة شيارا" ابتسمت بمرارة علقت بحنجرتها تكاد تخنقها.
"أتظن؟؟" ألقت همستها الناعمة لتثقل كاهله بمعاناتها ووحدتها ثم تركته خلفها وهي تتحرك بخفة طير وحيد فهي تحب مارتينا وأرماندو كثيراً، هما من ربياها صغيرة ومن اعتنيا بها عندما كانت تكون بإجازة في الأسيدورا، لولا تعلق مارتينا بالحيوانات الأليفة وأرادت أن تربي ما تشاء فانتقلوا لمنزلهما بجنوة.. لم تعاملها مارغريت يوماً كأم بل لم تنظر لها يوماً، إلا أنها اليوم سعيدة.. لن تدع شيئاً يؤلمها فبدأت تتحرك بسعادة وهي تتذكر أحداث الأمس وكيف أنقذت روحها من ألم جديد بفقده فعندما عادت ووضعت السيارة بجوار جسده الساقط أرضاً، بدا غير واعياً لوجودها فشجعها ذلك أن تنزلق أرضاً من السيارة بجواره فهي تخشى وجود متربص آخر أو أن يكون القناص مازال متوارياً بمكان ما.. سحبته للخلف وحاولت وحاولت إلى أن جرجرت جسده الثقيل بقوة لا تعلم كيف أتت لجسدها فإندفاع الأدرينالين له مفعول السحر عندما يكون المصاب ذا أهمية خاصة، سحبته من ياقة سترته الرمادية الفاخرة بكلتا يديها حتى وارته خلف إحدى السيارات الموجودة بالمرآب.. وما لبثت أن أصيبت بالهلع عندما وجدت كفها رطباً من جراء دماء لونت أصابعها الرفيعة بلون قانٍ أدركت قتامته من الضوء الشحيح الذي تسرب من الجهة الأخرى للمرآب، مالت عليه وبحثت بجسده ملتاعة وقلبها يهدر يكاد يوقظه من غشيته.. همساتها ضعيفة ترافق ضغطها بأصابعها على صدره: "سيفورزا لا تمت، أرجوك لا تمت"
هدأت قليلاً عندما أدركت أن إصابته بالكتف الأيمن غير مميتة إذا تم إسعافه سريعاً فأخذت تبحث عن هاتفه بسترته إلى أن وجدته بأيدٍ مرتجفة فأجرت إتصالاً بالإسعاف وأمدتهم بالمعلومات المطلوبة عن حالة المصاب ومكانه، خلعت رابطة عنقه وأحكمت ربطها حول كتفه وسحبت حزامه الجلدي من بنطاله وأعادت إحكامه ليحيط أعلى صدره.. لتوقف النزيف أو على الأقل تحد منه كما نصحها المسعف الذي تلقى بلاغها، وبتردد طبعت قبلة على جبينه بينما تهمس بحنو عاشق: "ستكون بخير فابيو!"
قادت سيارتها لمنطقة مظلمة وانتظرت وهي تخفي نفسها داخل سيارتها بطريقة لا تظهر منها سوى عين واحدة تسلطها علي جسده.. جل ما تخشاه أن تلتقط الصحافة اسمها فيثير ذلك غضب جدها الغير متفهم بما يخص الفضائح.. لدرجة أنه أرسلها بعيداً فترة طويلة بعد فضيحة زواج ريكاردو وأنطونيا وتساؤلات وتكهنات كثيرة كلها تدور حولها.. ولماذا ترك ريكاردو خطيبته الخيالية الثراء فهي وريثة لقب محملة بأطنان الذهب وإجابات إفتراضية بأنه اختار الحب على الثراء وصورة كبيرة لها وهي بسن السادسة عشر بمقوم أسنانها المعدني.. الكونتيسة المستقبلية الخالية من الأنوثة!
لم يطل إنتظارها حتى سمعت صوت سيارة الإسعاف بنفيرها المميز فارتاحت وارتخت عضلاتها المشدودة من التوتر.. غادرت المكان بعد مغادرة السيارة بالمصاب، بينما هي لم تستطع اللحاق به.. أصابها الإحباط والحزن جراء إحساسها بالعجز أنها لا تستطيع التواجد بجانبه كي لا يُذكر اسمها بمكان ما.. لكن كانت ستلزم جواره بصفتها ماذا؟! المرأة التي أنقذت حياته؟ ولماذا؟! كي تلاحقها الصحافة كما يلاحق الحمار الجائع جرزة فيرسلها بالنهاية جدها هذه المرة إلى تيمبكتو أو أنتاركتيكا!
بينما لم تستطع اللحاق به لم يكن هنالك أي مانع من ملاحقة أخباره بكل الصحف والمجلات، تابعت لحظة بلحظة تماثله للشفاء وازدادت إطمئناناً عندما أتاها التقرير الإخباري وفيه فابيو يخرج من المشفى بصحبة ماريانو قريبه الملاصق له دائماً، لم تهتم بالتقرير الإخباري عن أسباب وملابسات الحادث وكيف! ما يهمها هو أنه بخير.. وقتها فقط استطاعت أن تقف على قدميها من ركوع خاشع بجوار فراشها وعقدها لكفيها تتلو صلاة تلو صلاة حتى ينجيه الرب، لحظتها أدركت أن روحها كانت ستغادرها لو غادر فابيو الحياة!
وجدت نفسها تدور بنشوة وبدأت برقصة سعادة بأرض المطار الخاص المُلحق بشركات أسيدورا شعرها الذهبي يتطاير حولها بحبورمؤكداً أنه تاج تلك الرقيقة.. بلحظة رفعت قدميها وهي طائرة بالهواء وتصفق بهما مرتين متتالتين.. ثم تدور قبل أن تتلاقى الأرض قدميها بحنان، تصفيق وصلها جعلها تتنبه لمكانها: "أجدتِ شيارا بل أنتِ أبرع من أي راقصة باليه" إبتسامتها الوديعة أضاءت وجهها: "شكراً يا أرماندو، هل لي أن أبدل ملابسي بغرفة أحد الطيارين؟" أسرع أمامها خطوات قائلاً: "سوف أرى ماذا يمكن أن أفعل حيال ذلك وأعلم مقدماً أنه ما من رجل يرفض أن يسدي تلك الخدمة لامرأة بجمالك.. علَّه يحظى بفرصة معها" إبتسامتها شحبت فجأة وودَّت أن ترد عليه: "أنت الوحيد الذي يراني جميلة" ولكنها فضلت أن ترد عليه بطريقتها المجاملة: "ليس الجميع مثلك" تتذكر جدها عندما قررت أن تخرج للعمل وتحمل أعباء الشركة بعد وعكة صحية مَرَّ بها وكانت هي بالفعل من يدير الشركات وكل الأملاك ولكن عن طريق أندي سكرتير جدها.. وكيف رفض رفضاً مطلقاً أن تخرج للعمل وظل يهذي: "أنتِ جميلة وصوفيا كانت جميلة خرجت للمجتمع ولم تعد مطلقاً، غابت بروحها خطفها الحب فماتت.. لقد قتلها الحب وأبوك قتله الحب، أخشى عليكِ أن تحبي فتموتي" وعندما مرت وعكته جعلها ترتدي الملابس العملية الجادة والشعر الأسود ونظارتها التي صارت تعشق إرتدائهما فقد وفر لها قناع زائف تستر خلفه، هو فقط من يراها جميلة.. أين ذهب الفك المعدني آكل لحوم البشر؟ أليس ذلك الاسم الذي أطلقته عليها فتيات الدير؟!
لم تلحظ تلك النظرات المصوبة إليها تكاد تأكلها برغبات الشباب الفجة فيما يميل لصديقه: "من تلك التي ترتدي زيّ الطيارين؟ وهل انضمت حديثاً إحدى الشركات الخاصة؟" تتبع الشاب الآخر المستند على جسم المروحية الخاصة التي يعمل على تحضيرها.. يركز نظراته على ذلك الزي وهي تتحرك بتناغم لتساير الجسد الضائع فيها ويحلم برؤية ما تخفي أسفلها ويرد بتلاعب: "ليتها فتحت زراً آخراً فزرين غير كافيين لنتمتع"..
لطمة خفيفة خلفية على مؤخرة رأسيهما معاً نبهتهما فنظرا بغضب للواقف خلفهما، لكن كل الغضب تلاشى حالما وجدا أرماندو الضخم يعقد ذراعيه أمام صدره وهو يهدر: "أوغاد! هذا هو يومكما الأخير هنا لو نظرتما إليها مرة أخرى أو همستما بجرأة عنها.. أنتما لم يتم تثبيتكما للآن وأي شكوى ستكون حكم إعدام لكما بكل الشركات" ابتسما وهما يكظمان غيظهما من كبير طيارين الشركة التي يعملان بها ولا يعلمان أن صاحبة شركة أسيدورا لخدمات الطيران التجاري هي من كانت تمر أمامها وهما مجرد مساعدين تحت الإختبار، استدارا ليحضرا الطائرة بين أيديهما للإقلاع.. فيما هتف أرماندو: "برونو، ستستخدم الآنسة غرفتك لتبديل ملابسها" ابتلع برونو ريقه بوقاحة لم تخف على أرماندو وهمس: "كما تريد أرماندو" وغمز لصديقه وهو يهمس: "ليتني أستطيع الإنضمام إليها" ضحكات صاخبة أغاظت أرماندو ولكنه قرر تجاهل الشابين والمضي في طريقه.
أنت تقرأ
أنت جحيمي [مكتوبة]
Romanceالملخص صادفت منقذها في أصعب لحظات حياتها.. في قمة ضعفها وهوانها، كان السبب في نجاتها.. عشقته منذ التقت عيناها عينيه! كل ما يذكره عينان بنفسجيتا اللون تذكرانه بالسماء الدخانية فوق قمة جبال مون بلان الثلجية.. ظلت حوله رسالة ووردة أوريكيديا بيضاء بِلا...