الفصل الثاني عشر
الخوف هو كل ما بقى لها رفيق دائم في حياتها، جالسة بأكملها فوق مقعد العم أنطونيو الهزاز الذي لم يعد يأتي بحركة لثبات الجسد البارد فوقه، حرصت أن تغطي حتى أطراف أصابعها كما اعتادت في صغرها حينما كانت تعاني رهبة من أصوات تسمعها في مهجع نومها مع رفيقاتها بالمدرسة.. كانت تظنها أشباح مَنْ دفنوا بالمدفن الملحق بالدير، علمت عندما كبرت أن الأثاث والجدران الخشبية قد نخرها السوس من الداخل فصار يصدر هذه الأصوات التي تشبة طقطقة جذوع الخشب داخل النيران... مازال أثر التجربة المريرة مع الخوف مصاحباً لها بل حتى أنه توغل داخلها ليصبح جزء لا يتجزأ من تكوينها الخلوي، عادت تتجرع محنتها مرة أخرى بعد مرات كثيرة تتمنى أن تخرج الخوف الساكن فيها تمزقه بأظافرها لو تمكن منها لن يكون لقاءها المرتقب محمود العواقب أبداً!
صارت ذكرياتها تحاكي بما حدث منذ يومين*****
وقتها خرجت مشتعلة غضباً من قصر سيفورزا لا تعلم للآن لِمَ لم تصفعه هذا المتبجح، همسات أخرجتها بصوت عالٍ: "حسناً سيفورزا، احمي عشيقتك القبيحة البدينة وسوف أعود لأنال منكَ يوماً" تعلم أن لونا مناقضة لوصفها لها ولكنها امرأة كأي امرأة تلصق بغريمتها كل عيوب النساء، صرخت وهي تسير: "آه ماريانو أيها الأفاق، الأمس تقبلني بصداقة وأنت مَنْ تدبر لدفني، آآآه لا أعلم لماذا تفعل هذا!" كادت عيونها تلقي بمائها الجاف خارجها سيولاً، تمنت لو تركت لها العنان لتغرق ممر الحديقة الخاصة بآل سيفورزا المدعين.. تألمت أقدامها من خطواتها السريعة في حذائها الأسود اللامع الذي أهداها إياه مع حقيبته التي لم تمسها يدها كمكمل للثوب الأسود الضيق بفتحة صدره السخية، لم تكن تتخيل بأحلامها أن المسافة حتى البوابة بهذا القدر من الطول...
كلماته على الهاتف مع ذاك الألفريدو لاتزال ترن بأذنها: " نعم لقد قاربت من تنفيذ مهمتي هنا... نعم لقد حصلنا على ما يجعلنا أقوياء وسنعود أصلب من الأول" كادت تصرخ بغل من تفاهتها، لقد كانت مجرد مهمة بالنسبة له وقد تكون هي ذاتها ما سيجعل شركة سيفورزا أقوى وأصلب... لا! لن تكون قوتكم على حساب استغلالي أبداً أبداً!
أخيراً انتهت إلى الطريق الخارجي، شحوب الإضاءة ملأها رعباً.. ما أن وضعت قدمها على أسفلت الطريق الأسود كسواد أيامها حتى همست تقوي نفسها: "حاولي شيارا أن تظلي قوية" فأجابتها روحها المعذبة: "أحاول أن أبقى قوية ولكني الآن أشعر بانكسار" كسرها زوجها بحمايته لغيرها وإبقائها داخل منزله تنعم بما هو حق لها وحدها، عانت غيرتها الحارقة مع أفكارها بشرود حتى انتبهت على صوت زمجرة سيارة توقفت بحدة، ضغط قائدها على المكابح فأدارت رأسها للسيارة التي كادت تصدمها وهي تتوقف جوارها.. كانت نظرة واحدة وقبل أن يعود رأسها ليركز على الطريق ولم تدرك المغزى سوى يدان امتدتا قابضتان علي أكفها لتجذبها بإحترافية وكفان يدفعان جسدها الهش، لم يمنحاها الفرصة لتصرخ أو حتى تذهل مما يحدث... انتهت بصعود خاطفها جوارها، وجدت نفسها داخل سيارة سوداء ذات دفع رباعي من نوعية الفان بينما جلس أمامها جسدان ضخمان، أدركت أنهما رجال القذر أندرويتي فلوت رأسها للخلف خلال زجاج السيارة الأسود التي قطعت الطريق بجزء من الثانية ووصلت لنهايته، تعلقت عيونها بالجسد الرجولي الذي يدور حول نفسه أمام قصر سيفورزا تبحث عيونه عنها فتحركت شفتاها بتضرع أخرس باسمه: "فابيو".
أخرجها دورانه حول نفسه من صدمتها فقد علمت أنه لم يرَ ما حدث أو يرى راكبي السيارة المعتمة الزجاج، وجهت نظراتها لخاطفيها تكاد تحرقهما معاً ومدت يدها في غفلة من المجاور لها لتفتح الباب جانبها ولكنه انتبه على حركتها وقبض على كفها وهو ينذرها برجاء يرقى للتوسل: "أرجوكِ سيدتي لا تصعبي الأمر على نفسك فنحن بمهمة لن نتورع عن فعل شيء لتنفيذها" تراجعت لتنزوي بآخر الكنبة الوثيرة بصالون السيارة ترتعد من الداخل مقابل تشنجها المتيبس من الخارج، مَنْ يراها يظنها تمثال رخامي من شحوبها لدرجة أنها تخشى أن تطلق العنان لجسدها المتيبس أن ينال حقه بالإنتفاض الذي تجمده داخلها ثم وجدت هدوءها عندما فاض إدراكها أنها صارت تتعجل النهاية ولم يعد يهمها على يد من ستغدو جثة ملقاة ولا على أي أرض نهايتها، فليكن بيدها هي.. ما الفارق الذي قد يشكله لها؟
"قتلك سيكون خسارة أموال ضخمة" هكذا أعاد عقلها لها التوازن بصوت ثابت تردد داخل روحها المفقودة ليردف بضوء براق: "سيكون حريصاً على حياتك أكثر من حرصه على حياته هو" بدأت تتقد الفكرة بقوة منيرة لها دهاليز الظلمة التي كانت داخلها بيأس فقالت بهدوء غريب: "هل لي أن أدخن سيجارة؟" كانت بدأت تدخل أصابعها النحيلة في حقيبتها الكبيرة التي صارت رفيقتها في جميع تنقلاتها، انتظرت برهة ريثما ينتهيان من الضحك المقيت والغمزات التي لم تجد لها مبرراً سوى أنهما على علم بأكثر مما يبدي وجهاهما، أسرع أحدهما ملبياً وأخرج لها علبة سجائره فحركت رأسها رفضاً: "لا أبدل نوعي المفضل" توجه الآخر لها بالموافقة: "تفضلي سيدتي، إن مهمتنا خدمتك.. هذه هي الأوامر" ابتسمت إبتسامتها المعهودة التي طالما أثرت بها على الرجال في الإجتماعات فكانوا يسعون جاهدين لخدمتها بأقصى طاقتهم، تدرك أن أوامره بالعناية بها ولو أصابها خدش في إحدى أظافرها سيطيح برقاب رجاله الأوغاد بلمحة، كان عليها الخلاص من الموقف المتأزم.. داخل حقيبتها أزالت بهدوء صمام الأمان لمنقذها الأسود الصغير وأحكمت أصابعها حوله، أخرجت مسدسها بسرعة كبيرة وألصقت فوهته بقلبها وقالت هادرة بالرجل الذي أسقط في يده وأراد أن يخطف منها لعبتها هذه قبل أن تؤذي نفسها: "انتقل لجواره أمامي" فلم يجد بداً من تنفيذ أمرها فأردفت محذرة إياهم بجدية: "إذا اقترب أحد مني سوف أطلق على نفسي الرصاص" عاد الرجل لمكانه مرة أخرى بعد أن أطلقت تحذيرها وبدأ الآخر بالتململ محاولاً مهادنتها للإنقضاض عليها: "سيدتي اعطني هذا المسدس قبل أن يؤذيك" فشل سعيه في تخليص أنفسهم من هذه الورطة وقد هدرت به: "سوف يسلخ أندرويتي وجهيكما إن أصابني خدش" أطرق أحدهما ثم قال للآخر: "إن الأوامر إحضارها فلنقد ولنوصلها إليه وهي على هذه الحالة" واستحسن الآخر الفكرة وعقب: "نعم إنك محق.. ليتصرف هو بنفسه" أجابتهما بهدوء يناقض الرعب داخلها: "حاولا التنفيذ وسوف أطلق على نفسي الرصاص.. لن أصل أبداً إليه" ثم هدرت بقوة آمرة كلاهما: "اتصلا به حالاً" رفع أحدهما الهاتف بإذعان وطلب الرقم الذي سرعان ما أجاب فقال بتردد: "سيدي لقد غافلتنا و..و.." صرخ به مقاطعاً إياه بحدة: "هل غافلتكم أيها المغفل وهربت؟" حرك رأسه بفزع وتلعثم غير قادر على مواجهة غضب سيده، عندها علا صوتها بالصراخ: "إن رجالك أغبياء مثلك أيها البغيض" رفع أحدهما كفيه كمن يهدئها حتى لا تضيع أرواحهما مع روحها لو انفعلت وضغطت سبابتها على زناد المسدس النائمة فوهته فوق قلبها مباشرة، صرخ أندرويتي برجله حالما سمع سبابها له ولرجاله: "ماذا يحدث عندك أيها الغبي؟" تعثر الرجل بالكلمات وهو يشرح ما جرى منها والوضع الراهن.. رمى أندرويتي بكأس من يده داخل المدفأة المستعرة لتشهق ألسنة النيران تقتات على المشروب الكحولي ودفع أصابعه داخل شعره المتأرجح خلف رقبته وظل يدور بالغرفة وهو يهدر بصورة أليساندرو: "هل أنجبت أفعى يا هذا؟ دائماً تسبقني بخطوة بشكل يثير الحنق" ثم عاد يتنفس ببطء وهو يدرس الموقف كله.. وأخيراً طلب من رجله أن يحادثها: "اعطها الهاتف وسوف أحادثها.." فوصله صوتها الآمر لرجله: "افتح المكبر، أنا لن أترك مسدسي" عندها تيقن من عنادها، اللعنة إنها أخطر على نفسها منه هو.. منح رجله موافقته ففتح المكبر فإذا به يتحدث بهدوء كمن يتوسلها: "تعقلي عزيزتي واتركي السلاح حتى لا تصابي" غضب حاقد استعر بقلبها: "لقد أقدمت على خطوة بيَّنت معدنك الرخيص، هل ظننت أنكَ بخطفي ستحصل على ما تريده؟" صمتت لتلتقط أنفاسها: "أنتَ واهم بيرلسكيوني واهـــم!".
وجد نفسه مضطر لمجاراتها بهدوء: "لماذا ترفضين التفاهم؟" عادت تتحدث بثقة أن بيدها الورقة الرابحة: "هل هذه طريقتك بالتفاهم؟ لا تفاهم مع خاطف" وأردفت بقوة حجتها: "سأعمد لقتل نفسي وأنتَ لن تحصل على أموال جابرييلا التي أودعتها باسمي" صرخ بها متناسياً الوضع المتأزم: "أيتها الحقيرة كنتِ تعلمين طوال الوقت أنها مودعة باسمك!" ضحكت بقهقة: "لم أكن متأكدة قبل الآن أيها الأحمق" سكون ملأ السيارة حتى قطعته بكلماتها: "سوف نتلقي بعد أيام على العشاء في مكان عام وسيتم التفاوض بيننا وقتها وليس قبل وإن أعدتَ محاولتك هذه لن يكون هناك تفاوض وقتها" وأردفت بسرور ظاهر: "سوف يصبح زوجي أغني رجل بإيطاليا كلها وهذا يسعدني حقاً" ظلت ضحكاتها المستخفة بالموت تتردد بسخرية أمام صمته الحانق، أرادت أن تطمئنه بجديتها للقائه بهدوء شابه انكسار مَنْ لا يستطيع الإعتراض: "أندرويتي لقد وصلتني رسالتك بوضوح أنك قادر على الوصول لي بأي وقت وأي مكان لذا اطمئن.. موعدنا على العشاء بعد غد، أرسل على هاتفي عنوان اللقاء" وصلها صوته واضح يحمل رنة انتصار: "أوافق" تحركت عيون رجاله داخل محجريهما وهما يتلقون الأوامر أن يوصلاها لمنزلها فتنفست الصعداء لكنها لم تأمن غدره لذا صرخت بهما: "توقفا هنا" فأطاعا أمرها، كيف لا وقد أطاعها رئيسهما ذاته.. هبطت لاعنة الجميع وأكثرهم ماريانو الخبيث، تتذكر كيف أبدى تعاطفه معها عندما تركها فابيو خلفه ككم مهمل وقبلها كصديق والآن رجله ذلك الألفريدو يخفي أشياء خطرة عن زوجها مؤكد بأمر من ماريانو ذاته فهل هو عدو بصورة صديق؟!
أول شيء فعلته عندما وصلت منزل العم أنطونيو رفعت هاتفها وأفرغت معين روحها في الخائن الأفاق الذي يخون عائلته ويعرض زوجها للخطر ثم أغلقت هاتفها وهي لا تعلم لماذا أقدمت على تلك الحركة الطفولية، فقط أرادت أن تخرج ضيقها فيه هو.. كانت حانقة من جميع الضغوط، حانقة من تلك اللحظة الخادعة حينما ظنت أنها أخيراً ستترك كل شيء يقع عن عاتقها بكل سرور... تباً لكل ذلك الخداع!
أنت تقرأ
أنت جحيمي [مكتوبة]
Romanceالملخص صادفت منقذها في أصعب لحظات حياتها.. في قمة ضعفها وهوانها، كان السبب في نجاتها.. عشقته منذ التقت عيناها عينيه! كل ما يذكره عينان بنفسجيتا اللون تذكرانه بالسماء الدخانية فوق قمة جبال مون بلان الثلجية.. ظلت حوله رسالة ووردة أوريكيديا بيضاء بِلا...