١: معارف وغرباء

798 92 41
                                    


لم تودّعنا الشمس، بل بقيت خلف الغيوم الرمادية تطالعنا تارة وتختبئ تارة أخرى، لكن ذلك لم ينقص شيئًا من بهجة الأجواء.

بعد ركوب الجميع على ظهر السفينة خرج أغلبهم لسطحها ليودعوا أحباءهم وليلقي بعضهم آخر نظرة على بلده؛ فمعظم المسافرين إلى الولايات المتحدة يهاجرون إلى هناك أملًا في حياة جديدة وأفضل.

كان المشهد من على ظهر السفينة مذهلًا؛ المئات من الأيادي والمناديل الملوّحة من على سطح السفينة وأخرى تحتنا في الميناء تردّ بالمثل، وعلا مزيج من هتاف الناس وصفير السفينة وهدير المحركات مكونًا مزيجًا يميّز الموانئ عن غيرها من أماكن السفر.

أصرت "بياتريس" على البقاء في سطح السفينة إلى أن تختفي (ساوثهامبتون) في الأفق، أرادت أن «تودع بريطانيا وتوصيها على والديها» حسب قولها. لطالما كانت "بياتريس" عاطفية أكثر من اللازم في نظري، لكن ذلك بالذات هو ما جعلني سعيدًا معها، عاطفيتها الزائدة، عناقاتها المفاجئة، ودموعها التي تنهمر عند أقل ذرة قلق تصيبها هي ما تجعلني أشعر بالاهتمام والأهمية، كأنني أعني الكثير لشخص آخر غير أمي وأخواتي، وهذه نعمة لا يملكها الكثيرون.

بعد أن اطمأنت "تريسي" لكون بريطانيا قد سمعت الوصية وبدأت في التنفيذ فورًا- سمحت لنا بالنزول للصالة الكبرى في الطابق الأول، ولنصل إلى هناك أخذنا طريقنا نزولًا بالسلم الكبير.

لم تفتني فخامة السلم الضخم عند صعودنا للسطح سابقًا، فهو -دون مبالغة- أحد أجمل الأشياء على هذه السفينة؛ بدرابزينه المزخرف والقبة الزجاجية التي تسمح للضوء الطبيعي بالنفاذ للصالة. لقد تفوقت التايتانك وشقيقتها الكبرى (أوليمبيك) في صناعتهما وإتقانهما على أي سفينة من سفن أسطولهما أو السفن الأخرى التي ركبتها من قبل.

عند ابتعاد السفينة من الميناء توزع معظم الركاب خلال السفينة؛ جزء منهم بقي في السطح للاستمتاع بالجو، بينما جزء آخر تجوّل خلال المرافق ليلقي نظرة، وجزء ذهب فورًا لغرفهم. نحن تبعنا المجموعة التي شقت طريقها إلى الصالة الكبرى في الطابق الأول، حيث جلس بعض ركاب الدرجة الأولى على المقاعد الموزعة حول الطاولات الصغيرة بينما تمشى بعضهم الآخر من مجموعة لأخرى ليلقوا التحية، وفور دخولنا أشارت امرأة تقف ضمن مجموعة نساء صغيرة لـ"بياتريس".

- "بياتريس مكاليستر"! كم تسعدني رؤيتك هنا!

احتضنت المرأة "بياتريس" وحيّتها بحرارة، لم أتعرف عليها أو على المرأتين معها؛ غالبًا لأنني بالكاد أعرف خمسًا أو ستًّا من صديقات "بياتريس" شخصيًا، لكن شعرها الأسود المسرح بعناية وعينيها البنيتين الصغيرتين بدوا مألوفين نوعًا ما، وعندئذ بدأت أتذكر أنني رأيت النساء الثلاثة في مكان ما. انتشلتني "بياتريس" من حيرتي عندما جذبت مرفقي نحوها قائلة:

بين محيطٙيْنحيث تعيش القصص. اكتشف الآن