..
..كان مُنهمكًا في ترتيب أشيائه في الحقيبة متعجلًا، منفصلًا عن الواقع، وزميله في السكن يراقبه رافعًا حاجبه، مُستنكرًا ابتسامة زميله الحالمة وذهنه العائم بعيدًا، فهتف من مكانه فاضًا هذا السكون الذي يُغشّيه:
"عجيب! من كان يتصور أنك ستكون بهذه السعادة بعد مغادرة جامعتك الحبيبة! ".
توقف عماد عن "ترتيب" الحقيبة، وأرسل نظراته لزميله الذي يصغره بسنتين، ولم يعرفا السلام طوال سُكناهما معًا في هذه الغرفة، وذكرته كلماته بالشخص الذي كان عليه قبل وقتٍ ليس ببعيد، لم يكن كثير الاتصال بعائلته، ولم يحب القيود والالتزامات التي تفرضها عليه حياته في مدينته، العائلة، الأقارب، المناسبات الباذخة، لكم أحب الحياة الاستقلالية بعيدًا عن كل شيء، لكنه يعلم سلفًا أنه سيستقر في مدينته يومًا، فلم يكن ذلك أكثر من استقلالٍ مؤقت، لكنه لم يعد ذلك الشخص، ربما تغير بعد معرفته لذلك الشاب الذي حرك فضوله، أو بعد معرفته لتلك الفتاة التي أثارت اهتمامه، وربما أكمل أحد السببين الآخر!
أغلق حقيبته بعجلة وذهب لزميله وصافحه بحرارة وهو يُكلمه بحميميةٍ قلّما يُُظهرها له:
"انتبه لنفسك في غيابي، نَم جيدًا، كُل جيدًا، وادرس بجد، اتفقنا؟".
تصلب زميله ينظر إليه مشدوهًا، خالطت الغبطة دهشته، فرغم أنهما لم يتوافقا قط، إلا أنه لم يكن ليُمانع لو صارا صديقين يومًا، بل قد تمنى ذلك، وما إن أفاق من تلك الخواطر وجد أن عماد قد غادر.
أدخل الحقائب لسيارته، وقبل أن يستقر في مقعده أطلق بصره جنوبًا، إلى حيّها الذي تحجبه عنه الأبنية، وابتسم وهو يتذكر لقاءهما الأخير قبل أيامٍ قليلة، ثم ركب سيارته وانطلق عائدًا لمدينته.
••••••••••
"ستُغادر إذن؟".
"نعم، هل ستشتاقين إلي؟".
قال خالطًا صوته بالمرح والمكر، أفلتت ضحكةٌ قصيرةٌ من فمها لتقول:
"يا لك من مُعتَد!".
وضحكَت متناسيةً تحفظها، كانا جالسَين على مقعدَين من مقاعد الحديقة، ظهرًا لظهر، يتحدثان دون أن يرى أي منهما وجه الآخر، قاما في اللحظة ذاتها واستدار كل منهما للآخر، وفُضِحَت النظرات التي كسَت أعينهما. كان الأسف على الفراق المحتوم يغشاهما، أنهى عماد دراسته وسيترك المدينة في غضون أيام، وهذه الفتاة التي لا يعرف كيف أحبها ومتى، لن يهدأ قلبه لفراقها، أحكمت ملاك إمساك الحبل الجلدي الرفيع الذي يمتد من كتفها وينتهي إلى حقيبةٍ بيضاء صغيرة، وأنزلت أنظارها بخجلٍ لم تُظهِره من قبل أمامه، وقالت وهي تشد قبضتها على الحبل لتتخلص ولو قليلًا من توترها:
أنت تقرأ
أشِقّاء
Romantikفي حُجرةٍ ضيقة... إضاءتها خافِتة... فتحَت الكتاب وبدأت بقراءة القصة لطفلها... كانت تقرؤها له دومًا... فتعلق بها وأحبها... فسمّى شقيقه على اسم بطلها... الذي عاش وحيدًا... ماتت أمه... فأضحى شقيقه يعني له كل شيء... كل شيء... كما قال يومًا... "ل...