...
..ملأتُ رئتيّ بنسيم تلك الأمسية المنعش، والبدر في السماء يُرسل أجنحة ضياءه على الشوارع وأسطح الأبنية حيث كنا، أنا وفراس.
كنا جالسان فوق حائط السطح وأرجلنا تتدلى إلى الداخل، موليان ظهرَينا لصخب الشارع المزدحم أسفلنا.
أبواق السيارات تصدح من سيارةٍ لأخرى مثل عدوى، وأصوات سائقي الأجرة وهم ينادون على المارة لتوصيلهم.
اشتد هبوب الهواء المحمَّل بالروائح المنبعثة من المخابز والمقاهي القريبة، وعبير أشجار الريحان التي تزدان بها الأرصفة، وأدخنة السيارات التي لا تعرف الراحة، روائح المدينة التي لا تُبارح ذكرياتي.
قاطع شرودي صوت فراس وهو يخبرني بأن المدرسة ستنظم رحلةً لطلاب الصف السادس قبل عطلة نهاية الأسبوع إلى مركز العلوم.
وقال بأن "الطريدة" ستكون هناك دون شك.
"أسيذهب أخوك رائف؟ ".
"الرحلة ليست مجانية.. لا طاقة لنا بدفع تكاليف غير ضرورية.. ".
أردف والبغض يتسرب إلى صوته:
"ذلك الوغد يسخر ممن لا يستطيعون الذهاب.. ".
"ما هي خطتك..؟ ".
"خالي يعمل هناك، سأطلب منه أن يوفر لنا ألبسةً نرتديها كي لا نثير الشكوك.. "
وأكمل سرد خطته في كلماتٍ مختصرةٍ لا تعقيد فيها، كانت أبسط من أن تسمى خطة، لكن ثقته العالية بنجاحها لم تحملني إلى خوض جدالٍ معه.
"هل ستتغيب عن مدرستك ذلك الصباح!".
سألته بعفوية ولم أتوقع جوابه.
"أتظن أنك الوحيد الذي لا يذهب للمدرسة!".
دفعني الفضول لسؤاله:
"كيف سمح والداك بهذا؟ ".
"أمي لا تستطيع تحمل مصروفات الدراسة لثلاثة أطفال، أما ذلك الحقير فلا تأتِ بذكره ثانيةً..".
"كيف تقول هذا عن والدك! ".
حدجني بنظرةٍ حانقة أخرستني، لم يكن التجهم لائقًا على وجهه.
"من يتخلى عن عائلته لا يُسمى أبًا.. ".
شعرتُ أن أعوامًا زادت إلى عمره تلك اللحظة، قفز إلى الأرض، واتجه للباب وهو يقول رافعًا صوته كي أسمعه:
أنت تقرأ
أشِقّاء
Romanceفي حُجرةٍ ضيقة... إضاءتها خافِتة... فتحَت الكتاب وبدأت بقراءة القصة لطفلها... كانت تقرؤها له دومًا... فتعلق بها وأحبها... فسمّى شقيقه على اسم بطلها... الذي عاش وحيدًا... ماتت أمه... فأضحى شقيقه يعني له كل شيء... كل شيء... كما قال يومًا... "ل...