...
...في مشهدٍ كثيف الضباب.. بدت صورٌ باهتة و مُشوشة.. رأيتُ فيها تلك اليافعة بردائها الأبيض.. تعدو بهوادة وخصلات شعرها الأسود تُراقصها الرياح..
اِختفت بين الضباب كأن وجودها ما كان إلا ضربًا من خيال..تراءت إلى عقلي تلك الخيالات المُحالة قبل أن يوقفني صوت دوي الرعد عن القراءة، أدرتُ رأسي صَوب النافذة فرأيت قطرات تتجمع على زجاجها كالرذاذ، تركتُ الكرسي واتجهت إليها، لمستُ زجاجها بأناملي وتأملت المنظر الكائن خلفها.
أضاءت السماء الداكنة ببريقٍ فضي في أماكن متفرقة بين الغيوم، هممتُ بفتح النافذة كي يستلذ أنفي برائحة المطر، ولكن صوت دوي مهيب جعلني أنتفض وأقلع عن فتحهإ، ازداد المطر انهمارًا واستطعت بالرغم من زجاج النافذة العازل سماع صوت قطراته ترتطم بما تسقط عليه، كان الصوت بعيدًا و خافتًا، كأنما أسمعه في خيال أو حلمٍ بعيد، تذمرت وجوه الناس واكفهرت كاكفهرار السماء بسبب سوء طقسها المفاجئ، إلا ان أحدهم كان أوفر حظًا فقد فتح مظلته واستظل بها وسار تحت المطر، بينما كان الناس يضعون أيديهم فوق رؤوسهم و. يتراكضون والمياه تسيل وتبلل اجسادهم.
استعدتُ في ذاكرتي ذكرى قديمة، لكم تمنيتُ أن تمحى من ذاكرتي. هذا الطقس، وميض البرق، دَويّ الرعد وصوت قطرات المطر، ماضٍ بعيد، قبل عشرين عامًا أو يزيد....
اختلطت دموعها بقطرات العرق التي تسيل على وجهها بلا توقف، وقد بحّ صوتها من صراخها العالي، كان جسدها ينتفض وهي تضغط على الغراش بيديها حتى ابيضّت أصابعها، كنتُ اتاملُها مبهورًا وهي تنتفض وتشد كل عضلة في جسدها، كانت تعصر عينيها بشدة وعندما فتحتهما قليلاً نظرت إلي وفتحت فاها كأنما تريد قول شي، لكنها لم تستطع، أو ربما قالت، لكن صوت قطرات المطر حجب صوتها الهزيل عن الظهور، فأكملت خوض معركتها الشرسة مع الموت، فهُزمت، ولفظت آخِر أنفاسها.
توقفت اصابعها عن الشد على الفراش، ارتخت عضلاتها وهدأت ملامحها، فهل نامت يا ترى! هكذا حسِبتها، لقد تعبت وستأخذ غفوة قصيرة، تجمّد الدم في عروقي عندما سمعتُ صوت صراخ مكتوم، كان الصوت شديد القرب مني إلا أني لم استطع تبيّن مصدره، هممتُ بالبحث عن صاحب الصوت ولكني انتفضت حينما سمعت صوتًا عنيفا للباب وهو يفتح، اندفعت منه امرأتان وركضن ناحية والدتي التي كانت نائمة بسلام، نائمة بعينين نصف مفتوحتين، هزت احداهما كتف امي ببطء وهي تناديها باسمها فقالت لها صاحبتها:
"لا فائدة ، أنظري إلى عينيها، لقد فارقت الحياة".
بيد أن المرأة الاخرى لم تحاول الاستماع اليها فقد هزت والدتي بعنف اكبر وتهدج صوتها وهي تنادي عليها، حتى يئست من تلبيتها للنداء، فمدّت يدها و أغلقت عيني والدتي، و سقطت من عينها دمعة يتيمة على وجه أمي فانحدرت واختفت بين خصل شعرها الداكن، في لحظة هدوء، اخترقه صوت الصرخات الخافتة المتقطعة، فصرخت احدى المرأتين، وهي تضرب وجهها:
"وَيلي، كيف لم ننتبه لهذا".
فركضت إلى الناحية الاخرى من الفراش ورفعت غطاءها السميك واستخرجت من تحته قطمة لحم ملطخة بالدماء... ويبدو أنها كانت مصدر الصراخ... إذ احتد الصوت عندما خرج من سجنه... ازداد الضجيج وتراكضت المرأتان في البيت الصغير وإحداهما تحمل الطفل..
لا أذكر التفاصيل التي حصلت آنذاك،...
بكاء طفل....خرير ماء.....محارم.....
بعد ذلك بوقتٍ خِلتُه مر سريعًا، رأيت المرأة تلف الطفل بلفافة بيضاء وقد نام الطفل بهدوء بين يديها، كنتُ مبهورًا مما أرى لم يسعني الوقت كي أتكلم او اأساءل او على الأقل... لأبكي... كان كل شيء سريعًا، اضجعت أمي على فراشها بإعياء وهي تمسك ببطنها المنتفخة وتتألم وتصرخ بعد ذلك، لم يكن بوسعي فعل شيء، وأي شيء يستطيع طفل الخامسة أن يفعله في موقف مهيب كذاك، وطوال الوقت لم تعرني أي من المراتين أي انتباه، كانني لم اكن موجودًا، عندما هدأت الامور، واستطاعت المراتان التقاط انفاسهما قالت إحداهما للأخرى:
"وماذا بعد هذا".
"يجب أن نعد الجنازة في أقرب وقت".
"أعني بشأن الطفلين".
"سيُرسل الطفلان إلى إحدى الملاجئ فلسنا نستطيع عمل شيء غير ذلك".
"إني لآسف لهما، ليسا يملكا أماً ولا أباً، ليتني استطيع فعل شيء من اجلهما".
"مالذي تقولينه! إن لي أمًا وهي نائمة هاهنا وستصحو بعد قليل".
قلتُ ذلك صارخًا بملئ صوتي، وأنا أشير إلى والدتي الراقدة، و خِلتُهما انتبهتا لوجودي الآن فقط، فاقتربت احداهما مني و دنت أمامي، أخذت تنظر إلي بعطف قبل أن تقول ما ظل محفورًا في فؤادي:
"أي صغيري، لقد ماتت والدتك وهي تلد هذا الطفل لتصبح له الأخ الأكبر والسند الوحيد".
اتسعت حدقتاي وحجبت بصري غشاوة شفافة، كنت أستمع إلى حديثها مذهولًا، ولعلي لم افهم من تتمته إلا اليسير، لم يعد لي أم... أصبح لي شقيق صغير... وسنعيش وحيدان مدى الحياة.
...
الفصل الأول..
أتمنى يحوز على إعجابكم وسأسعد بقراءة انطباعكم المبدئي.. تحياتي 💓.
أنت تقرأ
أشِقّاء
Romanceفي حُجرةٍ ضيقة... إضاءتها خافِتة... فتحَت الكتاب وبدأت بقراءة القصة لطفلها... كانت تقرؤها له دومًا... فتعلق بها وأحبها... فسمّى شقيقه على اسم بطلها... الذي عاش وحيدًا... ماتت أمه... فأضحى شقيقه يعني له كل شيء... كل شيء... كما قال يومًا... "ل...