٢٧) الحياةُ المسلوبـة.

1.3K 163 61
                                    


...
..

غمرني المكان بالدفء، ونشرت المصابيح المعلقة في السقف الضياء في الغرفة، كانت غرفة طعامٍ تتوسطها طاولةٌ دائريةٌ لها خمس مقاعد.  
 
كان أبي يجلس على أحدها، يقرأ كتابًا،  ويحتسي كوب شاي.  
 
وفي المطبخ المُشرع على الغرفة رأيتُ أمي.  
 
كانت تعد الطعام وتقف بجانبها فتاةٌ صغيرة، لعلها في الخامسة، تمسك رداء أمي وتصر على مساعدتها، أمي تضحك، وتطلب منها أن تبتعد كي لا تتأذى  
 
من كانت تلك الفتاة؟  
 
جاءها أمجد، بدا أصغر من آخر مرةٍ رأيته فيها، ركضت الفتاة إليه وعانقته، ما علاقة هذه الفتاة به؟  ولمَ يُلاعبها ويلاطفها بحب!  
 
وضعت أمي الأطباق على الطاولة، وراحت الفتاة تساعدها بإصرار، حينها.. انتبهت لوجودي، ركضت نحوي وعلى شفتيها ابتسامةُ زادت وجهها إشراقًا،  تحرك جسدي من تلقاء نفسه وكأنه اعتاد هذا، انحنيتُ نحوها، ومددتُ يديّ إليها.  
 
ارتمت في حضني وهي تهتف: 
 
أخـــي.
 
حملتُها بذراعيّ وتأملت تقاسيم وجهها، كانت تشبه أبي، وتشبه أخي، ولها ابتسامة أمي، تجلّت فيها أوصاف عائلتي.  
 
"دعي أخاكِ يأكل يا فجـر". 
 
ابتعدت عني ملبيةً أمر أمي ووجهها يمتعض.  
 
فجر!  اسمها فجر..  
 
"إنها تنسى كل شيء حين تراه..". 
 
قال أمجد والغيرة تنساب من صوته، ضحكت أمي وهي تخبره بأن فجر لا تحب أحدنا أكثر من الآخر..  
 
وضع أبي كتابه جانبًا، وأشار لي كي أجلس في الكرسي الذي بجانبه، جلست أمي في الجانب الآخر، ثم أمجد، والصغيرة فجر... جلست بين مقعد أمجد ومقعدي الفارغ.. 
 
بدوا لي بعيدين جدًا، في جانبٍ آخر من العالم، بتلك الهالة الدافئة التي تحيط بهم، والتي لا تشبه هالتي المُظلمة، قريبون جدًا، وبعيدون جدًا، لدرجة أني لم أستطع الجلوس على الكرسي الذي يبعد خطوتين عني.  
 
أضحت سيماهم مغبشة، وأصواتهم هشة، وشيئًا فشيئًا، تلاشت المائدة ومَن عليها، وبقيتُ وحدي واقفًا،  ما تزال وجوههم،  وأصواتهم،  وابتساماتهم  عالقةً في ذهني تتردد بلا هوادة.  
 
.... 
 
دخل أبي حاملًا رضيعًا بين يديه، كان المكان مكسوًا بالبياض،  ربما مشفى،  ركض إليه ولد صغير،  كان أمجد في طفولته،  انحنى أبي حاملًا الطفل ليريه لأمجد ذا الثلاث سنوات،  اقتربتُ منهم،  كانت فتاة.  
وجنتاها ممتلئتان، وخصلات خفيفةٌ بنيةٌ ترقد على جبينها، غرس أمجد أصبعه في خد الطفلة عميقًا، انزعجت وتغضن وجهها فنهاه أبي عن فعل ذلك.  
 
ضحك أمجد، كان يشبهها شبهًا كبيرًا.  
 
استقام أبي في وقفته ومضى طارقًا بقدميه أرضية الغرفة الخشبية، حتى وصل لسريرٍ مكسو بالأغطية، ووضع الطفلة بين ذراعي أمي التي كانت مستلقيةً والإجهاد بادٍ على وجهها.  
 
أشرق وجه أمي حين رأت طفلتها، جلس أبي بجانبها ووضع أمجد الصغير على فخذه، كان الثلاثة يراقبون ذلك الملاك الصغير الذي بين يدي أمي.  
 
نادتني أمي لأجلس بجانبها وأرى الطفلة.  
 
لكني لم أتحرك.  
 
عصتني قدماي كعادتهما.  
 
حركت الطفلة يدها وعانقت سبابة أمي بأصابعها الصغيرة، ابتسموا وهم يراقبونها.  
 
لم أستطع مشاركتهم تلك اللحظات.  
 
ومرةً ثانية، تبدد ذلك المشهد مثل سراب.  
 
... 
 
كان المكان بالغ الجمال والرقي، تأملتُه بعينين مسحورتين، غرفة معيشة واسعةٍ حديثة الطراز، وممر مزدان بلوحات ثمينة تصطف على جانبيه.  
 
"هذا بيتنا من الآن فصاعدًا يا صغيرَيّ.. ". 
 
نظرتُ لصاحب الصوت الذي كان واقفًا خلفي فلم يكن سوى أبي، وبجانبه كانت أمي تقف وهي تُريح يدها على بطنها الممتلئ، وبجانبي يقف أخي الصغير ووجهه يتقد حماسًا.  
 
"لنختَر غرفنا يا مروان.. ". 
 
قال بحماسٍ وسبقني إلى السلم، ركضتُ خلفه، وصعدنا الدرجات الجصية وأمي ترفع صوتها طالبةً منا ألا نركض كي لا نتأذى.  
 
دخل كل واحد منا إلى الغرفة التي ساقته قدماه إليها، كانت كل واحدة منهما أجمل من الأخرى، خرجت، فرأيتُ والديّ واقفين أمام غرفة أمجد.  
 
"هل اخترتها يا عزيزي؟.. ". 
 
سألته أمي، فابتسم ملئ شدقيه في سعادةٍ لم أرها فيه قبلًا وهو يومئ.  
 
أشار بسبابته للغرفة المقابلة له وهو يهتف.  
 
"ستصبح هذه غرفة فجر حالما تولد".  
 
ضحك والداي ، وعده أبي أنها ستكون من نصيبها، وسألته أمي بين ضحكاتها: 
 
"واخترتَ اسمها أيضًا..؟" 
 
."نعم، أحب الفجر لأنه يسبق شروق الشمس...". 
 
قال وهو يرفع يديه القصيرتين عاليًا إشارةً إلى سطوع الشمس، فضحك والداي لرؤية حماسته. 
 
"تعالوا، سأريكم بقية البيت..". 
 
قال أبي، فتبعاه، وأثناء سيرهم التفت إلي أمجد وأشار لي أن أتبعهم.  
 
لم أستطع التقدم خطوةً واحدة، راقبتهم يبتعدون وطيفهم يتلاشى رويدًا رويدًا.  
 
للمرةً الثالثة، يذهبون ويتركوني خلفهم، متخبطًا في وحدتي الأبدية، لماذا لم يأخذوا بيدي ويجبروني على السير معهم، لماذا يتركونني وراءهم بلا حاضرٍ ولا مستقبل.

أشِقّاءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن