..
...
مضت ثلاثة أعوام على مكوثنا في الملجأ، ثلاثة أعوام مرت رتيبةً كئيبة، في مبنى متهالك يضم خمسة عشر ولداً في أعمار متقاربة، لا يتجاوز أكبرنا الثالثة عشر عاماً، كانت العلاقة التي تربطنا غريبة و مبهمة، كلٌ يعيش لأجل نفسه ولا يلقِ بالاً لأحد، ،فالجميع لن يهتم إلا بالخروج من ذلك السجن فحسب.في ذلك المبنى العتيق، نرتدي أسمالاً باليةً و نأكل طعامًا رديء، رعاية معدومة، ومسؤولية منسية، مدير لا يهمه سوى جمع أموال التبرعات ليختزنها لنفسه، ملقياً بحقوقنا عرض الحائط.
لم يكن هنالك الكثير لفعله، بعض الألعاب المبتذلة لتقضية الوقت، أو تنظيف غرف النوم والأروقة، وربما قد يتسنى للبعض منا فرصة رؤية المنظر الخارجي عن طريق التسلل إلى السطح وإمعان النظر إلى ما وراء الأسوار، لكن ذلك كان من النادر حصوله.
فكنا ننتظر قدوم ولد جديد كي نسأله عن "الخارج"، إذ لا يتسنى لأحدٍ الخروج من ذلك المكان فور دخوله.لم نلتحق بالمدرسة كأي طفل في سننا، بالكاد كان يتسنى لنا الحصول على بعض الحصص التعليمية التي تقام مرةً أو اثنتين في الأسبوع.
كنتُ أقضي الوقت في بعض الأحيان بقص القصص لأمجد، كان يحب الاستماع إلى تلك القصص الخرافية، وإن لم أجد قصةً أقوم باستعارة إحدى كتب القصص خفيةً من أحدهم.
يسألني قبل إن يغفو إن كان بطل القصة مأسورًا في إحدى تلك الكتب.
فأجيبه بابتسامة، أن نعم، ولن يجد حريته إلا إذا أعدنا الكتاب إلى صاحبه.
في إحدى الأيام، وصلنا خبر بأن عائلة ستزور الملجأ وستختار طفلاً لكفالته.
صنع النبأ ضجيجًا وحالات كر وفر بين الصبية، فالجميع يريد الهرب من ذلك السجن البائس وسيكون المُختار أشد سعادة وحظًا من كل أطفال العالم، كانت تلك إحدى التعبيرات الملجأ يتغنى بها الجميع، لم يكن الأمر يعني لي الكثير، فهم على الأرجح سيقدمون على اختيار طفلٍ واحد، ولا أمل لنا بالخروج حينها.
ولكن أصبح الأمر يشغل بالي أكثر من أي صبي من الصبية، عندما انتشرت شائعة بأن الزوجين اختارا أمجد ليكفلوه.
كان ذلك بعد زيارتهم الأولى وتعرفهم إلى الأطفال، ولكن، لماذا أمجد، لماذا أخي من بين الجميع، لم أكن لأسمح بفصلنا عن بعضنا أبدًا
بعد يومين جاء الرجل وزوجته مرة أخرى، أظن أن الزيارة كانت من السرية إلى حد أن أحدًا من الأولاد لم يعلم بقدومهم.
خلف باب غرفة المدير، كنتُ أسترق السمع لما يدور في الداخل.
"أصرّت زوجتي على أخذ ذلك الطفل".
"إنها صائبة في اختيارها، فأمجد هو الأكثر مثالية وهدوءاً، لطفل في مثل سنه".
ارتعش جسدي عندما سمعت اسمه، ولكنني حاولتُ المحافظة على هدوئي حتى سمعتُ صوتًا أنثويًا يهتف:
"أرجو أن تساعدنا أيها المدير، لقد أحببتُ ذلك الطفل، إنه فاتن وذكي، سأكفله و سأطلق عليه اسمًا جميلاً يشبهه".
حاولتُ كبح رغبة تملكتني في اقتحام الغرفة، وضرب صاحبة الصوت ضربًا مُبرحًا.
"سنستدعيه حالاً و تستطيعا أخذه متى ما أردتما.".
تصلبت أطرافي وأنا أستمع إلى ترهاته، يستطيعان أخذه!، هل نسي أن يخبرهما أن لذلك الولد شقيق له الحق في إبداء رأيه، لم أتردد قبل اقتحامي غرفة المدير دونما هوادة.
وجهتُ بصري إلى المرأة الوحيدة فيها، وصرختُ عليها بأعلى صوتي..
"كيف تجرؤين على ذلك!، لن أسمح لكِ أبدًا ولا لأيٍ كان بأن يفصلني عن شقيقي مهما كان الثمن".
"مـــروان! "
صرخ المدير وهو يضرب سطح المكتب بقبضته،
ووقف زوجها الذي كان جالسًا وقد استشاط غضبًا وكاد يمد يده علي، إلا أن امرأته استوقفته ووجهت نظرة مستفهمة إلى المدير.ارتبك و حاول مسح قطرات العرق المتمردة من جبينه بمنديله الورقي، نظر إليهما في توتر و قال بنبرة حاول عبثًا جعلها مستقيمة و سويّة.
"آه، صحيح، كنتُ سأخبركما بذلك بالطبع، إن هذا هو الشقيق الأكبر لأمجد".
نظرت المرأة إلي و خلتُ أني لمحتُ نظرة حانية في عينيها..
"هل ستكون راضياً إن كفلنا أمجد و أحسنا إليه".
لم أحاول أن أفكر في الأمر، كدت أصرخ رافضًا، لكني أكتفيتُ أن هززتُ رأسي سلبًا.
فوجهت المرأة بصرها أخيرًا إلى زوجها و قالت في أسى..
"هيا بنا يا أبا دانة، لم يعد لنا حاجة في هذا المكان".
عندما غادرا، وبخني المدير بشدة، بحجة أنني اِخترقت آداب السلوك، عندما استرقتُ السمع ورفعتُ صوتي على من هم أكبر سنًا مني، ولكن الحقيقة أن غضبه لم يكن إلا لخسارته "الصفقة"، لم أعر بالاً لتوبيخه، فقد أديت واجبي
و هكذا، أصبحت قصة الكفالة، أشبه بأسطورة من الماضي يتناقلها الجميع.
..
نهاية الفصل 💕،
أتمنى ينال إعجابكم وسأسعد بقراءة إنطباعكاتكم....💓
أنت تقرأ
أشِقّاء
Romanceفي حُجرةٍ ضيقة... إضاءتها خافِتة... فتحَت الكتاب وبدأت بقراءة القصة لطفلها... كانت تقرؤها له دومًا... فتعلق بها وأحبها... فسمّى شقيقه على اسم بطلها... الذي عاش وحيدًا... ماتت أمه... فأضحى شقيقه يعني له كل شيء... كل شيء... كما قال يومًا... "ل...