..
..احتضنت الطاولة سبعة كراسٍ، امتدت على طول غرفة الاجتماعات ذات الحوائط البيضاء والسقف المرتفع الذي تصطف على جوانبه المصابيح ساطعة الإضاءة، يجلس على الست كراسٍ المتقابلة كل من رئيس قسم العمال، والصيانة، والرقابة، والتمويل، والتسويق، والمدير التنفيذي، ويجلس على الكرسي السابع في صدر الطاولة مُشرف الاجتماع، المدير العام.. مروان فادي.
"مرت خمس سنوات على دخول العالم للألفية الثالثة، ونحن ما زلنا نستعمل الحواسب القديمة في تسيير شؤون العمل..".
قال غيث رئيس قسم التمويل بانفعال يرافقه في كل نقاشٍ يخوضه.
"ما يزال مصنعنا في مراحل نموه، لدينا أولويات قصوى في هذه المرحلة..".
قال رئيس العمال برصانة فعقب غيث على كلامه:
"أفهم من كلامك يا نبيل أنك توافق المدير على اقتطاع جزء من الإيرادات لتقديم التبرعات رغم أن المصنع أولى بها..".
"أنت تعلم أنه يعوض الخسائر بماله الخاص..".
"ما الجدوى من هذه الفوضى إن كان يمكن تأجيلها حتى يقف المصنع على قدميه..".
"المدير يعرف ما الذي يفعله، يكفي أنه كسر القاعدة التي تقتضي بفصل الملكية عن الإدارة واستطاع أن يدير أملاكه إدارةً ناجحة..".
أنهى المدير التنفيذي فارس ذلك النقاش التشاؤمي الذي قطع غيث به حلقة الحديث عن خطة عمل الأقسام في الموسم المُقبل.
تنحنح بدر رئيس قسم التسويق وقال وهو يفرز الأوراق أمامه:
"المشكلة الرئيسية التي ينبغي علينا مواجهتها هي رفع قيمة العرض بزيادة الإنتاجية لتكافئ الطلب الذي تزايد مؤخرًا..".
"علينا التعامل أولًا مع مشكلة التخزين، المستودع الجنوبي في حالةٍ يُرثى لها..".
قال رائد رئيس الصيانة وانغمس البقية في الحديث عن عدم كفاية المستودعات ونقص المتاجر الحاضنة للسلع، ولم يلحظوا أن مديرهم مغيَّب العقل.
كنت عاقدًا يدي إلى صدري ومسندًا ظهري إلى الخلف، من يراني يحسَبُني أحلل كلام مرؤوسيَّ وأفكر بإجاباتٍ وحلولٍ واحتمالات.
لكن الواقع أن عقلي كان مأخوذًا باللقاء الذي سيجمعني بها بعد ساعات، لم أتهيأ له روحًا ولا جسدًا، كنتُ أرغب بالهرب لناحيةٍ أخرى من العالم، جُبنًا وخوفًا وهلعًا، كي لا تراني وترمقني بالنظرات التي رمقتني بها البارحة.
ذهبتُ الليلة الماضية لحيِّها كما خططت، أوقفتُ سيارتي بجانب إحدى الأرصفة، وسرتُ على الرصيف منخرطًا في ضجيج الحي، أراقب الأطفال يلعبون في الشوارع والجارات يتحدثن أمام الأبواب وكبار السن جالسون على جنبات الطريق، يراقبون الحياة بأعين توشك أن تنطفئ منها الحياة.
أوشكت الشمس على مغادرة السماء وقلت الضوضاء في الشوارع تدريجيًا، وقفتُ قرب إحدى المنعطفات وباب بيتها على مرمى بصري، لن تتكرر المصادفة التي حصلت قبل أسبوع وأنا واقف عند ذات المنعطف، استدرت لأعود وأنا أندب غبائي الذي جلبني، كيف اعتقدتُ أنني سأتحقق من شكوكي؟ هل اعتقدتُ أن الحياة تسير على هوى الصدف؟
سمعتُ صوتًا مألوفًا وأنا أمضي عائدًا، انقاد بصري لصاحب الصوت الذي كان على بعد بضع خطوات أمامي، هذا الطفل! صاحب الحلوى، مصادفةٌ أخرى قادتني للأخ الأصغر هذه المرة، كان يسير ممسكًا يد أمه.
لحظة! أمـه؟
انتبه لي الصبي وأشار نحوي بسبابته اليمنى وهز بيده الأخرى يد أمه التي تعانق يده، أرجـوكَ لا..
"ماما ماما، إنه الرجل الذي حدثتكِ عنه..".
نظرت المعنيَّةُ إلي، ونظرتُ إليها، إنها هي، عيناي لا تُخطئانها أينما كانت، وأيَّـما باعدت السنون بين وداعنا ولقائنا، لم تتغير، عدا أن عينيها صارتا أضيَق، ووجهها أنحل، ومسحة حزنٍ عميقٍ تهيم على وجهها، رمقتني بحرجٍ من إلحاح ابنها وهو يشير إلي وهمهمَت له بكلماتٍ فسكت، ولكن عيناه بقيتا محدقتين فيَّ ووجهه مُحمَرٌّ من الانفعال، كيف لم أنتبه! كم كان يشبهها!
"أعذر فظاظة ابني أيها السيد..".
قالت بأسفٍ وهي تحني رأسها، أصبحَت قصيرةً جدًا، أم أنني من صار فارع الطول، أتجاوز الرقاب فلا يراني أحد..
وثَّقت إمساكها بيد ابنها وسارت هامة بالعبور من جانبي.
"ماما أنا متأكدٌ أنه هو..".
"يكفي يا مُهند..".
مرت مثل مرورها من جانب غريبٍ قاطع سَيرها.
لم تعرفني، لم تجدني، ماذا بقيَ مني؟
"جُمان..".
أفلت اسمها من لساني الخائن واستدرنا نحن الاثنين في آنٍ معًا، هي ترمقني بريبة، وأنا أبحث عن بقايا نفسي الضائعة في عينيها.
"هل.. أعرفك؟".
"هل غيرتني السنوات العشر لهذه الدرجة؟".
اتسعت حدقتاها وغارت مقلتاها وتمتمت دون تصديق:
"مـ مروان!".
هتفت ثانيةً وكأن لفظها لاسمي زاد دهشتها وأيقظ في قلبها ذكرى فتى السابعة عشرة:
"هل هذا أنتَ يا مروان؟".
تبادلنا نظرات الحنين والصمت المقيت يلفنا، كل واحدٍ فينا يبحث عن بقايا نفسه في عينيّ الآخر، ماذا غيّرت الأيام فينا؟ هل ما زلتِ تلك الفتاة البشوش رغم كل شيء؟ وهل بقي شيءٌ من ذلك الفتى سريع الانفعال والخجل؟ أم أن الأيام أفرغته، فبات ممتلئًا بهم، وخاويًا من نفسه.
أنت تقرأ
أشِقّاء
Romanceفي حُجرةٍ ضيقة... إضاءتها خافِتة... فتحَت الكتاب وبدأت بقراءة القصة لطفلها... كانت تقرؤها له دومًا... فتعلق بها وأحبها... فسمّى شقيقه على اسم بطلها... الذي عاش وحيدًا... ماتت أمه... فأضحى شقيقه يعني له كل شيء... كل شيء... كما قال يومًا... "ل...