٣٢) إنقــاذ.

1.1K 149 57
                                    


..
..

نظرتُ إلى يديهما المتشابكتين، ورجوتُ في سري ألا يفصلهما شيء. كان الأكبر في العاشرة، والأصغر يبلغ الخامسة، كنا في نفس عمرَيهما يوم كدنا نفترق قبل سنواتٍ طوال، ربما كان سيعيش لو كفله أبو دانة وزوجته وأخذاه بعيدًا عن الميتم وعني، لكني رفضتُ بأنانية، ونعتُّهما بأسوأ الأوصاف مع أنهما لم يُسيئا إلينا، ولكن حال هذين الأخوين تختلف عن حالنا اختلافًا جمًّا، فالصغير لديه فرصةٌ ليعيش حياةً أفضل مع أخيه، وبقاؤهما معًا أفضل من انفصالهما على خلافِنا. 
 
كانت خالتهما جالسة أمامي تفصل بيننا طاولة مستديرة صغيرة، جعدت بيديها حقيبتها الصغيرة التي توسدت حضنها وقالت بأسف وهي مُطرقة: 
 
"كنت أنوي أخذه حالما تتحسَّن أحوالي". 
 
"هل أنتِ قريبته الوحيدة؟". 
 
"لا، لدي أخت، لكن أطفالها كُثر وحالها ليست أفضل من حالي". 
 
"بإمكانك فعل ما طلبته منك، أليس كذلك؟". 
 
أومأت وقالت بصوتٍ خفيض: 
 
"لا أعرف كيف أشكرك، لم أرِد أن أفرقهما". 
 
وجهتُ دفة الحديث للمدير الذي كان جالسًا خلف مكتبه ولم يقاطعنا طوال حديثنا: 
 
"هل لديكَ أي تعليق؟". 
 
تململ في جلسته ونقل بصره بيننا ثم هز كتفيه وقال: 
 
"ما دام كل واحدٍ منكما سيقوم بما فُوِّض إليه فلا شيء عندي لأقوله". 
 
نقلت بصري للجالسة أمامي وقلت: 
 
"سيصلك مصروفهما نهاية كل شهر، وسأتواصل معهما من وقت لآخر". 
 
ضغطت على حقيبتها وقالت وهي تنظر صوبي: 
 
"هل تُشَكك في عنايتي بابنَي أختي؟". 
 
"علينا أن نبقى متيقظين دومًا". 
 
عقدت حاجبيها واستقامت واقفةً وهي ترتدي حقيبتها، قالت بنبرةٍ فشِلت في تخفيف حدتها: 
 
"سأذهب الآن، وشكرًا على المساعدة". 
 
خرجت وكاد الأخوين يتبعانها لكني استدركتهما وأنا أقف وأتجه إليهما: 
 
"ياســين". 
 
استدار إلي ياسين، الأخ الأكبر، ويده ما زالت تعانق يد أخيه. 

وقفت أمامه، وتَمثَّل لي ذلك المشهد الذي مضى عليه اثنين وعشرين سنة، وضعتُ يديَّ على كتفيه، لم أرَ ياسين، رأيتُ مروان البالغ خمسة أعوام، ذلك الطفل المحتار، المتشتت، الخائف، ويَدا أروى على كتفيه، وكلماتها تتجاوز حاجز جسده، وتستقر في روحه للأبد. 
 
"اِعتنِ بأخيك، أنت شقيقُه الأكبر، وسندُه الوحيد". 
 
اعتنِ به، كُن له كل شيء، أغدق عليه حبًا وحنانًا، كن أفضل قدوةٍ له، اجعله فخورًا بك، خُذ بيده وسِر معهُ جنبًا إلى جنب، اكبرا، وعِيشا. 
 
أومأ ياسين، ورأيتُ عَزمي القديم ينعكس في عينيه. 
 
"هل ستزورنا؟". 
 
سألني يوسف، فدنَوتُ منه وقلتُ وأنا أبعثر شعره الطويل: 
 
"نعم، كُن مطيعًا لأخيك، اتفقنا؟". 
 
أومأ وهو يرسم ابتسامةً جميلة، ودَّعاني، وذهبا خلف خالتهما. 
 
"أنت لم تنو ضمه لجناحك، كل ما أردتَه هو جمعه بأخيه، يا لك من رجل!". 
 
"أخوه.. أطلق عليه اسمه، وفراقه به أبكى يوسف، إنهما يملكان ذات الرابطة التي جمعت بيني وبينه". 
 
 
"أنتَ تُحمِّل نفسك مسؤوليةً أنت في غنى عنها، تضع على عاتقك آمالهم وتمضي مُترنحًا، عليك أن تجد مُستقرًا يُثبت قدمَيك". 
 
زفرتُ بتعب من هذه الكلمات التي تتكرر على مسامعي من حينٍ إلى حين، ألا يمكنهم صرف أنظارهم عني وتركي لأعيش على طريقتي دون نصائح لا معنى لها! 
 
"علي أن أذهب، شكرًا لما فعلته". 
 
"على الرحب". 
 
غادرتُ المبنى وركبتُ سيارتي وأرجعت رأسي للوراء بإنهاك، علي أن أقابل عماد الليلة، دعاني على العشاء في مطعمٍ ما فتئ يشيد بالأصناف التي يقدمونها، وأصر على مجيئي رغم اعتراضاتي، بل أقسم أنني لو رفضتُ سأندم، فرضخت طواعية؛ فتهديداته لا تكون جزافًا. 
 
... 
 
تخطيت صفوف الطاولات متجهًا للجالس إلى طاولةٍ تُحاذي النافذة، وانسلت من خلالها أضواء المساءِ الحالمة. 
 
"أهلًا بمدير المصنع الذي تنازل أخيرًا لملاقاة صديقه". 
 
جلستُ أمامه متفاديًا الرد على تحيته الصاخبة التي قادت الأعين الفضولية نحونا. 
 
"كيف العمل معك؟". 
 
طرح ذلك السؤال الروتيني بعد أخذ النادل لطلبنا، ولم أناكفه في إصراره على دفع الحساب عن كلَينا. 
 
"كالعادة، لا أكاد أجد الوقت لرفع بصري عن التقارير والمستجدات اليومية". 
 
"بالمناسبة، لمَ أخفيتَ عني إجازتك؟ كنتُ سأحجز لك رحلةً إلى جزيرة كي تعيد لملمة شتاتك". 
 
"لهذا تحديدًا لم أفكر بإخبارك". 
 
اعتاد عماد وأفراد عائلته فعل كل شيءٍ بغير علمي، مثل معهد الإدارة الذي وجدتُ نفسي مسجلًا فيه بعد إغلاق قضية الإرث، كان صديق والد عماد يملك المعهد واستطاع أبوه بمساعدته إرسال معلوماتي للمالك وتسجيلي، وأيضًا البيت الذي أسكنه وقع على عقد شرائه زَيد شقيقه المحامي دون علمي، وكادت رويدة أخته الكبرى أن تزوجني قبل سنتين من فتاةٍ تعرفها وتجزم أنها الأنسب لي، ولولا معرفتي بالأمر مصادفةً لتُمِّمَت إجراءات الخطبة وأنا آخر من يعلم، والقائمة تطول بتدخلات تلك العائلة في حياتي. 
 
"ما أخبارُ يزيد؟". 
 
سألتُ، فامتعض وجهه وقال بغضبٍ صبياني: 
 
"ذلك الصغير ممتلئ الخدَّين ينال كل اهتمامها ووالده أصبح كأي قطعة أثاثٍ في البيت". 
 
"إنه ظريف، لكن المسكين قَدِّر له أن تكون أباه". 
 
"مسكين! لم يتجاوز عامه الأول إلا أنه يرمقني بخبثٍ كلما كانت أمه في الجوار". 
 
"وما معنى هذا؟". 
 
"إنه يتفاخر لأنه سلبني أحضانها". 
 
قلت بنبرةٍ فشلتُ في تخفيف سخريتها: 
 
"أحضانها؟ هل نسيت أنك طُرِدتَ مرتين وجئتَني شاكيًا؟". 
 
"طُرِدت! غير صحيح، أردت الابتعاد عنها حتى تشعر بقيمتي". 
 
"على أية حال، لن أستضيفك في بيتي ثانية، وجِد غيري ليحل مشاكلك الزوجية". 
 
"أنت بلا فائدةٍ حقًا". 
 
قالها بغيظ وهو يعقد يديه لصدره ويرجع ظهره للخلف، وصل الطلب، ووزع النادل الأطباق على الطاولة وانصرف. 
 
"كيف حالها؟". 
 
 سألتُ بهدوء، فدنا من الطاولة وقال وهو يلتقط شوكةً ويملؤها بما يزخر به طبقه: 
 
"بخير". 
 
"جيد". 
 
رفع رأسه إلي وسأل بارتياب: 
 
"هل لي أن أعرف لمَ تسأل عنها دائمًا؟ لا تقُل لي أنك كنت تحبها في الماضي وأنا سرقتها منك؟". 
 
رسمتُ ابتسامةً باهتة، وأجبت: 
 
"أريدها أن تكون سعيدةً وحسب... مِن أجله". 
 
قلتُ آخر كلمتين هامسًا، وحالت ضوضاء المطعم دون سماعه لها، سأل: 
 
"هل تظنني سفاحًا لأؤذي تلك الملاك؟". 
 
"كان يقول هذا أيضًا". 
 
"ماذا؟". 
 
"لا شيء". 
 
قابلها عماد منذ أيام معرفته الأولى بي، حين كان يتقصى عني من ندى، وكانت هي تقف على مقربةٍ منهما بارتياب من هذا الغريب الذي يختلي بأختها الصغرى، ومع انتقالي للمدينة الساحلية أكمل هو عامه الأخير في جامعته في العاصمة، وكعادته يذهب للحديقة أوقات فراغه، ودون مقدمات، أصبحا يتقابلان، لا أعرف إن كانت قد أحبته، أم أنها رأت في قسماته، وكلامه، وشخصيته الفتى الذي كانت تحبه، وبعد خمس سنوات، تزوَّجا. 
 
"على ذكرها، نسيت إخبارك بشيء". 
 
قال فجأة، وأردف بابتسامة: 
 
"هل تذكر حين قلت لك أنني سأطلب منها أن تجد زوجةً لك؟". 
 
رفعتُ حاجبي بارتياب، لأسمعه يقول: 
 
"قالت أنها تعرف المرأة المثالية لك، ما كان اسمها يا تُرى! جَميلة.. جُهينة.. حَمامة..!" 
 
"جُمانة!". 
 
"نعم نعم، هي!". 
 
ابتسمت بسخرية، وحين انتبهتُ لنظراته المتحمسة قلت مُهددًا وأنا أرفع الشوكة صوبه: 
 
"إياكما أن تفعلا شيئًا من ورائي!". 
 
تراجع للخاف بصورةٍ غريزية وهو يقول: 
 
"لن نفعل شيئًا يا رجل، أبعد هذا الشيء عني". 
 
أكملنا عشاءنا بصمت، لم يكن للطعام مذاق في لساني، كان عقلي مزدحمًا، أفكر بما سأقوله لها، وبأي شجاعةٍ زائفةٍ سأقابلها، يفصلني عن لقائي بها أيام، سيكون لقاءنا الأخير، لن أحتمل المثول أمامها ثانيةً، سأتحجج بحججٍ واهية، وأهرب دون عودة. 
 
 ... 
 
 
"لقد أخطأت أروى في حساباتها". 
 
قالت، بعد سماعها لقصة الماضي الغابر، الذي أوصلني لهذا الحاضر، أردفت: 
 
"كانت تظن أن أمك عاشت حياةً مثالية، وقُدِّمت إليها السعادة على طبقٍ من ذهب، ولكني أعتقد أنها عاشت طفولتها وحيدة، بلا أم ولا إخوة، وجميع من حولها يذكرها بأمها، ولا يحاولون تعويضها عنها، كم كانت وحيدة! إلا أنها وجدت سعادتها في الشقوق الصغيرة، وعاشت قانعةً بها، إنها تذكرني بنفسي". 
 
نظرتُ إليها وهي تتحدث متقمصةً شخصية نائلة، وإلى حد بعيد شعرتُ أن الاثنتين تمتلكان الهالةَ نفسها. 
 
هب الهواء حاملًا رائحة الماضي معه، مرت الدقائق ونحن نقف أمام الحوض صامتين، في الفناء الخلفي لبيتِها، لا أحد منا بادر بالكلام بعد تعليقها، كنا في ساعات النهار الأولى، ابناها في المدرسة، والحي هادئ، بالكاد وجدتُ فرصةً لترك المصنع والمجيء، وفي نيَّتي إنهاء كل ما بيننا، لكني لم أجرؤ بعدُ على الإفصاح عن خبيئتي. 

أشِقّاءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن