..
..الحياة تسلبنا وتُعطينا، تُسقطنا وتوقفنا، تُبكينا وتُضحكنا، لكن هل الجميع يضحك في النهاية؟ هل للنفق المظلم نهاية؟ هل تزهر جميع براعم البستان؟ هل تتحقق الأحلام؟ أم تتحول للعنات!
يولد الأطفال ويولد معهم الحب، فيعطونه بسخاء، يعطونه دون مردود، فإما يستمر عطاؤهم، وإما يضمحل.
تعلمت تلك الطفلة أن تُحب دون معلمين، أعطت الحب الذي كان يفيض بداخلها لكل شيء، لألعابها وأزهارها والأطفال من حولها.
لكن حبها الفائض تحول لكراهية، والضياء الذي كانت تتطلع له استحال لظلامٍ ابتلعها وابتلع أحلامها، لقد ماتت لكنها على قيد الحياة باقية.
لم تعترض على القدر الذي حتَّم عليها أن تعيش طفولتها يتيمة الأبوين، كان شقيقها الذي يكبرها بعشر سنوات يرعاها، لكن الحياة أشغلته عن عنايته المشروطة بأخته الوحيدة، لم تشكُ تلك الطفلة بقاءها وحيدة، بل عاشت مكتفيةً بنفسها، ممتلئةً بالأحلام، كانت تحب الأطفال والحيوانات والقصص، فأصبحت تكتب القصص عن الحيوانات للأطفال، الثعلب الماكر والفيل الطيب والكلب الوفي، كبرت وحبها للقصص وللأطفال يزداد، لم تكن أروى بالغة الجمال، ولم تكن شخصيتها تأسر الناس، كانت عادية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، مثل زهرة بنفسج وسط حقلٍ يفيض بأزهار البنفسج، لا تلفت الأنظار ولا تسترعي الفضول، مثل كل شيء، وأي أحد.
كانت في الخامسة عشرة حين انتبه الناس فجأةً لوجودها، ليس وكأنها حاولت لفت الأنظار إليها أو رغبت بذلك، لكن الأنظار انساقت نحوها حين أصبحت موضعًا للمقارنة، بعد زواج شقيقها من فتاةٍ خطفت القلوب، "نائلـة" التي نالت كل شيء، نالت كل الحب الذي لم تنله أروى، ونالت الجمال الذي فقدته أروى، ونالت الفصاحة التي لم تجد طريقًا لأروى، نالت نائلة كل شيء، ولم تنَل أروى شيئًا.
في تلك البيئة متلاصقة الأبنية، يجد الناس متنفسهم في الهمز واللمز والنميمة، ووجدت أروى نفسها لقمةً سائغةً في أفواه أناسٍ لا تعرفهم، تنال نظرات الشفقة منهم لأنها مسكينة، تفتقر لمقوماتٍ عديدة، لا شك أنها تغار من زوجة أخيها، وتتمنى بِضعًا مما عندها، ولكن المسكينة لن تستطيع نيل شيء.
من قال هذا لهم؟ متى شكت حالها لهم؟ من قال أنها تعرف الغيرة؟ إنها مجرد فتاةٍ حالمة، تعيش على كتابة القصص، وأحلام اليقظة، وتزيين غرفتها بورد الفل والريحان الذي ينمو على جنبات الطريق، لم تنظر لنائلة على أنها مميزة، كانت مجرد فردٍ من العائلة، وعلى أروى أن تتأقلم على الحياة معها بهدوء.
كانت نائلة لطيفةً وودودة، تشاركتا كل شيء، البيت والطعام والكلام، وكان غياب زوجها إياد المتواصل يُتيح لهما قضاء أوقاتٍ طويلةٍ مع بعضهما، دعمت نائلة أروى لتنشر قصصها، ووعدتها أنها ستُقنع زوجها كي لا يرفض نشر قصصها المعنونة باسمها، فانتشار اسم امرأةٍ في تلك الحقبة ليس مقبولًا، فنشرت أولى قصصها وهي في السادسة عشرة، وهي تأمل أن يُحبها الأطفال.
كتبت ونشرت العديد من القصص على امتداد أربعة سنوات أخرى، مُتناسيةً ما يقوله الناس عنها، حتى حل ذلك اليوم المظلم، كانت هي ونائلة في البيت وحدهما، حين جاء المخاض لهذه الأخيرة.
لم تكن وسائل الاتصال متوفرةً في ذلك الزمان، كان الناس يتواصلون بزيارة بعضهم البعض والكلام وجهًا إلى وجه، فلم يكن أمام أروى خيار إلا الإسراع لطلب المساعدة من نساء الجيران، كان الوقت متأخرًا والناس نائمون حين تعالت صرخات نائلة، كانت خائفة من الوحدة والظلمة وتلك الآلام التي اعتصرت جسدها المُنهك، فلم تسمح لأروى بتركها والذهاب، ضغطت بيدها على ساعد أروى لإبقائها، رجتها أن لا تتركها وهي تعصر ساعدها حتى تركت آثارًا عليها، فلم تستطع أروى تركها بهذا الرجاء الذي يعلو عينيها، فبقيت وساندتها بما تستطيع، ولكن نائلة التي نالت كل شيء، لم تنَل القوة الجسدية، فأنهكتها آلام المخاض، وانطفأ بريق عينيها أمام أنظار أروى، فأنجبت طفلةً وتركتها رهينة الخذلان.
جاء الصباح، وحياة نائلة استُبدلت بتلك الرضيعة التي أخذت من أمها كل شيء، جمالها وبريقها وحياتها، تأثر إياد برحيل زوجته الحبيبة، وتعلق قلبه بابنته الصغيرة التي ورثت من أمها كل شيء، فسمَّاها نائلة.
أما أروى فتحولت من غيورة إلى قاتلة، تراشقت عليها التهم الباطلة، ووصلت ادعاءات الناس إلى أنها أوصدت الأبواب وتركت زوجة أخيها لتموت في مخاضها، لم تستطع أروى تجنب كلامهم الذي وصل لأخيها إياد، فتشربه، وبات مثل البقية، يلومها على كل ما لم تفعله، تشوهت سُمعتها بين الناس، ومن تتشوه سُمعتها ويلوك الناس اسمها لن يكون لها مستقبل، ولن يتزوجها أحد، لن تكون أكثر من سلعةٍ بائرة، ونالت أروى من بُد كل شيءٍ هذا المصير.
منعها أخوها من نشر قصصها، ووقع عقدًا باسمها ليسحب كل منشوراتها من المكتبات نكايةً بما فعلته بزوجته، تحطم قلب أروى، وتهشمت روحها المتوهجة، صارت حبيسة غرفتها، تكتب قصصًا بنهاياتٍ تعيسة، كتبت كل جراحها على الورق المُندى بدموعها، ذبلت الأزهار التي كانت تزدان بها غرفتها، وجف حبر أقلامها، وصارت ناقمةً على كل شيء، وعلى نائلة قبل أي شيء.
وعلى النقيض منها كانت نائلة، كانت طفلةً مرحة، مشرقةً كالشمس، وينالها كلام الإعجاب والإطراء من الجميع، لأنها ابنةُ أمها، ووجودها يُحيي ذكرى أمها الراحلة.
ماتت نائلة ووُلدت نائلة، زالت لعنة وحلّت محلّها أخرى لترافق أروى لبقية حياتها التعيسة.
"عمتي.. عمتي، العبي معي..".
قالتها طفلة السنوات الخمس لعمتها التي لا تبارح غرفتها إلا نادرًا، رمقتها ببرود وجاء صوت أخيها من عند الباب:
"نائلة! ماذا تفعلين عندها!..".
"أبي.. أريدها أن تلعب معــ ..
اختفى صوتها حين أغلق أبوها الباب بعد أن أبعدها عن أخته المختلة، عادت أروى بأنظارها للنافذة، وهي لا ترى غير السواد يُلون كل شيء، تلك الطفلة تتظاهر بالبراءة، لكنها تأتي إليها لتسخر من أوجاعها، تلك الطفلة هي السبب، هي وأمها من جعلاها مهمشةً مكروهةً ملعونةً من الجميع.
كبرت نائلة وأصبحت في الخامسة عشرة، وأروى تراقبها كم تُزهر عامًا بعد عام، وهي تذبل عامًا بعد عام، تنال كل الحب، وهي لا تنال غير الكره، تنال كل شيء، وهي لا تنال أي شيء.
زار حيهم فتى في الثامنة عشرة، تعلقت به أنظار وقلوب فتيات الحي، لم يروا من قبل شابًا أكثر وسامةً ولا أناقةً ولا لطفًا منه.
انقاد قلب الفتى فادي لنائلة التي تصغره بثلاث سنوات، أحبها بصدق، وبادلته هي الحب، فصار يزور حيهم لينال منها كلمةً أو التفاتة، كبر حبهما الذي غدا مضرب الأمثال، وأروى تراقب حبهما الذي يكبر عامًا بعد عامٍ بعد عام، حتى تقدم لخطبتها فوافقت وتزوجته وهي ابنة ثماني عشرة سنة.
انتقلت معه نائلة بعد زواجها ليسكنا في شقة بسيطة، لم يكن فادي يقبل المال من عمه الثري، كان يعمل بنفسه ويأكل من عرق جبينه، عاش الاثنان في تلك الشقة الصغيرة مثل طائرَي كناري في قفصٍ مرصعٍ بالحب.
تفاجأت أروى حين جاءها عرض للزواج، وهي في التاسعة والثلاثين من ابن عم زوج نائلة، بعد عامٍ من زواج الأخيرة.
كان بهاء أكبر منها بأكثر من عشر سنوات، سبق له الزواج مرتين، ولكن زيجاته لم تستمر طويلًا، لم يكن من النوع الذي ينال إعجاب النساء، لكن أروى لم تجد سببًا لترفض، خاصةً أن شقيقها توفي، وليس لديها أحدٌ ولا سببٌ لتعيش من أجله.
مر عام على زواجها حين عاد لقلبها المظلم الأمل، والنور، والحب، حين حملت في أحشائها طفلًا، ترقرقت الدموع في عينيها حين علمت أن أحلامها لم تذهب كلها أدراج الرياح، وأنها في عامها الأربعين ستنجب طفلًا وتتحقق إحدى أحلامها التي ظنتها مستحيلة.
بعد أشهرٍ من ولادة أملها، سقط جنينها، وسقطت معه آخر رغباتها في الحياة، قال لها الأطباء أنها لن تستطيع الإنجاب ثانيةً، فأفل آخرُ بصيص أملٍ لاح لها، ودُفنت آخر آمالها مع طفلها.
سمعت أن نائلة أنجبت طفلًا، وها هي تنال شيئًا آخر، لن تستطيع أروى نيله أبدًا، فعاشت سنواتها التالية تندب حظها وأحلامها ونفسها، قضت ليالٍ عديدة تبكي وتبكي، لم يمحُ دموعها غير ظلمة الدجى، ولم يسمع أنينها غير الصدى، حينها، كتبت آخر قصصها، بحروف باكيةٍ، مُلتاعةٍ، متألمة، قصةٌ تصوغَ ألم الفقدِ في آلـَمِ صورِه، قصةُ طفلٍ سمته باسم الطفل الذي نما في أحشائها وغادرها قبل أن يفرحها بمقدمه، سمّته أمجد، وذوقته الألم الذي ذاقته، ألم الوحدة والفقد، عاش طفولته مغمورًا، تعلق بآمال واهيةً، وتعرف إلى صديق ثم اختفى هذا الصديق، وعاد الفتى لوحدته، لكن الحقيقة التي لم يفهمها أحد أن ذلك الفتى لم يجد صديقا منذ البداية، فتخيله، وعاش مؤمنا بخياله، ثم فقده، ولم يجده رغم بحثه المضني، لم يكن يبحث إلا عن سراب، كالسراب الذي ظلت تلاحقه طوال حياتها، ولم تصل إليه لأنه غير موجود من الأساس.
لم تعد أروى تكتب القصص لأنها لم تعد تحبها، لم تعد تتمنى طفلًا لأنها لم تعد تحب الأطفال، وباتت تكره الحيوانات لأنها كتلة من القذارة، كرهت أروى كل ما كانت تحبه.
قال لها بهاء أن عمه توفي وكتب كل ثروته لابن أخيه الأصغر فادي، وأن هذا الأخير ينتظر طفلًا آخر.
نائلة مرةً أخرى! لماذا تنال نائلة كل شيء! لم لا يبارحها الحظ! لماذا لا تضل السعادة إليها سبيلًا! لماذا!
إن كان الحظ قد أخطأ الجميع ونالها، فسأعيده لنصابه الصحيح.
كان هذا ما فكرت به أروى، وعزمت على تنفيذه دون تأخير، كان زوجها هشًا يسهُل تسييره، فلم تجد صعوبةً في زرع أفكارها الشيطانية في رأسه، لماذا لم يعطيك عمك شيئًا! مع أنك ابن شقيقه الأكبر، تستحق أكثر من نصف الإرث، أنت الأكبر، أنت الأحق، أنتَ.. أنتَ.. أنت..
قابل بهاء فادي في مصادفةٍ مدروسة، وقال له أنه يريد التحدث معه على انفراد، وافق فادي مسرورًا؛ إذ كان يخشى أن ابن عمه سيقطع وصاله معه نقمةً على العم الذي لم يُنصفه، أخذه فادي بسيارته، لم يخبر زوجته أنه سيتأخر، لكنها ستتفهم حين يخبرها أنه كان مع بهاء، كان يعلم أنها سريعة القلق، تخشى أن يتأخر دقيقةً واحدة، ولو تأخر فهي لن تُسابق ابنه لاستقباله، بل تشيح عنه ولا ترضى بسهولة، لطالما كانت حبيبته صعبة الإرضاء، وورث ابنهما تلك العادة منها.
أنت تقرأ
أشِقّاء
Romanceفي حُجرةٍ ضيقة... إضاءتها خافِتة... فتحَت الكتاب وبدأت بقراءة القصة لطفلها... كانت تقرؤها له دومًا... فتعلق بها وأحبها... فسمّى شقيقه على اسم بطلها... الذي عاش وحيدًا... ماتت أمه... فأضحى شقيقه يعني له كل شيء... كل شيء... كما قال يومًا... "ل...