..
..انبعث صوت مقدم الأرصاد عبر الأثير، تحدث بصوتٍ رتيب مقدمًا نفسه وشرح بكلمات مختصرة أحوال الطقس للأيام القادمة، يوشك موسم الأمطار أن ينتهي مع انتهاء الشتاء، والربيع يطرق الأبواب ملطفًا الأجواء بعد تلك الموجة الباردة التي لم تعتَدها المدينة الساحلية، فتحت النافذة لتنغمر سيارتي بفوح الشتاء الأخير، وتدافعت للداخل أصوات الطيور المحلقة في رحلة البحث عن أقواتها مع فيضٍ من أصوات أبواق السيارات المارة، أبطأتُ السرعة وانعطفتُ إلى الشارع المواجه للمصنع، أوقفتُها في المواقف وأطفأتُ المذياع قاطعًا حديث المقدم، ترجلتُ من السيارة وعدلتُ طي ياقة معطفي التي كانت مرفوعةً اتقاءً لنسائم الفجر الباردة التي بددتها أشعة الشمس بطلوعها، صعدتُ درجات المدخل وولجتُ للداخل سائرًا بخطى ثابتة.
"سيدي.. أهلًا بعودتك..".
التفَّت جميع الأعين نحوي حين سمعوا ذلك الترحيب من أحد الموظفين، وتعالت هتافاتهم وترحيباتهم بي، فخرج بعض الموظفين من مقراتهم ليروا مصدر تلك الجلبة وأغرقوني بمزيدٍ من الترحيب على غرار البقية.
مررتُ بصري عليهم، بسيماهم المبتهجة، ورسمتُ ابتسامةً قصيرة سرعان ما تلاشت.
أخي.. لقد حققتُ حلمنا.. لكنك لستَ بجانبي، تركتني بلا كتفٍ يُسايرني، هل يُرضيكَ حالي!
"عودوا لأعمالكم".
قلتُ بهدوء وأنا أسير بينهم متفاديُا تهافتهم المبالغ، صحيح أنها كانت أول مرةٍ آخذ فيها إجازة، ولكن لم يقُل أحدٌ أنني ذاهبٌ للموت غير عائد، ولولا إلحاح عاصم علي لآخذ الإجازة حين رأى حالي قبل أسبوع لما أخذتها، قابلني أمام مكتبي وبيده جدول الأعمال المتراكمة، نقلتُ بصري بين المسودة التي يحملها وتلك الابتسامة التي يرسمها لأقول:
"علمتُ أنني سأندم على موافقتي..".
فتح الباب لي دون أن تغادره الابتسامة، فدخلتُ وعلقتُ معطفي وجلستُ إلى مكتبي الذي كان سطحه يلمع كالمرآة نتيجة عناية العمال المستمرة به في غيابي.
دخل السكرتير وأغلق الباب وتقدم نحو المكتب وهو يقول:
"مشاعرهم صادقة تجاه مديرهم.".
"مشاعرهم يقدمونها لعملهم وليس لي..".
"كيف كانت إجازتك؟".
أخذتُ نفسًا عميقًا، وتمتمتُ بإنهاك:
"كانت رحلةً طويلة..".
"رحلة! اعتقدتُ أنك لم تُغادر بيتك".
قلتُ وأنا أسند ظهري إلى الخلف بصوتٍ أشبه بتنهيدة:
"رحلةٌ إلى الماضي..".
أومأ بتفهم، وأمسك المسودة بيديه الاثنتين وأخذ يتصفحها فزفرتُ بتعب.
"وافق الفريق التقني الذي طلبته على تقديم دورات لتدريب العمال ويطلبون تقديم جدول لتنظيم المواعيد..".
"سيصلهم في حلول الأسبوع القادم، ماذا أيضًا.".
"يرغب رؤساء الأقسام بتنظيم اجتماعٍ عاجلٍ لتنسيق خطة العمل للموسم القادم..".
"سيُعقد هذا الاجتماع الثلاثاء القادم..".
أومأ وهو يضع الملاحظات وأكمل وهو يقلب الصفحة:
"يحتاج المستودع الجنوبي توسعةً ليستوعب قدرًا أكبر من البضائع لتزايد الطلب مؤخرًا".
أسندت مرفقي على ذراع الكرسي في انتظار أن ينتهي من سرد المهام.
"أرسل مدير شركة الآفاق للمنسوجات طلبًا للمشاركة في المشروع الذي سيقوم عليه مصنعنا لتأثيث دور أيتام..".
"هل يعلم أن المشروع غير ربحي؟".
"نعم، ويريد ردًا عاجلًا".
"أرسل له دعوةَ لإبرام عقد الشراكة".
"هناك شيءٌ أيضًا..".
"ألا يمكن تأجيله لوقتٍ لاحق؟".
قلتُ بتعبٍ وأنا أمسّد جبيني، أنهكتني تلك الدقائق المفضلة لدى عاصم، قال بهدوء:
"هل أصرف الضيف إذًا؟..".
"ضيف؟ من هو؟".
ابتسم وقال:
"شخصٌ من الماضي..".
"أدخِله".
"حاضر".
اعتدلتُ في جلستي محاولًا تخمين من يكون ذلك الضيف المزعوم، ونسيتُ للحظاتٍ الأعمال التي تتكالب علي من كل صوب.
خرج عاصم وعاد بعد دقائق والضيف خلفه، وطأت قدما ذلك الزائر للداخل، فانتصبتُ واقفًا وتجاوزتُ المكتب لأسلم عليه، آخر شخص توقعتُ أن أراه.. رافع.
صافحته وقبلتُ جبين من عددتُه بمقام أبي يومًا، وأشرت له نحو أريكتين متقابلتين من الجلد في طرف الغرفة، فجلس كل واحدٍ منا على أحدها تفصل بيننا طاولة صغيرة زجاجية، رفعتُ أنظاري لعاصم الذي ما زال واقفًا عند الباب:
"أحضر قدحي شاي من غير سكر..".
استأذن وغادر وابتسم رافع قائلًا:
"ما زلتَ تذكر ولعي بالشاي..".
"وكيف لا أذكر!".
"أنتَ أصيلٌ حقًا أيها الشاب..".
أمعنتُ النظر إليه، ازدادت التجاعيد عند طرفَي فمه وعينيه، لم تتغير هيئته كثيرًا، لم يغير حتى تصميم نظارته الدائرية، أعادتني رؤيته هكذا للماضي.
"كنتُ أفكر فيك قبل أيام..". قلت.
"حقًا؟ أنا أيضًا فكرتُ في الولد العاق الذي أشغله العمل عن التواصل مع أبيه..".
قال ذلك وأطلق ضحكةً عاليةً كتلك التي كانت لا تفارقه.
وصلت أقداح الشاي ووضعها عاصم أمامنا ورمقني بنظرة ذات معنى ثم غادر.
"لقد زرتُ المدينة مع شقيقتي للتنزه فقلتُ لم لا آتي لأراك، أرجو أن لا أكون قد أعقتك عن عملك..".
"إطلاقًا..".
حاولتُ كبت ضحكةٍ كادت تفلت مني حين تذكرت نظرات عاصم لي يطلب فيها أن أنتهي سريعًا.
"كيف حال مؤيد؟".
"بخير حال، عمله مزدهر كالعادة ورُزِق بمولوده الثاني قبل أشهر..".
"مباركُ له..".
تناول قدحه الذي ما زال بخاره يتصاعد، وقال وهو يرتشف منه:
"أتطلع لسماع نبأ مشابه من أحدهم..".
"لا تُكثر التطلع، سيضر هذا بصحتك..".
قهقه على تعليقي ظنُا منه أنني أمزح، ارتشف مرةً أخرى وأعاد قدحه للطاولة ليقول بنبرةٍ جدية:
"هل علمتَ أن سالم توفي؟".
أنت تقرأ
أشِقّاء
Romanceفي حُجرةٍ ضيقة... إضاءتها خافِتة... فتحَت الكتاب وبدأت بقراءة القصة لطفلها... كانت تقرؤها له دومًا... فتعلق بها وأحبها... فسمّى شقيقه على اسم بطلها... الذي عاش وحيدًا... ماتت أمه... فأضحى شقيقه يعني له كل شيء... كل شيء... كما قال يومًا... "ل...