٢٥) عِـش.

1.3K 176 134
                                    


...
..

مكث شهرًا في المشفى بعد أخذنا له أنا وكمال والد ندى، استفاق في غضون أسابيع،  ولكنه لم يكن في حالٍ تسمح له بمغادرتها، كان روتيني قائمًا على التنقل بين المكتب والمشفى، ولو عدت للبناية تقابلني ندى بوجهٍ مُحمرٍ وتسألني عنه بإلحاح، سمح له الطبيب المسؤول عنه بترك المشفى،  وحاول عبثًا بث الطمأنينة إلي في صوته وهو يقول أنه بحاجةٍ للراحة فقط..

لم يكن مرضه يُشبه الحمى التي كانت تصيبه غير مرة وتزول سريعًا،  شعرتُ أن الهوان يلتهم جسده،  ولكن لا حيلة لي ما دام الأطباء يُصرون أنه لا يحتاج سوى الراحة.

عاد للبيت وبقي ملازمًا فراشه،  تغيب عن مدرسته لأكثر من شهر،  وفاته الاختبار،  كان سينقلل للمرحلة الثانوية لو نجح فيه،  متخطيًا أولئك الذين كانوا يسخرون منه في الماضي،  ولكن الاختبار يمكن أن يعوض في العام القادم،  يكفيني أن أراه يتحسن ويعاود ممارسة نشاطاته بحرية كالسابق.
 
"كنتَ تُجهد نفسك في الآونة الأخيرة..". 
 
قلت له وأنا أضع صينية الطعام على المنضدة التي تُجاور سريره، جلست إلى جانبه وغرفت بالملعقة من إحدى الأطباق وقربتها منه. 
 
"افتح فمك..". 
 
"أستطيع أن آكل بنفسي..". 
 
قال وهو يرفع جسده بصعوبة ليجلس وظهره مستند إلى الخلف، فأعدت الملعقة للطبق وقلت بغضب مصطنع: 
 
"أنتَ تفضّل أن تطعمك هي إذًا..". 
 
ضحك بخفوت وهو يسمع تعليقي. 
 
"إنها لا تمنحني وقتًا لأرفض فهي تحشر الملعقة في فمي..". 
 
"إنها تفعل ذلك لتتباهى أمامي بأنها تطعمك وأنا لا..". 
 
كنا نتناوب أنا وندى للبقاء معه، هي تأتي إليه مباشرة بعد عودتها من المدرسة وتغادر عند المغيب، وأنا حين أعود من العمل وحتى أغادر في العاشرة صباحًا، لا تفصلني عنه سوى ساعات نومي الآخذة في التضاؤل. 
 
راقبته وهو يأكل بهدوء، ثم مررت بصري على أنحاء غرفته لتستقر على المكتبة التي أهداها له مؤيد قبل أشهر مضت ليضع فيها كتبه التي امتلأت بها غرفته، وفي إحدى أرففها استقرت مفكرة بغلاف بني من الجلد، كانت ملازمة له منذ فترة، ورغم فضولي حيالها لم أسأله عنها ولم أفكر بالاطلاع عليها. 
 
"لقد رأيتُ أمي..". 
 
قال بهدوء قاطعًا سلسلة أفكاري فأدرت بصري إليه، لأرى ابتسامةً شفافةً تحتضن شفتيه وهو ينظر للطبق النصف ممتلئ. 
 
"حلم؟". 
 
سألته، فأومأ وقال: 
 
"قالت لي شيئًا لكنني لم أستطع سماعها..". 
 
"هل أنتَ واثقٌ أنها هي؟". 
 
رفع رأسه إلي متمعنًا في وجهي ليقول بابتسامة: 
 
"كانت تشبهكَ كثيرًا..". 
 
أردف بعد لحظات: 
 
"هل تذكر حين سألتك عن والديّ قبل سنتين؟". 
 
أومأت، ما كنتُ لأنسى المرة الأولى التي سألني فيها عنهما، حين عادت ذكراي لتطفو على السطح بعد بقائها مدفونةً في أعماقي.
 
"لقد رأيت الحلم ذاته حينها، لكن الذي رأيته اليوم أوضح بكثير". 
 
"هل يمكن... أن هذا الحلم يأتيك كلما مرضت؟". 
 
لم يُجب، لكن سيماه كانت توحي بموافقته لكلامي، كان مرضه تلك المرة أقل وطأة، وتعافى منه في غضون أيام، هل يمكن أن ذلك الحلم يزداد وضوحا كلما ازداد مرضه؟ ما الذي يعنيه هذا؟

أشِقّاءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن