٢٦) المُفكـرة.

1.2K 169 64
                                    


..

كان يراقب صاحب اليدين الصغيرتين المنقبضتين كقوائم قطة، لا تجيد عيناه السوداوان إلا البكاء، وفمه الصغير منفرج الشفتين لا يقبل سوى الحليب وإلا ملأ الدنيا عويلًا، لطالما أثار ذلك الصغير فضوله وتساؤلاته، بهيئته الضئيلة تلك، يخشى أن يُفلت من بين يديه لو حمله، وضعفه الذي لا يُمكِّنه من حماية نفسه، لم تمضِ سوى أيام على مغادرة ذلك الصغير جسد أمه في حين غادرتها الحياة، ورغم شوقه العظيم إليها وجد في هذا الصغير سَلواه، قالت له أروى أن يُعطيه الحليب إذا بكى، وإن لم يقبله يلاعبه أو يهدهده لينام، فهذا الطفل لا يعرف سوى النوم والحليب، فكّر طفل الخامسة وهو يراقب حركة يديّ صغِيرِه، فكّر لأي قدرٍ هو عاجز ولا يُمكنه دفع الأذى عن نفسه، تساءل ما الذي سيفعله هذا الرضيع لو أُلقِي في العراء، وأفزعته تلك الفكرة،  فوثب إلى سرير الصغير،  وحوّطه بذراعيه خشيةً عليه من العالم، انزعج الصغير وتحرك بعجزٍ محاولًا تحرير نفسه من حضن أخيه، لكن هذا الأخير ضمه أكثر، ولم يعلم لمَ ذرفت عيناه الدموع، تمتم بصوتٍ لا يسمعه سواهما:

"آسفٌ لأنك ولدتَ من غير والدين، لقد ذهبا غير مكترثَين بك، أعدك أنني سأحميكَ وأحبك نيابةً عنهما.. ".

هدأ الصغير وكأنه فهم مدى صدق كلمات أخيه، غفى في دفئه وحبه، الذي لازمه طوال حياته القصيرة، سرعان ما كبر الصغير وصار يحبو ولا يقوده حبوه إلا لوجهةٍ واحدة، وجهةٌ لا ينتمي لغيرها، إلى شقيقه الذي يستقبله في حضنه، كانا يملكان غرفةً في بيت أروى عمة والدتهما، يقضيان فيها معظم وقتيهما، يتوسد الصغير حضن أخيه يريده أن يُلاعبه، أو يصنع له وجوهًا مضحكةً لا يمل من الضحك عليها، تساءل الأكبر ماذا يفعل ليُبعد الملل عن صغيره، أصبح الآن في السادسة واكتسب قوةً أكبر ليستطيع حمل أخيه الذي يوشك بلوغ عامه الأول، حمله ورفعه عاليًا بيديه، والصغير يضحك ويكركر حتى احمرت وجنتاه الممتلئتين، ضمه لصدره بحب وعانق الصغير رقبته، يحبه، يحبه، يحبه، لم يتوقع أنه سيُحب يومًا من يسلبه أمه، ولكنه مجرد طفلٍ بريء، لا حيلة له في الحياة، لا يملك في الحياة سواه، فكيف يتركه دون عنايةٍ وحب.

...

يصحو من منامه ليجد نفسه في مكانٍ غير مألوف، ويشعر بأنه نام وقتًا طويلًا جدًا، ربما مرت أربع عشرة سنة على نومه، كان رأسه متوسدًا فخذيها، مسحت على شعره بحنانٍ وشوقٍ لمن اشتاقت لرؤيته، حدق فيها بعينين متعبتين تقابله عيناها الحنونتان،

"لقد أبليتَ حسنًا يا صغيري.. ".

انتصب جالسًا ونظر لها بعمق ثم قال:

"هل تظنينه سيغفر لنا؟ ".

ابتسمت ابتسامةً ناعمة وهمست:

أشِقّاءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن