الفصل الرابع عشر
ذاكرة ميتة
لحسن الحظ ... كان المقهى المقصود يقع في الجانب الآخر من متجرها بحيث لم يكونا مضطرين للمرور أمام متجر بلال فيخرج ليستطلع ويزيد الأمور تعقيدا ...
ليس أنها لا تحب أن ترى ذلك الغضب الذي رأته في وجه أكرم الطويل في المرة السابقة التي رأى فيها بلال في متجرها و مدى اهتمامه بها .. إلا أنها حقا لم تكن في مزاج يسمح لها بهذا النوع من الانتصار الآن ... لقد كانت بحاجة لأن يمر هذا الغداء وبأسرع وقت ممكن .. إذ أنها ما عادت تستطيع التراجع الآن بعد موافقتها وخروجها برفقته .. .. كل ما كانت تأمله هو أن تعود بسرعة إلى متجرها بعيدا عنه ...
بعيدا جدا جدا عنه ...
المقهى كان مزدحما نوعا ما .. إلا أنهما تمكنا من العثور على طاولة في الزاوية ... جلست هي مانحة ظهرها لباقي رواد المقهى .. بينما تبرع هو بالذهاب وإحضار غدائهما واختياره لهما بنفسه بما أن المقهى كان يعمل على نظام اخدم نفسك ...
راقبته من وراء كتفها وهو يبتعد .. عيناها تعجزان عن التوقف عن النظر إليه .. للحظة .. للحظة صغيرة عابرة .. تذكر جزء دفين منها بأنها أحبت يوما كل ما فيه .. بأنها قد عشقته .. روحا وجسدا .. بأنه قد كان نصفها الآخر ...
القبضة التي اعتصرت قلبها مسببة ذلك الألم المألوف .. أثارت ذعرا هستيريا داخلها ... رباه .. لقد ظنت حقا بأنها قوية كفاية لتخوض هذه المعركة ... إلا أنها كانت مخطئة .. وألمها هذا الذي فاجأها على حين غرة .. كان أكبر دليل على هذا ..
لم تفكر عندما تناولت حقيبة يدها ووقفت .. متخبطة .. مضطربة .. سارت مخفضة رأسها بين الموائد نحو المخرج ... إلا أنها وقبل أن تصل إلى الباب .. سمعت صوتا يناديها .. لا .. لم يكن يناديها باسمها هي ... بل باسم قمر .. إلا أن شمس التي تعرفت على الصوت لم تشك للحظة بأنه كان يعنيها هي بنادئه ...ممسكا بالصينية التي حملت بضعة أطباق خفيفة من النوع الذي يقدمه المقهى .. استدار ليجفل عندما رأى المائدة حيث تركها في انتظاره خالية ...
لقد رحلت .. أتراها قد رحلت حقا .. لماذا ؟؟
بحثت عيناه عنها متجهتين تلقائيا نحو الباب وهو يشعر بشحنات الغضب والإحباط تتعاظم داخله .. لتختفي فور أن وقعت عيناها عليها وهي تقف على بعد متر واحد من الباب ... لا ... هي لم ترحل ............ بعد ..
الراحة التي شعر بها ... لم تستمر طويلا وهو يدرك بأنها لم تكن تقف وحيدة ... وبأن شابا في مثل عمره تقريبا كان يقف إلى جانبها .. يتحدث إليها بجدية .. بينما اعتلى وجهه احمرار خفيف ..
لم يدرك أكرم بأنه قد وضع الصينية فوق منصة البيع من جديد حتى وجد نفسه يسير نحوها .. كل خلية في جسده مشحونة بالغضب .. ورغبة عارمة بضرب ذلك الرجل الذي مال نحوها قليلا كي يمنح حديثهما بعد الخصوصية .. فقط كي يؤكد له بأنها تخصه هو ...
لم يكن قد وجد فرصة كي يستوعب غيرته الجديدة والغير متوقعة عندما وصلت كلمات الرجل إليه .. بصوت خافت نوعا ما .. دون أن يلاحظ أكرم .. أو تراه هي وقد كان ظهره إليها :- أعرف بأنك على الأرجح لا ترغبين بالتحدث إلي ... وربما لا تطيقين النظر إلى وجهي .. إلا أنني لم أستطع منع نفسي من التحدث إليك .. ولو لمرة واحدة .. أقدم لك فيها اعتذاري .. ثم لا تضطرين لرؤيتي بعدها أبدا ..
لم تمنحه ردا .. جزء من مقدمة شعرها انسدل فوق جانب وجهها الذي كان مرئيا له فأخفى تعابيرها .. إلا أن أكرم كان قادرا على الإحساس بتوترها ... بتشنج جسدها النحيل ...
فجأة ... تدخله الطارئ والضروري ... لم يعد ضروريا للغاية ... إذ أن جزءا منه أراد أن يعرف هوية الرجل الذي سبب لها كل هذا التشنج ... لقد كانت فرصته .. كيف يعرف شيئا عن ذاك الجزء منها والذي ما كان ليعرفه من تلقاء نفسه .. أو حتى بمساعدتها ..
:- لقد .... لقد سمعت بأنك متزوجة منذ سنوات ... مبارك ... أنا حقا سعيد لأجلك ..
متزوجة منذ سنوات ؟؟؟ من الواضح أن الرجل لم يكن متابعا متحمسا لأخبارها ..
:- قمر .... أرجوك .... هلا سامحتني ؟؟؟
رفع أكرم رأسه بحدة وصدمة سماعه الاسم ينسيه حذره ... إلا أن أحدهما لم يلحظ حركته المفاجئة ... انتظر بتوتر أن تتكلم أخيرا .. أن تصحح معلومات الرجل .. أن تخبره بأنها ليست قمر .. إلا أنها لم تفعل ..
:- إنها فعلة شمس .... أنت تعرفين بأنها وحدها المذنبة .. هي من أغواني .. هي من دفعني لإيذائك ..
شحب وجه أكرم وهو يدرك أخيرا ما يحدث .. نظر إليها .. إلى الطريقة التي كانت قبضتاها متكورتين بقوة حتى ابيضت سلامياتهما .. الرجل الغبي ... كيف له ألا يدرك بأنه كان يتحدث طوال الوقت إلى شمس .. كيف له ألا يتمكن من التمييز بين شخصين مختلفين تماما ..... بالضبط كالشمس والقمر ..
:- هذا ليس عذرا لي بالتأكيد ... أنا كنت ضعيفا آنذاك ... وقد أغراني ما أظهرته لي من اهتمام ... إلا أنني أدركت فيما بعد كما أدركت أنت .. بأنها كانت تتسلى فقط ... بأنني كنت تحدي لها لا أكثر .. أنت تعرفين هذا لأنها رمتني ورائها فور أن أدركت بأنك لن تقبلي أبدا بأن تري وجهي مجددا ..
ثم تابع بازدراء وحقد شديدين :- هي شقيقتك ... إلا أنني لم أر في حياتي أكثر منها خبثا ولؤما .. أنا أستغرب أنكما تحملان الدماء نفسها بين .....
لم يستطع أكرم الاستماع إلى المزيد ... خلال لحظات كان قد وصل إليهما .. ودس نفسه بينهما وهو يقول مواجها إياها :- آه ... ها أنت هنا يا قمر ... لقد كنت أبحث عنك ..
رفعت عينيها إليه مجفلة .. لتلتقي نظراته بنظراتها التي هزته الدموع الحبيسة التي كانت تجاهد كي تمنع نفسها من فضح وجودها .. لقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها لمحة ضعف منها ...
لا ... الثانية .. إذ كانت المرة الأولى هي تلك التي أخبرته فيها بأنها قد أحبت أركان ... لم تحببه هو .. وقد كانت رؤية هذا الضعف النادر فيها دائما محفزا لكل غرائز الحماية لديه نحوها ...
دون أن ينتظر منها ردة فعل على تدخله ... التفت نحو الرجل ... يرمقه ببرود جعله يتراجع وهو يقول بارتباك :- أممم .. أهلا ... أخمن أنك زوج قمر .. أنا نبيل .. صد .... أه ... شقيق صديقة قديمة لها ..
لم يحاول أكرم أبدا مصافحة اليد التي امتدت نحوه ... بل قال بجفاف :- تشرفنا ... بالإذن .
أحاط كتفيها بذراعه ... وأرغمها بحزم على السير مبتعدة عائدة معه إلى الداخل نحو طاولتهما .. سارت معه خطوات قليلة قبل أن تثبت قدميها على الأرض وكأنها قد أدركت فجأة ما تفعله .. وقالت بصوت مكتوم :- أريد الخروج من هنا ...
قال بصبر :- سنفعل ... بعد أن نتناول غدائنا ..
:- لست جائعة ... وأريد المغادرة ...
:- شمس ... إن رآك ذلك الرجل تخرجين سيلاحظ بأنه قد تسبب بإزعاجك وربما يدرك بأنه كان مخطئا وأنه كان يتحدث منذ البداية إلى شمس ....
ملاحظته جمدتها مكانها .. فتابع بحزم لطيف :- هيا ... سنتناول الغداء ... ثم أعيدك مباشرة إلى متجرك .. لن تضطري لقضاء دقيقة واحدة إضافية معي ... أعدك ..
أنت تقرأ
عن الحكيم إذا هوى(مكتملة)
Romanceرواية بقلم المبدعة blue me الجزء الأول من سلسلة في الغرام قصاصا حقوق الملكية محفوظة للمبدعة blue me