الفصل السابع عشر
منذ بداية الزمان
:- بشرى .... أنا خائفة ...
كانت قمر تجلس إلى جانب بشرى في غرفة الانتظار في عيادة طبيبة تزورها للمرة الأولى .. طبيبة سمعت عنها الكثير .. وأكد جميع من جرب التعامل معها خبرتها وجديتها ..
:- قمر ..... هلا تمالكت نفسك .. ماهي إلا طبيبة أخرى .. وأنا أعتقد بأنك قد قابلت من الأطباء خلال السنوات الأربع الماضية الكثير ..
هزت قمر رأسها وهي تراقب الممرضة وهي تنادي الاسم التالي على قائمة الانتظار .. فتنهض امرأة بطنها متورمة أمامها وقد بدت في المراحل الأخيرة من الحمل .. بينما تجر بيدها طفل في الرابعة من عمره .. وقالت بتوتر :- هذه المرة مختلفة .... إنها مختلفة .. وأنت تعرفين هذا ...
تنهدت بشرى وهي تلتفت كي تواجه أقرب صديقاتها مباشرة وهي تقول :- قمر .... اهدئي ... أريدك أن تتوقفي عن القلق للحظة حتى تقابلي الطبيبة على الأقل ... وفي الآن ذاته ألا ترفعي سقف آمالك كثيرا ..
بشرى كانت تعرف قمر أكثر مما ينبغي بحيث تعرف بأنها لا تتعاطى جيدا مع الصدمات أو خيبات الأمل .. في الآن ذاته .. مجيئها إلى هنا .. وبحثها في أي أسباب قد تمنعها من الحمل .. مهم إلى حد ضرورة تجاهلها مخاوفها هذه ...
همست قمر :- ماذا إن كنت عاجزة عن إنجاب طفل لخالد ؟؟
لحسن الحظ ... كانت المريضة السابقة قد خرجت ... مما دفع المريضة لدعوة كل من قمر وبشرى لرؤية الطبيبة أخيرا .. تنفست بشرى الصعداء ... وسارت مع قمر إلى داخل الغرفة ممتنة للمقاطعة .. إذ أنها لم تكن تمتلك أي جواب عن سؤالها هذا:- أهذا ما أدفع لك راتيك لأجله ؟؟؟
انتفض ريان مجفلا عندما أخرجه صوت أبيه المرتفع عن تركيزه التام في الكتاب الذي كان مستغرقا في قراءته .. حتى كاد يسقط من مقعده على الأرض لولا أن استعاد توازنه بمعجزة ليجلس معتدلا .. مغلقا الكتاب فوق المكتب الأثري الذي تصدر معرض التحف الذي يعمل فيه ريان منذ سنتين حتى الآن مع أبيه ... وقال متنحنحا :- أبي ... ما الذي تفعله هنا ؟؟؟
بنظرة واحدة من أبيه ... نهض من الكرسي الثقيل المحفور .. كي يجلس عليه والده .. بينما ظل واقفا في انتظار الرد على سؤاله والذي لم يتأخر كثيرا :- ما الذي أفعله هنا ؟؟؟ ومنذ متى تحاسبني يا ولد على مجيئي للاطمئنان على سير العمل هنا ؟؟؟ وقد كنت محقا في قلقي وحاجتي للحضور بما أنني وجدتك ضائعا في عالمك الخاص إلى حد أنك لم تنتبه للرجل الذي كان يتجول عند دخولي داخل المتجر وعلى وجهه ترتسم نوايا السرقة .. لقد ضبطته فعليا وهو يحاول دس شمعدان الفضة ذاك داخل سترته لو لم يرني فيتظاهر بأنه يتفحصه لا أكثر ..
عبس ريان ... دون أن يقول أي شيء .. إذ كان أذكى من أن يتهم أبيه باختلاق القصة .. تمتم معتذرا :- أنا آسف ... لقد ... أمممم ... لقد كنت شاردا فحسب ..
تناول والده الكتاب الذي وضعه ريان قبل لحظات فقط فوق سطح المكتب .. ومط شفتيه ازدراء وهو يقول :- شاردا ؟؟؟ أنت كنت ضائعا كالعادة في عالمك البعيد تماما عن الواقع ... لا أفهم كيف سمحت والدتك لكل منك وشقيقك أكرم أن تفسدا عقليكما بهذه الكتب التي تأخذ الكثير من وقتكما وطاقتكما ... لهذا السبب .. يعيش كل منكما في عالمه الخاص .. على الأقل ... شقيقك لديه عمله الناجح ... أما أنت .. فقد كادت أموالي تسرق تحت ناظريك دون أن تدرك هذا حتى ...
قبل أن يفصح ريان عن انزعاجه من توبيخ والده ... سأله بحدة :- أين راضي ؟؟؟
راضي كان الرجل الذي يأتمنه والده حقا عل المتجر ... الرجل الذي كان ريان يعتقد حقا بأن والده يدفع له راتبا مضاعفا مقابل مهام المربية التي يعرف بأن والده قد كلفه بها نحوه ...
تململ متأففا من معاملة أبيه التي لا تنتهي له كطفل صغير .. ثم قال بجفاف :- اضطر للخروج بسبب طارىء عائلي ... وعلى الأرجح لن يعود للغد ..
اتسعت عينا أبيه وهو يقول :- تركك أنت مسؤولا عن المكان ؟؟؟
ماذا تراني ... معاقا لا يصلح لإدارة متجر صغير للتحف ؟؟
لقد تربى ريان فعليا هنا ... بين جدران هذا المتجر ... كان أبيه غالبا ما يمر لأخذه بعد المدرسة ليقضي الأمسيات هنا ... خاصة وهو عاجز عن القدوم لرؤيته في البيت بعد انفصاله عن والدته ... أحيانا كان هذا يتم بموافقة والدته ... وأحيانا كان ينتهي بشجار هاتفي عبر الهاتف دائما ما كان ينتهي بوالده وهو يعيده صاغرا إلى والدته ...
عندما يتذكر ريان تلك السنوات ... كل ما كان يعلق بذاكرته ومشاعره هو التمزق الذي كان يحس فيه آنذاك وهو ينتقل بين كل من والديه ....
أشار له والده قائلا :- اجلس ... لقد جئت لأتحدث إليك على أي حال ...
هه ... هذا يعني أنك لم تأت في حملة تفتيشية بغية الإمساك بي مقصرا في العمل !!
جلس ريان أمام أبيه متوترا ... متأكدا بأن أي حديث من القلب للقلب مع والده لن يكون سببه جيدا ... مال والده إلى الأمام مسندا مرفقيه إلى سطح المكتب وهو يقول :- كم عمرك ؟؟
منع ريان نفسه من أن يدير عينيه بمعجزة ... قال بسأم :- أنا في السادسة والعشرين وأنت تعرف هذا ...
هز نعمان الطويل رأسه موافقا وهو يقول :- أي أنك رجل ناضج أخيرا .. وما عدت ذلك المراهق المتخبط الذي كنته في الماضي ...
هل كان مراهقا متخبطا ؟؟؟ غريب .... إذ لا يذكر ريان أي تغير في شخصه منذ كان في السادسة عشرة وحتى الآن ... مما يعني أنه استحال لا أكثر من مراهق متخبط ... إلى رجل متخبط ...
لكن ..... من هو ليناقش والده الأكثر خبرة منه في أمور الحياة ؟؟؟؟
:- وقد حان الوقت كي تفكر بمستقبلك ...
آه .... مستقبله مجددا .... شغل أبيه الشاغل ... منذ تخرج ريان من الجامعة ووالد يصر على ملاحقته من مكان إلى آخر مصرا على أن يجد له عملا ... لم يترك متجرا من متاجره إلا وأرغمه على العمل فيه .. لم يترك صديقا من أصدقائه إلا ورمى ريان على كاهله أملا في أن يتعلم منه صنعة ما ... حتى لقمان .. وظف ريان لديه لفترة في صالات مصنع الصلب في اقتراح منه كي يقسي عظامه بالعمل الشاق كما سبق وفعل أكرم .. وفي النهاية ... وبعد أن يئس أبيه تماما من أن يجد ريان نفسه ... ألقاه هنا عله يجد نفسه في حبه الأول .. الآثار والتحف ..
:- وقد كنت أتحدث إلى والدتك قبل أيام ....
هاه .... تتحدث إلى والدتي !!! ... ومنذ متى ؟؟؟
:- وقد وافقتني بأن الوقت قد بات مناسبا كي تستقر ..
جمد ريان وهو يحدق بأبيه والكلمات تأبى أن تحمل أي معنى لعقله ... فأوضح أبوه :- أنت ضائع منذ فترة .. ومتخبط .. ومتهور .. وما من شيء يمكن أن يمنحك الاستقرار كالزواج ...
وجد ريان نفسه يضحك فجأة وبصوت مرتفع قبل أن يدرك بأن والده لم يكن يمزح .. تبا .. لقد كان جادا ..

أنت تقرأ
عن الحكيم إذا هوى(مكتملة)
Romanceرواية بقلم المبدعة blue me الجزء الأول من سلسلة في الغرام قصاصا حقوق الملكية محفوظة للمبدعة blue me