الفصل الثاني والثلاثون

12.1K 303 10
                                    

الفصل الثاني والثلاثون

توقف لقمان عن الكلام عبر هاتفه المحمول وهو يرفع رأسه فجأة محدقا في بحر التي كانت تنزل الدرج الواصل بين الطابق الأرضي والأول ... ترتدي ملابسها كاملة .. وتحمل حقيبتها الصغيرة في قبضتها التي أظهر ابيضاض سلامياتها ما أخفته ملامحها الجامدة من توترها ..
أنهى المكالمة على الفور وهو يخاطبها قائلا بصرامة :- ما الذي تظنين نفسك تفعلينه ؟؟
قالت بثبات ... دون أن تهزها صرامته :- أعود إلى البيت .. من المفترض برحلتي أن تنتهي اليوم .. نورا تنتظرني قبل المساء ..
توتر جسده .. وتصلب فكه وهو يقول :- اتصلي بها ... وأخبريها بتأجيلك إياها ..
قالت بخشونة :- أنا لن أكذب على نورا ...
:- أنت تكذبين عليها منذ أسبوع ... هي تظنك في رحلة عمل وهمية إن كنت قد نسيت ..
شحب وجهها تماما .. إلا أنها حافظت بإرادة قوية على ثبات ملامحها وهي تقول :- رحلة وهمية بالنسبة للجميع إلا أنا ... صدق أو لا تصدق ... وأنا لا أهتم إن كنت قد صدقت .. أنا لم أكذب على خالتي بكلمة عندما خرجت من بيتها قبل أسبوع .. ربما عليك البحث عن أشخاص غيري تعرف يقينا في جزء تأبى أن تصدقه من نفسك ميلهم لإمطارك بالأكاذيب ..
قال بقسوة :- ربما عليك أن تكوني أكثر احتراما وأنت تلمحين بالكلام حول ربة عملك ...
:- هي لم تعد ربة عملي إن كنت قد نسيت .. ولا ... أنا لا أدين لها بأي احترام .. كونها من لفق لي التهمة التي أوقعتني بين يديك دون أن أعرف دوافعها ... أرجوك .. أنت وعدتني بالعودة إلى البيت بعد انتهاء الأسبوع ... أنت لن ترغب بأن يشك أي أحد بعلاقتك في اختفائي ...
أدركت بأنها قد شتتت العناد الذي كان يتصاعد داخله بإشارتها إلى كشف الآخرين لعلاقه بها .. ابتلعت مرارتها بإرادة من حديد .. وهي تقول بصوت مكتوم :- إن لم تجد لي من يعيدني إلى المدينة عدت بمفردي .. أنت لا تستطيع إبقائي هنا إلى الأبد ...
وجهه كان مظلما ... قاسيا ... عيناه السوداوان عصفتا بالكثير .. إلا أنه قال في النهاية بصوت بارد :- فلتمنحيني عشر دقائق .. وسأوصلك بنفسي ..
راقبته وهو يسير مبتعدا ... عائدا إلى مكتبه ... فكادت ساقاها تخذلانها فوق الدرج وهي تفكر بأنها قد نجحت في مغادرة عرين الأسد ... ماذا عن لملمة ما دمره من حياتها .. ما انتزعه منها وحطمه في إحدى زلاته النادرة ... كيف لها أن تتخطى هذا ؟؟؟ كيف ؟؟










لدقائق ... ساد الصمت بينهما في الطريق وداخل سيارته ... بينما يجلس إلى جانبها على المقعد الخلفي ... يراقبها وهي تبتعد عنه إلى أقصى حد ممكن .. ملتصقة بالنافذة ... تحدق عبرها إلى الفضاء وكأنها لا تصدق وصول لحظة ابتعادها عنه ... من يرى هذه المسافة اللا نهائية بينهما ... لا يصدق أنها كانت قبل ساعات قليلة فقط ... بين ذراعيه ... تذوب تحت لهيب لمساته .. عاجزة عن الاحتفاظ بتباعدها هذا ... ربما هو أنكر هذا أمامها ... إلا أنه ومنذ ليلة الأمس لم يتوقف عن التفكير في اللحظة التي تقفز بها أمامه مطالبة بالرحيل وقد انتهى الأسبوع الذي أخبرها بأنه سيناله منها كاملا .. في اليومين الأخيرين ... كان يراقبها وهي تستحيل إلى كتلة من المشاعر المتوترة ... بشرودها الدائم ... بانتفاضها كلما اقترب منها أو فاجأها دون أن تدرك ... كان شيء منها يتبخر أمام عينيه دون أن يدرك كيف يمسك به .. أو يحتجزه بين يديه .. كان يعرف بأنه حين يحين الوقت ... فإنه لن يتمكن من إرغامها على البقاء معه ... لا فقط لأجل السبب الذي واجهته به بدون أي مواربة .. خوفا من اكتشاف الآخرين لعلاقتهما .. بل أيضا لأجلها .. مدركا حاجتها الماسة للابتعاد عنه لفترة من الزمن ... فترة قصيرة لا أكثر ... إذ أنه ما زال غير مستعد لإخراجها من حياته ... لا الآن ... ولا في أي وقت قريب ..
أحس بالتوتر الجسدي المألوف في كل مرة كان يفكر فيها بعدم استعداده لإخراجها من حياته ... فقال مشتتا توتره هذا :- بم ستفسرين لعائلتك تركك لوظيفتك لدى آمال ؟؟؟
بالكاد تمكن من ملاحظة الاهتزاز الطفيف في كتفها استجابة لحديثه المفاجئ معها ... بينما قالت دون أن تنظر إليه :- خالتي تعرف بالفعل بأنني أنوي ترك العمل فور عودتي .. لذا ... هي لن تستغرب بدئي البحث عن وظيفة أخرى منذ الغد ..
قطب قائلا :- لماذا كنت تنوين ترك العمل ؟؟
التفتت دون أن تنظر إليه قائلة بصوت مكتوم :- أنت تعرف كيف يفكر اللصوص ... نحن نفضل عادة ترك مسرح الجريمة فور ارتكابنا لها .. ظننت هذا واضحا ..
أطلقت شهقة مكتومة عندما أمسك بأعلى ذراعها وجذبها بدون رقة كي تقترب منه وتنظر إليه وهو يقول شادا على حروفه :- من الأفضل أن تحاذري أثناء مخاطبتك إياي يا بحر .. أنا أبدا لن أتسامح مع قلة احترامك ..
قالت بصوت مختنق وهي تنظر إلى عينيه العاصفتين بقهر :- وما الذي ستفعله إن لم أستمع إليك ... أنت أخذت مني بالفعل كل شيء .. فلم يتبق لدي ما تستطيع تهديدي به ...
قال بلهجة خطرة :- لا تستهيني بما أستطيع فعله يا بحر ...
قالت رافعة ذقنها ... عيناها تبرقان بدموع حبيسة :- أنا لا أستهين بما تستطع فعله ... أنا لا أهتم به لا أكثر ..
كز على أسنانه وأصابعه تزداد قسوة وهي تضغط على لحمها ... دون أن تظهر أي ردة فعل على وجهها الشاحب .. هذه امرأة تعلمت بالطريقة الأصعب بأن الألم الجسدي ... هو أخف أنواع الألم احتمالا ..
قال بجفاف :- عدم اهتمامك هذا لا يمت للحكمة بصلة ... أؤكد لك ... ما من داعي لبحثك عن عمل .. أنا سأهتم بك ..
:- لا ... أنا لا أريد منك شيئا ... احتفظ بأموالك .. وكل ما لديك .. أنا أستطيع كسب رزقي بنفسي ..
قال بغضب :- وأنا أرفض السماح لك بالعمل تحت رحمة رجل آخر ...
قالت باستهزاء :- لماذا ؟؟؟ أتخشى أن أقع في مأزق آخر تعجز عن إخراجي منه ؟؟؟ أم أنك تخشى أن يحصل رجل آخر على ما حصلت عليه ... لقد قلتها لي بنفسك حين جئت إلى في مركز الشرطة .. إن كان علي أن أستحيل إلى عاهرة ... فليكن هذا على يديك .. ما المهم فيمن يستخدم هذه العاهرة من بعدك ؟؟
:- اخرسي ...
كان على لقمان أن يذكر نفسه بصعوبة بوجود السائق على بعد ما يقل عن متر عنهما .. الرجل يعمل لديه منذ ما يقارب الثماني سنوات .. وقد رأى الكثير خلال عمله كسائق شخصي للقمان .. إلا أنه أبدا لن يرغب بأن يشهد الرجل أكثر مما يجب من حواره مع بحر ..
عندما تحدث مجددا ... كان صوته خافتا .. بحيث لا يسمعه سواها .. إلا أن لهجته الجليدية بثت رعدة بين أوصالها وهو يقول :- لن يلمسك ... أو ينظر إليك .. أو يقترب منك رجل آخر يا بحر .. أتفهمين ما أقول ؟؟
قالت بخفوت مماثل .. رافضة أن تسمح له بإرهابها :- أنت لا تملك أن تفرض علي ما لا أريده .. لقد خرجت من قفصك الذي احتفظت بي داخله لأسبوع كامل .. دعني أرى كيف ستعيدني إليه الآن دون أن تقدم تلك التنازلات التي تتمسك بها تمسك الغريق بقشة تنقذه ..
قال من بين أسنانه :- أنت تتجاوزين حدودك
:- أنا لا أخافك .... لقد سبق وأخبرتك ... أنت تخاف ما تجهله فحسب ... وطريقي معك بات واضحا تماما كهذه الشمس الساطعة خارج هذه السيارة ... أنا امرأة لا تتزوج بها ... إلا أنني أيضا امرأة لن ترغب بأن يعرف الناس بها كعشيقة لك .. سمعة لقمان الطويل ومكانته المرموقة تأتي أولا ... صحيح ؟؟
لقد كانت محقة ... إلا أن رمي كلماته نفسها في وجهه كانت أشبه بالصفعة تأثيرا عليه ... شحب وجهه وهو يرى المرأة التي كانت أشبه بالقطة ضعفا ونعومة ... المرأة الهشة التي توقع نفسها دائما في المشاكل دون إدراك منها ببراءتها تستحيل على يديه إلى قطة شرسة ... جريحة وخائفة .. تشهر أنيابها في وجه خصوم لا قبل لها بمنازلتهم .. إلا أنها لا تملك إلا أن تواجههم ...
أنفاسها كانت قد ازدادت سطحية وكأنها تكافح بصعوبة الانفجار بالبكاء وهي تقاوم قبضته هامسة :- من الأفضل أن تتركني أنزل هنا .. وسأتابع الطريق إلى البيت وحدي ... أنت لا ترغب بأن يراني أحد وأنا أترجل من سيارتك ..
قال بصوت مكتوم :- سأنزلك على بعد منعطف من مكان إقامتك ... في هذه المرحلة ... أنا لا أهتم بمن يرانا معا .. إذ أنني أبدا لن أسمح لك بالسير وحدك في حالتك هذه ..
لم تقل شيئا ... إلا أن لسان حالها كان يقول مستنكرا ... وكأنك تهتم ... وقد كان يهتم ... يهتم كثيرا .. وأكثر مما ينبغي أيضا ... لقد أرادها ... إلا أنه لم يرغب أبدا بأن يسبب لها كل هذا الألم الذي كان يراه وهو يمزق روحها أمام عينيه ... وكأن الغيبوبة التي كانت تعيش فيها معه خلال ذلك الأسبوع قد تلاشت فور عودتها إلى الواقع .. وإدراكها لحقيقة ما حدث ... وتأثيره على حياتها التي مآلها أن تتابعها بدونه ...
فور أن توقفت السيارة بالفعل أمام منعطف من بيتها ... ترجلت من السيارة دون أن تقول أي شيء ... أو تنتظر منه أن يقول أي شيء ... راقبها تختفي وهو يشعر بقبضة تعتصر قلبه .. وتزداد قسوة لحظة بعد لحظة .. ليدرك بأنه أبدا لن يخفق بعد الآن بالطريقة نفسها ... أبدا ...









عن الحكيم إذا هوى(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن