الفصل الخامس والعشرون

11.6K 287 9
                                    

الفصل الخامس والعشرون

وحيدة تماما ... وإلى الأبد

:- دعها تذهب وإلا كسرت يدك في التو واللحظة أمام كل الموجودين في هذه الحفلة ...
صوت ضياء الهادر من ورائهما كان مجفلا لبحر التي التفتت ليقع بصرها فوق وجهه الغاضب .. والذي بدا في تلك اللحظة أكبر بكثير من سنوات عمره الثماني عشر .. أصابع كنان اشتدت حول معصمها بينما صوته يقول بخشونة :- لا تتدخل فيما لا يعنيك .. أنت تقاطع حديثا شخصيا ..
قسا وجه ضياء ... وفاح العنف من جسده الضخم وهو يقول بصوت كفيل بتجميد الدماء في عروق أي شخص يمتلك شيئا من البصيرة :- مما أراه من وجه ابنة خالتي ... هو حديث شخصي ترفض تماما الخوض فيه ..
على ما يبدو ... كان كنان يمتلك بالفعل شيئا من البصيرة .. إذ سرعان ما استجاب للتهديد العنيف في لهجة الفتى الذي كان ربما لا يفوقه طولا ... وقد ورث كنان قامة آل طويل الغير عادية .. إلا أنه قطعا يزيد عنه ضخامة .. وأيضا إلى إشارة ضياء لقرابته لبحر ... سحبت بحر يدها من بين أصابع كنان فأفلتها على الفور وهو ينقل بصره بين كل منهما بشيء من التوتر واليأس .. قبل أن يقول لها بصوت أجش :- تذكري ما قلته لك يا بحر ... أنا آسف لما فعلته بك من قبل ... وأعرف بأنك لن تغفري لي بسهولة .. إلا أنني أهتم لأمرك .. وأبدا لن أؤذيك كما ينوي هو أن يفعل ..
يد ضياء أمسكت بمرفق بحر لتجذبها إليه وهو يقول بخشونة :- هيا يا بحر ... لنذهب من هنا ..
دون أن تلقي أي نظرة أخيرة نحو كنان .... سارت مبتعدة برفقة ضياء ..









ساد الصمت لدقائق طويلة داخل سيارة أدهم التي كانت تقطع الطرقات تحت جناح الليل لا يكسر ظلمته إلا مصابيح الإنارة الشاحبة ... كان هو يقود ... عيناه مركزتان في الطريق أمامه ... تهربان بين الحين والآخر لتنظرا إلى علياء الساكنة تماما إلى جانبه ... وجهها ملتفت نحو النافذة ... يكاد يتبين كل تفصيل من تفاصيل وجهها الجميل المنعكس على الزجاج ..
لم يكن يخطط حقا للتحدث إليها عندما قرر حضور الحفل الذي عرف بأن شركة آمال الطويل تقيمه .. بطرقه الخاصة .. تمكن من الحصول على بطاقة دعوة من أحد معارفه .. لهدف واحد فقط .. وهو النظر إليها من بعيد ... وقد مرت فترة طويلة منذ رآها آخر مرة في أوج تألقها .. أنيقة كالأميرة ... بقامتها الشامخة .. وسمرة بشرتها التي كانت تجننه بملمسها المخملي .. وقوامها الذي لا تشوبه شائبة .. والذي خلق كي يتحلى بأجمل وأثمن الثياب ...
لطالما كان فخورا بها ... عارضة الأزياء الخاصة به ... تلك التي لا يعرف غيره ما وراء مظهرها الشامخ المترفع من قلة ثقة بالنفس ... ما وراء قوتها الظاهرية من ضعف وهشاشة .. ما وراء ثباتها من عدم استقرار وتذبذب ...
قد يبدو الأمر انحرافا ... إلا أنه أحبها بالذات لنقاط ضعفها هذه ... أحب كثيرا أن يكون هو دعامها ... ركيزتها التي تستند إليها في مواجهتها للآخرين .. أن يكون مصدر ثقتها بنفسها في تأكيده الدائم على مدى إعجابه بها ... على مدى جمالها وتألقها .. أما ما كان يعذبه أكثر من أي شيء آخر ... هو أن يراها كما فعل اليوم ... تتخبط في اضطراب دون أن يمتلك الحق للذهاب إليها .. ومنحها الدعم الذي تحتاج إليه ...
هي لم تعد زوجته ... رباه .. لكم كانت هذه الحقيقة تقتله ... أن يكون قد خسرها في لحظة جنون منه عندما فقد كل تحكمه بنفسه .. عندما ترك العنان لغضبه .. لإحباطه .. لغيرته القاتلة والتي كانت تتعاظم شيئا فشيئا منذ اكتشف بأنها كانت واقعة طوال حياتها في حب ابن عمها الأكبر دون أن يدرك حبها هذا أحد .. أن يدرك بأنه أبدا لن ينال ذلك المكان من قلبها الذي احتله لقمان الطويل دون أي وجه حق ....أنه أبدا لن يكون حبها الأول .. أو حتى حبها الأخير ...
لقد فقد عقله في لحظة ضعف ... وجرحها كما لم يتخيل نفسه قط أن يفعل ... وجه نحوها كلمات كان شاهدا على وقعها عليها في شحوبها التام وصدمتها وهي تستمع إليها تخرج من فمه .. كلمات انتهت بها تصفعه فاقدة ثباتها ... وبه هو يصفعها في المقابل ...
لقد خسر المرأة التي تحب ... لا لشيء ... فقط لأنه فقد حكمته للحظة واحدة ... وكيف لا يفعل .. وقد انهارت ممالك كاملة نتيجة فقدان رجالها كل ما لديهم من حكمة بسبب امرأة ...
لقد خسرها ... لأنه لم يمنح نفسه الوقت اللازم كي يأتي باستراتيجية ناجحة ينتزع فيها لقمان الطويل من قلبها ... لقد تصرف بطفولية ... بالضبط كطفل انتزع منه أحدهم حلواه المفضلة دافعا إياه لركل الأرض ورفس ألعابه المفضلة من حوله احتجاجا ورفضا ...
عندما طلبت منه الطلاق ... لم يحاربها كثيرا .. إلا أنه تعهدها بأنه سيعود .. مدركا بأنه لن يتمكن من ترميم ما فعله دون أن يمنحها الوقت الكافي كي تشفى ... وأيضا كي تدرك عقم أحلامها في الحصول على ابن عمها بعيد المنال ... وربما ... ربما ... تتحسر على خسارة ما امتلكاه معا ...
لم يكن ينوي أن يقترب منها هذا المساء .... إلا أنه لم يستطع ألا يفعل وهو يراها بهذا الضياع ... تبدو بالضبط كحين انتزع منها دعمه لها بكلماته التي دمرت مرة واحدة كل ما منحها إياه خلال سنة زواجهما من أمان ..
عندما أمسك بمرفقها ... وأدارها إليه وهو يهتف باسمها ... كان وجهها شاحبا كما لم يره من قبل ... لم يكن قد سألها عما حدث حين همست به باضطراب :- خذني من هنا ...
ومن يكون كي يرفض فرصة كهذه تسمح له بأن يعود إلى حياتها ولو كسائق ولليلة واحدة فقط ؟؟؟
قال أخيرا منتزعا إياها من شرودها :- هل تشعرين بتحسن الآن ؟؟؟
هل تشعر بتحسن ؟؟؟ وهل يمكنها أبدا أن تشعر بأي تحسن ؟؟؟ وهي تستطيع بأي طريقة أن تشرح لأدهم دون غيره من البشر .. ماهية مشاعرها في تلك اللحظة ؟؟؟ رباه ... ما الذي تفعله برفقة أدهم في المقام الأول ... لقد أخذها على حين غرة .. هذا ما حدث بالضبط .. لقد فاجأها بعد لحظات من استماعها إلى كلمات نادين المسمومة ... وعندما أرادت أن تهاجمه مستنكرة وجوده ... وقع بصرها على بحر الوالي .. برفقة شقيق شمس الراوي الأصغر دون كل الناس !!
الحقيقة صفعتها بكل قوتها في تلك اللحظة .. بداية وهي تتعرف على الشاب الصغير الذي سبق لها أن رأته في حفل زفاف شمس وأكرم ... تذكر جيدا أنه قد لفت نظرها ... خاصة في انعدام الشبه التام بينه وبين شقيقتيه التوأم ... بعكس بحر الوالي ... التي أدركت علياء الآن وهي تستعيد صورة وجهها .. امتلاكها بنية الوجه العظمية نفسها التي تمتلكها شمس ..
بحر الوالي وشمس الراوي .. تنتميان إلى العائلة نفسها .. مهما كان نوع القرابة التي كانت تجمع بينهما .. ووفقا لمعرفة علياء بتأثير نساء الراوي ابتداءً بشمس وانتهاءً بشقيقتها التوأم التي تمكنت من لف خالد أديب حول إصبعها الصغير قبل ست سنوات سارقة إياه من ابنة خاله ناهد .. فإن بحر على الأرجح .. تمتلك التأثير نفسه ...
ماذا لو كانت نادين محقة ... ماذا لو كان اهتمام لقمان بها غير عادي بالفعل ؟؟؟ ماذا لو تمكنت من تحقيق ما لم تستطع أي من النساء العابرات في حياته فعله .. وربطه بها كما لم تتمكن أي امرأة أن تفعل .. كما لم تتمكن علياء من أن تفعل ... تبا ... هو لم يتعب نفسه بالنظر إليها ولو لمرة هذا المساء ... بينما لم ينتزع عيناه عن صورة بحر الوالي لحظة ..
:- علياء ... هل أنت بخير ؟؟؟
أغمضت عينيها بقوة وهي تتساءل عما عليها قوله لأدهم .. هل تخبره بأنها ليست بخير ... لأن الرجل الذي تدمر زواجه بها بسبب مشاعرها اتجاهه ... يركز اهتمامه بامرأة أخرى بينما لا يعيرها هي أي أهمية
على الأرجح هو سيضحك إن أخبرته حقا بهذا ... وعلى الأرجح أيضا بأنه بعد أن ينتهي من الضحك ... سيصفعها غضبا وقهرا مكررا كلماته التي لسعها بها قبل سنة في لحظة دمرت زواجهما تماما
( أنت تلاحقين ابن عمك بنظراتك الجائعة والفاسقة بينما لا يعيرك أنت أي أهمية .. متى تدركين بأنني الرجل الوحيد الذي قبل بأن يتورط مع علياء الحكيم .. ملكة الثلج عديمة الإحساس .. والتي لا تسمح لأي أحد بالاقتراب منها )
قالت أخيرا مستعيدة شيئا من ثباتها :- ولم لا أكون بخير ... أنا بخير تماما ... أو كنت بخير على الأقل قبل أن تظهر فجأة في الحفلة .. ما الذي كنت تفعله هناك ؟؟؟ كم مرة علي أن أخبرك بأنني لا أريد أن أراك مجددا يا أدهم ... بأن ما تسعى إليه لن يتحقق أبدا ...
أوقف السيارة فجأة لتدرك بأنهما قد وصلا إلى منزل عائلتها ... والتفت نحوها قائلا بتشنج :- وما السبب الذي يمنعه من أن يتحقق ؟؟
التفتت إليه وهي تقول من بين أسنانها ... مدركة بأنها تفرغ كل إحباطها ويأسها فيه :- لأنني أفضل أن أبقى بدون زواج طوال حياتي على أن أعود لأرتبط بشخص يرى نفسه نعمة أرسلها الله إلي ..
رغم الظلمة ... وتحت الضوء الخافت لإنارة الشارع التي تسللت إلى داخل السيارة المظلمة .. كانت قادرة على أن ترى الشحوب يكسو وجهه الوسيم وهو يقول بدون تعبير :- هذا غير صحيح ..
مدت يدها تحاول فتح باب السيارة فأسرع يمسك بمرفقها قائلا بعصبية وهو يمنعها من المغادرة :- انتظري قليلا ... علياء .. ما قلته أنا قبل عام لم يكن مقصودا على الإطلاق .. لقد كان في لحظة غيرة أعمتني .. لابد وأنك تعرفين هذا ...
قالت باقتضاب وهي تجذب ذراعها محاولة التخلص من قبضته دون فائدة :- ما من فائدة من الحديث عن الأمر .. كل ما بيننا انتهى تماما قبل عام من الآن ..
قال بخشونة :- لا لم ينتهي ... أنا أحبك .. ولا يهمني على الإطلاق ما تظنين بأنك تشعرين به اتجاه ابن عمك .. أنا وأنت كنا سعيدين معا ..
هتفت به فاقدة أعصابها بعد الأمسية المشحونة بالتوتر :- لا ... لم نكن سعيدين .. وزواجنا ما كان لينهار لو أن عقلي وقلبي ما كانا مشغولين برجل آخر .. أنت تعرف هذا .. أنا أعرف هذا .. كما نعرف نحن الاثنان بأنه لم يتغير إطلاقا منذ عام وحتى الآن ..
ساد الصمت .... صمت ثقيل ... صمت خشيت معه وهي التي تعرف اندفاع أدهم وتهور طباعه من ردة فعله وراءه ... إلا أن صدمتها كانت بقوله الهاديء :- لم أعهدك قاسية إلى هذا الحد يا علياء ..
تمكنت أخيرا من تحرير ذراعها وهي تقول باقتضاب :- أنت لم تعرفني إطلاقا يا أدهم ..
قال بصوت عميق تعرفه جيدا ... كان ذاك المشحون بعناد أدهم وإصراره عندما يريد شيئا :- أنا أعرفك جيدا يا علياء .. وأكثر بكثير مما تظنين .. أعرفك بحيث أؤكد لك معه بأن ما تظنينه حبا اتجاه لقمان الطويل .. هو ليس حبا على الإطلاق .. وبأنه أبدا ليس الرجل المناسب لامرأة مثلك .. تحتاج إلى رجل يحبها .. يقدسها .. يغني أنوثتها بما يستطيع تقديمه لها .. رجل مثلي أنا .. لن يمل أو يتوقف حتى تدركي هذا ..
قلت بصوت أجش :- ستنتظر عبثا ..
:- أكدت لك قبل عام بأنني سأعود بعد عام يا علياء .. وها أنا أفي بعهدي .. لقد منحتك عاما تتعافين خلاله من آثار نهاية زواجنا البشعة .. والآن .. أنا أكثر من مستعد لإقناعك وبكل الطرق بأنني الرجل الأفضل لك .. بأنني أحبك .. وأريدك .. وأنني مستعد لفعل المستحيل كي أحظى بغفرانك لي على ما فعلته العام الماضي ..
فتحت الباب وهي تقول بانفعال :- ستنتظر كثيرا قبل أن يحدث هذا يا أدهم .. أنا لن أسامحك أبدا .. ولن أعود إليك أبدا .. لذا .. من الأفضل لك أن تتوقف عن إزعاجي برسائلك السخيفة .. لأنها لن تأتي بنتيجة ..
لم تنتظر كي تفهم نظرة الإجفال التي ارتسمت على وجهه .. بل غادرت السيارة بسرعة مغلقة الباب ورائها بعنف ... ثم انطلقت شبه عادية نحو منزل عائلتها .. مخلفة ورائها ماضيا لا حمل لها على تكراره ..











عن الحكيم إذا هوى(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن