الفصل الثاني
ما وراء الشمس
بالكاد كانت الضحكات الخالية البال من حولها قادرة على تحويل انتباهها أو إيقافها عن التحديق في معالم المكان المحيط بها .. لم يكن ذهولا أو انبهارا ما كانت تشعر به وهي تتأمل معالم الحديقة الخلفية للمنزل الكبير المقام في وسط مزرعة فاق اتساعها كل أحلام بحر .. عندما أخبرتها جمان بأنهن سيحتفلن بعيد ميلادها في مزرعة شقيقها الأكبر .. لم تتخيل أن تجد ترفا كهذا .. حتى خلال مخيلتها الخصبة .. والتي كانت بمثابة طوق النجاة بالنسبة إليها على مر السنين .. ملاذها الآمن حيث لا شيء يستطيع الوصول إليها فيه .. لم تستطع بحر أن تتخيل شيئا كهذا المسبح الضخم الذي تلألأت مياهه الصافية والتي انعكست عليها أضواء المصابيح العمودية والضخمة التي أنارت المكان ... مسبح لا يمكن الاقتراب منه أو استخدامه بسبب الجو المائل للبرودة ... حول المسبح .. حيث جلست إلى جانب شلة الفتيات اللاتي جرتها جمان لترافقهن في احتفالهن العبثي كان مرج أخضر فاحت منه رائحة العشب المجزوز ممزوجة بعبير الورود المتنوعة التي حملتها شجيرات صغيرة أحاطت بالفسحة الصغيرة التي زودت بطاولة كبيرة مستديرة تراصت عليها أصناف الطعام والحلويات ... ومقاعد مصنوعة من القش حيث جلسن ... وحيث دوت الموسيقى الصاخبة من مكبرات صوتية خفية ... وقامت بعض الفتيات بأداء رقصات متغنجة على أنغامها وهن تتضاحكن بمرح ..
من حولهن ... ومن بعيد ... كانت بحر قادرة على تخمين المساحات الشاسعة من المزرعة والتي كستها الظلمة .. مما فهمته من جمان .... المزرعة غنية بأشجار الفاكهة وخاصة الحمضيات ... بالإضافة إلى وجود حظيرة خيول كان اقتنائها أحد هوايات شقيقها النادرة ... رباه ... وكأنها قد قفزت عبر ثقب فضائي أسود لتجد نفسها هنا ...
لا .... لم يكن الانبهار ما شعرت به بحر وهي ترى عالما لم يسبق أن دخلته .. أو استرقت إليه النظر من قبل .. بل التوتر .. والخوف .. قلبها كان يخفق بين أضلعها بعنف وهي تردد لنفسها بأنفاس مبهورة ...
أنا الآن في منزل لقمان الطويل ... رباه ... ما الذي أفعله هنا ... أترى شمس تسامحها يوما إن عرفت ما تركت نفسها تنجر إليه بدافع الفضول واللهفة إلى قبس باهت من الحرية ؟؟ أترى الخالة نورا تتفهم تلك الحاجة داخلها للتمرد منذ دعتها جمان للاحتفال معها ومع صديقاتها بعيد ميلادها الواحد والعشرين ؟؟
أتراها تتفهم الخدر الذي أحست به بحر عندما سافر عمها سالم في رحلة عمل مفاجئة هذا الصباح بالذات .. مع وعيد بعدم العودة قبل أيام أخرى ؟؟
ذلك الخدر والعجز عن التفكير فوق حاجتها للخروج .. للتنفس ... للصراخ طلبا للحرية .. في البداية لم تجرؤ .. الخوف والجمود الذين تسلحت بهما لسنوات حماية لعقلها من فقدانه اتزانه منعاها من تجاوز الحدود التي حبست ورائها لسنوات ... حتى جاءت كلمات زوجة عمها تحثها بصوتها الذي لطالما شابته رجفة خفيفة اكتسبتها بعد عقد ونصف من العيش تحت ظل زوج ظالم :- اذهبي ... عيشي ليلتك هذه كما لم تفعلي من قبل .. وكما لن تفعلي بعدها أبدا ... استغلي غيابه النادر ... وأنا أعدك بأنه لن يعرف ...
وها هي الآن ... برفقة جمان الطويل من بين جميع زميلاتها في الكلية ... صداقة برزت من العدم .. إن كانت تستطيع أن تسميها بالصداقة .. وقد امتنعت بحر طوال سنواتها في الكلية عن اكتساب الصداقات لأنه كان عملا عقيما ... فما قيمة وجود صديق في حياتك إن كنت لن تتمكن من تقديم أي شيء له مقابل صداقته ؟؟
جمان كانت مختلفة ... هي لم تطالب بحر بشيء ... منذ التقتا أول مرة في إحدى استراحات السيدات في الكلية .. عندما رأتها تضح مساحيق التجميل فوق وجهها بسخاء ..
جمان الطويل ... كانت بحر تعرف الفتاة عن بعد .. تميز عبر الحواجز والمسافات الطاقة الصاخبة حولها ... جمان الطويل لم تكن جميلة حقا ... إلا أنها كنت شعلة من الحيوية .. يحيط بها العشرات من الأصدقاء ..
في تلك اللحظة عندما نظرت إليها بحر وهي تجدد أحمر شفاهها ... رأت ما وراء تلك الحيوية المتكلفة .. وتلك الضحكة الزائفة .. وتلك الحياة الاجتماعية الصاخبة ...
جمان الطويل كانت طفلة وحيدة .. ضائعة وخائفة ..
لم تعرف بحر ما الذي دفعها لأن تخاطبها ذلك اليوم بهدوء بينما هما وحيدتان في الاستراحة :- هم لا يستحقون صداقتك إن كانوا لا يرون ما وراء هذه الزينة والضحكة الزائفة التي تحجبين نفسك ورائها ..
حدقت فيها جمان للحظة بذهول .... ثم للحظة أخرى ... ثم أخرى ... قبل أن تنفجر مرة واحدة في البكاء ...
منذ ذلك الحين وهي تتعلق ببحر وكأنها طوق النجاة ... تسحبها رغما عنها في علاقة كانت تثير ذعر بحر وعدم ارتياحها في آن واحد ... جمان كانت من آل طويل ... هذا وحده كان عليه أن يدفعها هاربة منذ البداية .. إلا أنها لم تكن تمارس أي ضغط على بحر التي لم تعتد وجود الأصدقاء من حولها ... لم تكن تطالبها بأي شيء .. كانت تركض إليها فور أن تراها في الكلية .. فتدفعها نحو صديقاتها بلهفة محاولة دمجها معهن .. تحاول أخذها جانبا بين الحين والآخر لتحكي لها أشياء عابرة عن مشاكل لا أهمية لها .. وقصص لا طعم لها أو لون ... لم تعرف بحر أبدا السبب الذي جذب الفتاة الأصغر سنا نحوها ...
نعم ... أصغر سنا ... فبحر قد أتمت منذ شهرين الثالثة والعشرين ... ولا أحد تقريبا في الكلية يعرف بأنها قد خسرت عاما أو عامين من سنواتها الدراسية عندما عجزت عن حضور الامتحانات بسبب ظروف قاهرة ..
وكيف لهم أن يعرفوا وهي لم تتخذ صديقا قط ...
عندما دعتها جمان لحضور عيد ميلادها ... لم تستطع بحر الرفض ... إلا أنها لم تتوقع أن تجرها جمان مع باقي صديقاتها إلى منزل لقمان الطويل من بين جميع الناس ... كما لم تعرف أبدا لو أن جمان كانت لتدعوها في المقام الأول لو عرفت من تكون .. أو عرفت عن ذلك التقاطع الخاطف والمؤلم في تاريخ عائلتيهما والذي حدث منذ سنوات قليلة ...
:- بحر ... أنت لا تأكلين ... ألا يعجبك الطعام ؟؟
التفتت بحر نحو جمان القلقة العينين ... عينين سوداوين واسعتين نابضتين بالطفولة ... بقدر ما كانت جمان شقية ومتمردة وصاخبة ... كانت ما تزال طفلة صغيرة بحاجة لمن يظهر لها اهتماما يتجاوز اهتمامه بانتمائها لعائلة معروفة ... أو أخوتها للقمان الطويل .... ربما كانت هذه هي مشكلتها بالفعل ... كونها الابنة الأصغر لأخوة لا يمكن وصفهم إلا بالمتألقين كل بطريقته .. فكيف لها أن تنافسهم ..
لم تجها بحر وهي تقول بعدم ارتياح :- هل أنت متأكدة بأن شقيقك لن يأتي فجأة أثناء وجودنا هنا ؟؟
إذ كان آخر ما أرادته بحر هو أن تقابل الرجل صاحب السمعة السيئة .. الرجل القاسي معدوم الضمير ... الرجل الذي كان أحد الأشخاص الذين دمروا حياة ابنة خالتها شمس ...
عبست جمان وهي تقول :- هو أخي نصف الشقيق ... ولا ... لن يأتي إذ أنه يعرف بأننا هنا .. وصدقيني .. آخر ما يريده لقمان هو أن يجد نفسه عالقا مع حفنة من الفتيات الهستيريات اللاتي يتراقصن على أنغام الموسيقى الصاخبة ... لقمان العجوز أكبر سنا من أن تعجبه أجواء المرح والمتعة ...
قالت صديقتها التي كنت تجلس إلى جانبها من الجهة الأخرى :- هو ليس كبيرا إلى هذا الحد ... لقد سبق ورأيت صورته في جريدة ذات مرة .. ولم يبد لي قد تجاوز الأربعين ..
مدت رأسها كي تنظر إلى بحر من أمام جمان قائلة بعينين لامعتين :- كما أنه وسيييييييييييييم جدا ..
أصدرت جمان صوتا متأففا وهي تقول :- هو في الثامنة والثلاثين ... أي أنه كبير بالنسبة إلينا ... ولا ... لا يمكنك حتى أن تسميه بالوسيم .. ليس كشقيقي كنان على الأقل .. كما أنه بارد وجاف .. ما أعرفه هو أنه على الأرجح لن يتزوج إطلاقا لأن ما من امرأة في الكون يمكن أن تقبل الزواج برجل لا قلب له مثله ... فلا تتعبي نفسك بالحلم يا هنا ..
أنت تقرأ
عن الحكيم إذا هوى(مكتملة)
Romanceرواية بقلم المبدعة blue me الجزء الأول من سلسلة في الغرام قصاصا حقوق الملكية محفوظة للمبدعة blue me