الفصل السابع(جروح لا تندمل)

11.4K 288 8
                                    

الفصل السابع


جروح لا تندمل


لم تشعر به بحر حتى عندما تحرك من مكانه .. ولف حول المنصة .. واقترب منها قبل أن تحط يده فوق كتفها ... فور أن أحست بحطة يده الحازمة والقوية .. انتفضت مرة واحدة وذكرى آخر مرة أمسكت بها فيها يداه تجتاحها بعنف ... تراجعت إلى الوراء وهي تلتفت إليه بحركة حادة .. ليصطدم ظهرها بالرفوف الزجاجية التي تراصت فوقها البضائع ... بعضها تناثر مصدرا دويا قويا دون أن ينكسر منها شيئا لحسن الحظ ... عيناها الواسعتان كانتا تحدقان به بذعر أرنب وجد نفسه محاصرا من قبل ذئب جائع .. صدرها يعلو ويهبط بعنف بينما ترتجف كل خلية في جسدها النحيل ..
وجهه الأسمر كان عابسا وهو يتراجع خطوة واحدة إلى الوراء .. لونه البرونزي شحب قليلا ... بينما حافظت ملامحه على ثباتها .. نظرت حولها لاهثة بحثا عن باقي زملائها فلم تجد أحدهم ... المتجر كان خاليا تماما إلا منهما ... ورجل يرتدي اللون الأسود وقف عند الباب الزجاجي المغلق عاقدا ساعديه مانعا أي كان من الدخول ..
هددت نوبة ذعر هستيرية بأن تفقدها عقلها ... بينما علقت صرخة مدوية في حنجرتها وهي تدرك الوضع فجأة ... كان عليها أن تعرف ... بأن رجلا كلقمان الطويل لن يتورع عن ابتياع مدير المتجر .. وربما صاحب المتجر نفسه في سبيل تحقيق شيء يريده ...
وما الذي يريده منها بالضبط ؟؟؟
ما الشيء الذي تطلب منه أن يفرغ متجرا كاملا كي ينفرد بها ويرغمها على الاستماع إليه ؟؟؟
قالت بصوت مختنق :- ما الذي تريده مني ؟؟
:- لا شيء يتضمن أذيتك ؟؟
ثم وكي يثبت لها كلامه ... دس يديه في جيبي سرواله الأسود الأنيق وهو يتابع :- أو لمسك مجددا ... أنا آسف ... لم أقصد إخافتك ..
اعتذار لقمان الطويل إليها وتراجعه واضعا مسافة آمنة بينهما سمح لشيء من هستيريتها بالتراجع ... ازدردت ريقها بينما تعلقت أنظاره بوجهها وهو يقول بوجوم :- لقد أجفلتني هذه الكدمات على وجهك لا أكثر ... إذ أنها لم تكن موجودة في تلك الليلة ..
أشاحت بوجهها ... وقلبها يخفق بصخب بين أضلعها .. فتابع :- هل كان عمك قاسيا معك عند عودتك في ذلك الوقت ؟؟؟ ألم تخبريه بأن تأخرك كان خارجا عن إرادتك ؟؟
لا ... لم تدهشها معرفته بكامل ظروفها ... بأنها مجرد فتاة يتيمة تعيش عالة في بيت عمها .... إنه لقمان الطويل ... وإن أراد أن يعرف كل شيء عنها فما من شيء يستطيع الوقوف في وجهه
قالت بصوت بالكاد خرج منها مفهوما :- ما كان ليصدقني لو أنني حاولت ...
قطب وقد ازدادت ملامحه قسوة وهو يقول :- أستطيع التحدث إليه إن أردت ..
:- ما عاد الأمر مهما ... لقد غادرت بيته على أي حال .. في تلك الليلة بالذات ...
لم تكن تنظر إليه .... لم تكن قادرة على رؤية ردة فعله على كلماتها .. لم تكن حتى راغبة في هذا ... كل ما أرادته هو أن يغادر .. فقط أن يغادر دون رجعة ....
بعد لحظات من الصمت .. قال بهدوء :- هل تحتاجين لمكان تمكثين فيه ؟؟؟
منحه الإجابات التي يريد ... كان أسهل من مجادلته ... مما جعلها تقول باقتضاب :- لا ... أنا أمكث في بيت خالتي ... ولا أحتاج إلى أي مساعدة منك ...
:- أصدقك ...
عندما لم يقل المزيد .. استخدمت كل إرادتها كي لا ترفع رأسها إليه ... كانت تشعر بنظراته عليها ... متفحصة .. منتظرة .. كالنمر حين يتربص لفريسته قبل انقضاضه عليها ...
قال أخيرا بهدوء :- أنا هنا لا لأقدم لك المساعدة ... بل لأقدم الاعتذار من جديد عما فعله بك شقيقاي الصغيران ... وعما فعلته بك أنا تلك الليلة .. أعرف مسبقا بأنك لن تتقبلي مني أي تعويض مادي .. لذلك أنا اعرض عليك تعويضا من نوع آخر ..
قالت بفظاظة :- سبق وأخبرتك بأنني لا أريد منك ومن عائلتك أي شيء ..
:- هذا صحيح ... إلا أنك لا تنكرين حاجتك لوظيفة أفضل من هذه التي تستهلك من وقتك وجهدك ودراستك دون أن تمنحك مقابلا يذكر ..
هنا .... رفعت أخيرا رأسها إليه لتنظر إليه بتوتر ... فقال بهدوء :- أنا أعرض عليك وظيفة ...
هتفت باستنكار وكأنها تبصق :- لديك أنت ؟؟
:- بشكل غير مباشر ...
أخرج من جيبه بطاقة ... ووضعها فوق سطح المنصة .. وكأنه عرف بأنها ما كانت لتأخذها منه لو أنه ناولها إياها .. أو ربما لأنه عرف بأن مصيرها سيتبع مصير سابقتها .. بأنها ستمزقها على الأرجح دون حتى أن تلقي نظرة عليها
:- هذه بطاقة مدير فندق .......... , أخبريه بأنني من أرسلك .. وسيمنحك وظيفة مناسبة ... ربما ستكون وظيفة صغيرة وبسيطة في البداية .. إلا أنك ستكونين بعد تخرجك قادرة على الارتقاء بعد إثباتك كفاءتك ...
اسم الفندق أجفلها ... إذ كان جزءا من سلسلة مهمة من الفنادق حيث الأفرع الفخمة ذات النجوم الخمسة متناثرة وموزعة داخل البلاد وفي الشرق الأوسط بأسره ... أن تكتفي بذكر اسمه فقط كي تتمكن من الحصول على وظيفة في مكان كهذا يعني شيئا واحدا فقط ..
قالت بتوتر :- لم أعرف أنك تعمل في مجال الفنادق ..
صحت توقعاتها عندما ارتسمت ابتسامة جانبية صغيرة على شفتيه .. جعلته فجأ يبدو أصغر سنا بينما كان يقول :- القليلون فقط من يعرفون هذا ..
أحست بحر بأطرافها تزداد برودة وهي تفكر بامتلاك لقمان الطويل تلك السلسلة الضخمة من الفنادق ... لقد كانت تعرف بأنه ثري جدا ... بأنه قد ورث ثروة غير عادية عن جده ... إلا أن معرفتها الجديدة هذه جعلتها تنظر إليه بطريقة مختلفة تماما ..
هذا شخص لن ترغب إطلاقا بالتورط معه ولو عن بعد ...
:- قبل أن تبدي أي ردة فعل رافضة .. أحب أن أخبرك بأن تعاملك لن يكون معي ... بل أنك على الأرجح لن تضطري لرؤيتي على الإطلاق بعد الآن .. مما يجعل أي مخاوف تجتاحك غير ضرورية على الإطلاق ... أنا أعدك ... بأنك لن تتعرضي لأي إزعاج من أي فرد من عائلة الطويل ... هذا أقل ما أستطيع تقديمه لك بعد ما تعرضت له بسببنا ... مستقبل مهني آمن ..
أزيز خافت صدر عن جيبه ... راقبته بعينين حذرتين وهو يخرج هاتفه .. لينظر عابسا إلى الشاشة قبل أن يعيده إلى جيبه وهو يقول :- أنا لا أستطيع إرغامك على قبول عرضي ... إلا أنني أطلب منك أن تفكري بالأمر قبل أن تتخذي أي قرار نهائي ...
ثم نظر إليها ... عيناه الداكنتان تقابلان عينيها القلقتين ... ثم قال بهدوء :- الوداع يا آنسة بحر ...
ثم وبدون انتظار أي كلمة منها ... خطا نحو الباب حيث فتحه له ذلك الرجل المتشح بالسواد قبل أن يلحق به .. تاركا بحر تحدق في إثره وكأنها لا تصدق بأنه قد كان هنا بالفعل .... ثم تعود لتحدق في تلك البطاقة القابعة في انتظار أن تأخذها .. فوق المنصة أمامها ...





عن الحكيم إذا هوى(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن