الفصل الأربعون
كانت منهمكة في العمل فوق مكتبها عندما فوجئت بالزيارة الغير متوقعة ...
رفعت قمر رأسها عن أوراقها ... لتحدق مباشرة بـ ..... بناهد ...
لم تكن تنتظر رؤيتها ... لا الآن ... لا قريبا .. ولا في أي وقت كان ...في الواقع ... وكنوع من الحماية اليائسة لنفسها ... قمر لم تكن تفكر فيها إطلاقا خلال الأسابيع التي تلت زواج خالد منها ... كانت تمنع نفسها من تذكرها ... من تصور وجهها .. من تخيلها .. إذ كان هذا وحده جدير بإحياء صور أخرى كانت كفيلة بذبح كل تماسكها وتعقلها ... صور خالد معها ... وبكل الطرق الممكنة ..
أحست قمر وهي تحدق بالمرأة التي كانت مصدرا لكل مخاوفها وانعدام ثقتها بنفسها خلال السنوات السابقة ... شبحا بترصدها دائما من بعيد .. وحب خالد السابق لها .. و وشوكه على الزواج منها مرة .. يهدد أمانها بدون توقف ...
ناهد كانت دائما جميلة ... بطريقة تعرف قمر بأنها أبدا لن تبلغها ... الطول الفارع .. القوام المثالي .. الأناقة الفطرية .. والرقي الموروث .. إلا أن هذا كله لم يكن أبدا سببا للبركان الذي يهدد بالانفجار في أي لحظة بينما كانت تحدق فيها ...
بل إدراكها بأنها كانت تحمل في أحشائها ابن خالد المنتظر ... الأمر الذي عجزت قمر عن القيام به رغم كل جهودها والطرق التي اتبعتها ... لقد نجحت فيما فشلت فيه ... لقد أخذت من قمر كل شيء ...
الكراهية التي كانت تفيض من أعماقها كانت غير قابلة للسيطرة ... لقد كانت بشعة ... أبشع بكثير مما تخيلت قمر نفسها أبدا أن تشعر به ...
قالت بصوتها الجامد ... الصوت التي كانت تتسلح فيه فتخفي وراءه النار التي كانت تحرق روحها :- ما الذي جئت تفعلينه هنا يا ناهد ؟؟؟ التأكد من أنني اعرف بالضبط ما فعلته حتى حصلت على جنين خالد بين أحشائك ؟؟؟ أنا أعرف .. وإن كنت لا أهتم .. الرجل الذي جئت تتغنين في انتصارك بحصولك عليه ... ما عاد يهمني .. وماهي إلا مسألة وقت قبل أن ينتهي زواجنا تماما ... فأتركه لك لتهنئي به خالصا يا عزيزتي ..
تأخر ناهد في الإجابة .... وقوفها هناك ... تنظر إلى قمر وكأنها .... وكأنها لا تعرفها .. أو كأن كلماتها لا تعني لها شيئا ... جعل النار تشعل فتيل كل غضبها فتهب واقفة وهي تقول شبه صارخة :- هل أنت صماء إضافة إلى انعدام كرامتك في ركضك اليائس لسنوات وراء رجل متزوج .. فلا تسمعين ما أقول ؟؟؟ وجودك هنا غير مرغوب به ... اذهبي ... اخرجي من مكتبي ..
قالت ناهد أخيرا ... بصوت هز قمر للحظة وقد كان خفوته .. والرجفة الخفية فيه .. آخر ما توقعت سماعه منها :- أنا لم آت لأتشاجر معك يا قمر .. كما لم آت لاستفزازك .. أنا آسفة .. أنا حقا آسفة لأنك تكرهينني إلى هذا الحد وأنا لا ألومك .. لا أقول بأنني لا أكرهك أيضا .. إذ كرهتك لسنوات ... سنوات طويلة .. وما زلت أكرهك .. إلا أن شيئا واحدا يجمع بيننا شئنا أم أبينا .. وهو حبنا المشترك نحو رجل واحد ..
أطلقت قمر ضحكة مستهزئة وهي تقول :- هه ... أؤكد لك ... لا شيء على الإطلاق مشترك بيننا يا ناهد .. المشاعر التي تكنينها نحو خالد .. مختلفة تماما عن المشاعر التي حملتها له طويلا ... إذ أن مشاعري لم تتضمن اذلال نفسي لأجله إطلاقا ..
تشنج وجه ناهد الشاحب ... دون أن تظهر أي غضب أو انفعال ضد كلمات قمر وكأنها ... وكأنها تعترف بها .. وتدرك وجودها .. هنا ... لاحظت قمر لأول مرة بأن ناهد كانت تبدو ....... تبدو مختلفة ...
لقد كانت أكثر شحوبا ... أكثر نحولا ... لقد كانت مرهقة ... هالات سوداء تحيط بعينيها .. بينما بدت وقفتها ... بدت وكأنها غير مستقيمة تماما كما اعتادت قمر من ناهد ..
ما الأمر .... هل يضايقها الوحام كثيرا أثناء حملها ... يا للأمر السيء ...
غضبها كان يحمل قدرا كبيرا من الحقد ... حقد كانت حقيقة حمل ناهد بطفل خالد تؤججها أكثر فأكثر كلما طال وجودها داخل مكتبها .. حقد صدمها في القسوة التي تبطنت به .. قسوة لم تكن من طبعها .. مما جعل كرهها لهذه المرأة .. ولخالد .. يتضاعف مرات ومرات على ما دمروه من روحها ...
قالت قمر بعدها بصوتها الجاف :- وكإضافة لمعلوماتك .... أنا لم أطلب من خالد قبل ست سنوات على الإطلاق أن يفسخ خطوبته بك لأجلي ... أنا لم أركض وراءه ... لم أغره .. ولم أعرض عليه جسدي كوسيلة يحقق من خلالها أغراضه كما فعلت أنت مقابل منحه لي اسمه ... هو تركك من تلقاء نفسه ... وركض ورائي من تلقاء نفسه ... فإياك أن تفترضي أي نقطة التقاء بيننا يا ناهد ..
ازداد شحوب ناهد وهي تتراجع إلى الوراء خطوة ... كلمات قمر كانت قاسية في واقعيتها ... في تذكيرها لناهد بحقيقة ان خالد تخلى عنها يوما لأجلها هي ... في حين لم يعد إليها الآن إلا لأجل الطفل الذي تحمله بين أحشائها ..
قالت ناهد بصوت متقطع :- أنا ... لم ... آت كي ... أتشاجر معك ...
قالت قمر باستهزاء .. وهي تكاد تفقد صبرها .. متسائلة عن الطريقة التي تمكنت فيها ناهد في المقام الأول من التسلل إلى مكتبها وهي تعرف الإجراءات المشددة اتجاه زيارة غير الموظفين في المكان :- آه ... هل جئت كي تقنعيني حبيا بأن أغادر حياة خالد تاركة إياه لك ... لقد سبق وفعلت هذا بالفعل يا ناهد ... خالد كله لك ... هنيئا لك به .. والآن .. اخرجي من مكتبي ..
:- قمر ..... خالد يحبك ...
صمتت قمر ... وكلمات ناهد التي قيلت بانفعال تجمدها تماما بمعناها الذي لم تتخيل أن تصرخ به في حضرتها وبهذا اليأس ..
للحظة ... ظل تحدق بها .. وكأنها تحاول قراءة أفكارها .. ومعرفة دوافعها الحقيقية من المجيء إلى هنا .. قبل أن تقول بجمود :- و .......
:- خالد يحبك ... ولا يستطيع العيش بدونك ... وأنت أيضا تحبينه بالمقدار نفسه ...
لحظات أخرى من الصمت قبل أن تقول قمر بجفاف :- وما هو بالضبط سبب حماسك الغير عادي للمجيء إلى هنا وإخباري بهذه الحقيقة ؟؟؟ لماذا أنت هنا يا ناهد ؟؟
للحظة ... تمكنت قمر من رؤية لون ناهد يخضر قليلا .. وكأنها تقاوم إحساسا عابرا بالغثيان .. قبل أن تقول :- أنا هنا ... كي أقنعك بالعودة إلى خالد يا قمر ...
الصمت الذي خيم بينهما كان أكثر ثقلا مما سبق ... كان وكأن عبارة ناهد قد دوت لتسحب معها كل الهواء في الغرفة .. تاركة مكانا فراغا هائلا من الصمت وعدم التصديق ..
بصوت خالي من العاطفة ... سألتها قمر :- حقا .... وهل إقناعك هذا لي يتطلب وجودك في حياته أم خروجك منها ؟؟؟
قالت ناهد بيأس :- أنا لا أستطيع ترك خالد .... لا أستطيع ... أنا تزوجته رغما عن عائلتي .. أنا أحمل طفله .. أنا .. أنا أحبه وأنت تعرفين هذا جيدا ...
قالت قمر بخشونة :- آه .... أنت هنا عارضة التصالح كأي زوجة صالحة ... عارضة التعاون معي في جعل حياة خالد أكثر سهولة بأن نكون ماذا ؟؟؟ الضرتين المثاليتين ؟؟؟ وما سبب هذا التفاني المفاجئ والروح الرياضية العالية ... على ما اذكر ... قبل ست سنوات لا أكثر .. أنت حاولت قتلي .. وبدم بارد ... ما الذي غير رأيك فما عاد خالد يستحق القتال لأجله ... ؟
رمشت ناهد بعينيها ... للمرة الأولى تبدو لقمر ... هشة ... ضعيفة ... مهزوزة ... ومختلفة تماما عن المرأة التي كانت لسنوات سببا لانعدام الثقة لدى قمر أو إحساسها بالأمان ...
قالت ناهد بصوت كتمه القهر :- ما غير رأيي هو أنني فشلت ... أنا لن أتمكن أبدا من الاستحواذ على خالد تماما ... إذ أنه لا يحبني ... ولم يحببني قط ... هو يحبك أنت ... وأنا أعرف بأنك رغم كل غضبك منه .. وحقدك عليه .. تحبينه بالقدر ذاته ... وأنك أبدا لن تعودي إليه بسبب زواجه مني .. بقائي كزوجة له .. أو عدم بقائي لا يصنع أي فارق لديك .. إذ أن الضرر الذي ارتكبه خالد في حقك قد حصل وانتهى الأمر ..
صمتت قمر للحظات ... قبل أن تسألها :- لماذا أنت هنا إذن ؟؟
اغرورقت عينا ناهد بالدموع وهي تقول :- لأرجوك أن تعودي إليه ...لأتوسل إليك أن تعودي إليه ... أنا الآن زوجته ... وأم ابنه ... إلا أنه لا يطيق النظر إلى وجهي ... لا يطيق البقاء معي في مكان واحد بحق الله .. هو يكرهني .. لأنني رغم عدم إرغامي له على الزواج مني ... كنت سببا غير مباشر لرحيلك ... هو يكرهني .. ويكره نفسه ... إلى حد إهماله لصحته فباتت حياته على المحك ...
كانت ترتجف فعليا وهي تقول :- عودي إليه ... أرجوك .. وأنا أعدك بأنني لن أكون عبئا في حياتكما .. أنا لن أحاول أخذه منك ... لن أحاول جذب اهتمامه أو إبعاده عنك ... كل ما أريده هو أن أكون جزءا من حياته .. فقط أن ... أن يتوقف عن كرهي ... هو لم يكرهني هكذا حتى عندما حاولت أن أقتـ ..... آه ...
الصرخة أفلتت منها بدون إنذار ويدها تمتد لتتشبث بأسفل بطنها في استجابة تلقائية لموجة ألم شديدة كانت واضحة تماما لقمر التي انتفضت وهي تجد وجه ناهد يفقد كل ألوانه ... بينما تتسع عينيها وهي تنتحي إلى الأمام .. الذعر بدأ يزحف فوق ظهر قمر وهي تدرك بأن ما يحدث أمامها في تلك اللحظة لم يكن تمثيلا على الإطلاق ... وأن ناهد كانت فعلا تتألم ...
رفعت ناهد عينيها المذعورتين نحو قمر ... تترنح وهي تتشبث بالمكتب أمامها وهي تقول بلوعة :- قمر .... إنه الطفل ... طفلي ...
أنت تقرأ
عن الحكيم إذا هوى(مكتملة)
Lãng mạnرواية بقلم المبدعة blue me الجزء الأول من سلسلة في الغرام قصاصا حقوق الملكية محفوظة للمبدعة blue me