الفصل الأول
حفل زفاف ..... و قرد وحيد
يذكر أكرم قولا قديما لأحد الحكماء يشبه بكلمات منمقة حفلات الزفاف بحديقة حيوانات حصرية .. يقتصر حضورها على القردة والغربان ..
لولا مزاجه السوداوي ... لانفجر ضاحكا بهستيرية مجتذبا المزيد من الأنظار نحوه ... بهدوء .. وبأعصاب ثابتة بمعجزة ... وهو المعروف بعجزه الأبدي عن التحكم بانفعالاته خارج غرفة عملياته ... رفع كأس العصير الذي انتشله قبل لحظات فقط من إحدى الصواني العابرة هنا وهناك متجولة بين الضيوف على أيدي مضيفات الحفل اللاتي ارتدين زيا رسميا مختارا بعناية من قبل العروس ... مدركا بأن أمنياته بأن يصبح وجوده عشوائيا وقد اختار مكانا قصيا من الصالة لوقوفه .. بأن يتوقف الضيوف عن النظر إليه .. كانت شديدة السذاجة
قد تظن أن حفل زفاف كهذا .. مقام في إحدى الصالات الفارهة لأحد أفخم فنادق المدينة ... حيث كان الترف يطل من كل زواياها ... من الجدران المزينة بالمرايا الضخمة واللوح الزيتية الثمينة ... إلى الثريات الكريستالية الضخمة المتدلية من الأسقف لتنعكس الأضواء عبرها فتتشر ألوانا متألقة في كل مكان .. حيث ضم العديد من الشخصيات المهمة في المدينة ... سياسيون ... مثقفون .. رجال أعمال .. أطباء .. قردة مـتأنقة في حلل رسمية متمثلة في الرجال ... غربـان متشحة بفساتين السهرة الغالية الثمن .. على شكل نساء تتدلى من أعناقها وآذانها مختلف أنواع المجوهرات .. قد تظن أن الاهتمام فيه سيكون مركزا حول العروس الجميلة .. المتألقة بفستان زفاف أسطوري إلى جانب عريسها السعيد ...
لكن لاااااااااااااا .... هو لم يكن محظوظا إلى هذا الحد ...
إنها حديقة حيوانات بالفعل ... كما قال ذاك الحكيم بالضبط .. والذي صدف وكان يقف في تلك اللحظة بالذات إلى الجانب الآخر من الصالة في حديث يبدو من بعيد مثيرا للاهتمام مع وزير الصناعة ... في حين كان أكرم يعرف يقينا بأنه أكثر مللا من هذا الحفل الذي بدا وكأنه لن ينتهي أبدا ...
حديقة حيوانات .... إلا أنه كان نجمها الوحيد ... القرد الوحيد فيها والذي كان المترقبون يترصدونه في شوق متلهف إلى رقصته القادمة ..
هي ساعة ... ساعة واحدة لا غير ... وسيتمكن بعدها من الانسحاب أخيرا ململما ما تبقى من كرامته المبعثرة ... بعد أن يفي بوعده لنيفين وهادي ... العروسين العتيدين ... صديقه الأقرب .....
و ........ وزوجته هو السابقة ..
:- حفلات الزفاف ...... ومن يطيقها ؟؟
لم يفاجئه سماعه لصوتها ... إذ كان قد لمحها تصل قبل نصف ساعة فقط .. التقت أعينهما حينها للحظة فور دخولها .. حيث تمكن من رؤية النظرة الساخرة التي اعتلت عينيها السوداوين .. وتلويحتها الخفية والواعدة وهي تلتحم فورا في دورها المرسوم بدقة كالصديقة المقربة للعروس ... وقد كان يعرف جيدا كم يكلفها قيامها بدورها هذا ... ربما هي لا تعاني من أزمة حضورها حفل زفاف زوج سابق كما يفعل هو ... إلا أن وجودها في الصالة التي أقيم فيها حفل زفافها هي قبل ثلاث سنوات .. لم يكن سهلا على الإطلاق ...
بدون أن يلتفت إليها ... كان قادرا على تصورها في فستانها ذي الزرقة الداكنة وقد لائم بشدة قوامها الطويل .. شعرها الفاحم السواد مرفوع فوق رأسها بأناقة ... عيناها السوداوان مكحلتان بإتقان .. ملامحها لم تكن ناعمة .. إلا أنها كانت جميلة .. بتلك الطريقة الوحشية التي تميز جميع أفراد العائلة ... كان من السهل للناظر إليهما يقفان معا جنبا إلى جنب ... أن يدرك الصلة التي تربط بينهما ... علياء لم تكن ابنة عمه فحسب .. لقد كانت صديقة مقربة جدا إليه ... خاصة خلال السنوات القليلة الماضية .. والتي كانت صعبة على كليهما ..
قال بجفاف :- للأسف .. ما يزال هناك الكثير ممن يحتفظون بتلك النظرة الساذجة والمتفائلة نحو المستقبل فيجدونه سببا كافيا للاحتفال ..
أتاه صوتها المتهكم يقول :- المضحك المبكي هو أنك ترى أشخاصا يظلون في ترقب مستمر له .. ذلك المستقبل المشرق .. دون أن توقفهم المرات العديدة التي صدمهم فيها ... وقد كنت أظن بأن التكرار يعلم الشطار ...
أوووتش ... إنها ضربة تحت الحزام .. لم يتوقع ما يقل عنها منها ... التفت إليها ليرمقها بنظراته المستنكرة :- آه ... لست أنا من كان يتقافز قبل ثلاث سنوات لهفة إلى زواج أسطوري لا يقل تكلفا وزيفا عن هذا ...
من اللؤم منه هو أيضا أن يذكرها بزواجها الفاشل الذي استمر لما يقل عن العامين قبل أن ينتهي بطلاق بشع .. إذ لا يقذف الناس بالحجارة من كان بيته من زجاج ... صحيح ؟؟ وهذا ما جعله مستعدا تماما لردها الجاف عليه :- على الأقل .... امتلكت ما يكفي من الحكمة من بعدها كي أمتنع عن تكرار التجربة ..
التفت نحوها أخيرا وعلى شفتيه تلك الابتسامة المتهكمة التي تعرفها جيدا ... ليقابل نظراتها السوداء الحالكة .. بسواد عينيه ... بسواد ليالي تموز الحارة ...
اختفت ابتسامته مرة واحدة عندما ترددت الفكرة الأخيرة داخل عقله بصخب طغى على أصداء الموسيقى ..
هذا التغير المفاجئ في مزاجه لم يفت علياء التي قطبت وقد تلاشى التهكم تماما من ملامحها وهي تقول :- ما الأمر ؟؟ ما الذي قلته وسحب الدماء من وجهك فبات أكثر شحوبا من جدران هذه الصالة ؟؟
عندما لم يرد .. اقتربت منه وهي تقول بقلق :- أركان ...
ارتجف .... بل انتفضت كل ذرة دم داخل جسده الطويل والقوي ... وانتفض قلبه بين أضلعه ليخفق بصخب كاد يعلو صخب الموسيقى من حوله ... هذا الاسم ...
قال بخشونة :- لا تناديني بهذا الاسم ...
أدارت عينيها بسأم وهي تكافح كي تخفي ابتسامتها اللعوب ... لا أحد ينادي أكرم بأركان سوى والده ... منذ كان طفلا صغيرا أعلن بصرامة رفضه الاستجابة لاستخدام الآخرين لاسمه الحقيقي وقد جلب عليه سخرية الكثير من أصدقائه لغرابته .. ثم فرض على الجميع مناداته باسم أكرم .. حسنا ... معظمهم على الأقل ... إذ أنه لم ينجح في إقناع والده في التخلي عن الاسم الذي اختاره له بنفسه ... وها هي تنجح الآن في إخراجه من صدمته المؤقتة تلك .. صدمة مألوفة .. كانت هي شاهدة على حدوثها بضع مرات حتى الآن خلال السنوات الأربع الماضية .. من خلال استخدامها للاسم الذي يكره ...
قالت بحزم معيدة تركيزه إليها :- أكرم الطويل ... ما الذي حدث ؟؟
![](https://img.wattpad.com/cover/270364325-288-k388590.jpg)
أنت تقرأ
عن الحكيم إذا هوى(مكتملة)
Romanceرواية بقلم المبدعة blue me الجزء الأول من سلسلة في الغرام قصاصا حقوق الملكية محفوظة للمبدعة blue me