الفصل الثامن عشر(هي البداية..ليس إلا)

10.7K 293 5
                                    

الفصل الثامن عشر


هي البداية ... ليس إلا

كما توقعت والدته .... تأخر شمس في الحضور .. جعل دخولها إلى الصالة ملفتا تماما للأنظار ... وكيف له ألا يكون .. وهي تبدو ...
رباه ... لقد كانت تبدو كالحلم ...
فستانها بلون التوت .. فستان عرائسي بكل ما للكلمة من معنى .. بأناقته .. وبساطته .. رغم التطريز الخفيف الذي تناثر فوق تنورته التي بالكاد تجاوز طولها ركبتيها .. بينما استقامت ساقاها الرشيقتان فوق حذاء بديع عالي الكعبين باللون نفسه .. في حين جعل التناقض بين طول التنورة المتواضع .. مع الأكمام الطويلة المصنوعة من الدانتيل .. هيئتها تبدو غير عادية على الإطلاق ...
شعرها ذو اللون العسلي الداكن ... كان محررا ... لأول مرة يراه بهذا الشكل منذ ذهب لرؤيتها في متجرها طالبا منها مساعدة ريان .. مصففا بعناية جعل خصلاته الطويلة تبدو أقرب إلى وشائح ناعمة من الحرير المغزول .. وجهها مزين بتلك الطريقة التي كانت تفقده عقله ... تلك التي كانت تظهر جمالها الطبيعي دون أن تؤثر فيه ذرة ..
للحظة ... ساد الصمت ثقيلا في الصالة عندما أدرك الضيوف وصولها ... توقف الجميع عن الكلام ... وتعلقت أنظارهم بالمرأة التي سببت الكثير من المشاكل فيما مضى لعائلة الطويل ... مما جعلها تتوتر في وقفتها ... فمها الرقيق يتصلب وهي ترفع رأسها في تحدي .. وكأنها دخيلة تتوقع أن يتم طردها في أي لحظة الآن ..
عندها فقط ... تحرك ...قبل حتى أن يفكر .. كان قد وصل إليها ... التشنج في نظراتها لان قليلا عندما رفعت عينيها إليه ليتمكن من أن يلمح شيئا من الراحة .. والهشاشة التي سرعان ما اختفت ليحل محلها الحذر التام .. وكأنها تأبى أن يرى مقدار حاجتها لأي قدر من الدعم في هذه الحظة ..
لماذا ظن بأنها قادرة على أن تمنحه أي من شيء من الثقة ؟؟
ابتسم وهو يحيط كتفيها بذراعه بأريحية جعلت جسدها يتصلب تحت لمسته ... إلا أنه تجاهلها وهو يقول :- مساء الخير حبيبتي ... لقد كنا في انتظارك .. العائلة بأكملها متشوقة للقائك .. تعالي لأعرفك إليهم عن قرب ..




:- طلقني .... أريدك أن تطلقني يا خالد ... طلقني الآن
للحظة .. ظن خالد بأنه قد أساء فهم كلمات قمر .. لابد وأنه قد أساء فهمها إذ لا يمكن لها حقا أن تطلب منه أن يطلقها .. حتى كررت كلماتها من جديد .. بصوت خنقته الدموع .. صوت مرهق .. متألم .. مرير ..
:- طلقني يا خالد ... ارجوك ... أرجوك طلقني .. طلقني الآن ..
رباه ... هل فقدت قمر عقلها ... فجأة .. الخوف الذي اجتاحه اتخذ شكلا جديدا .. عاد يحاول الاقتراب منها وهو يهمس :- قمر .... ما الذي حدث ؟؟ أخبريني ...
أطبقت شهقة عنيفة ودموعها تسح من عينيها بدون توقف .. بينما كانت تهتف بصوتها المرتعش :- أنا لا أنفعك ... لا أنفعك .. أنا لن أمنحك أبدا الطفل الذي تريد .. أبدا ..
نظر إليها بتشوش للحظات .. قبل أن يستحيل تشوشه إلى غضب وهو يقول :- ومنذ متى أخبرتك بأنني أريد طفلا يا قمر ... كم مرة علي أن أخبرك بأنني لا أبالي إن أنجبت لي طفلا أم لا .. بأنني أريدك أنت وحدك
هتفت بانهيار :- أنت لا تفهم .... لا تفهم ... أنا لا أستطيع منحك أطفالا يا خالد ... لا أستطيع .. ولن أستطيع أبدا ..
عندها ... لم يبالي باعتراضها .. برفضها الهستيري له .. مد يديه يمسك بأعلى ذراعيها بقوة يهزها عله يخرجها من حالة الضياع التي كانت تجتاحها وهو يقول من بين أسنانه :- أخبريني الآن يا قمر بما حدث .. وبمن أخبرك بهذا الهراء ..
حاولت التملص من قبضتيه بدون فائدة .. مما دفعها في النهاية للاستسلام وهي تقول منهارة :- لقد أكدت لي الطبيبة اليوم .... أكد لي بأنني ... بأنني ...
عندها ... أجهشت في البكاء ... مما دفعه في خضم صدمته من كلماتها .. ألمه الغير محدود لألمها .. لسحبها إلى صدره يضمها إليه بقوة .. تاركا إياها تبلل قميصه بدموعها الساخنة .. دموع قهر وعجز .. دموع خوف من المستقبل ..
كيف له أن يؤكد لها بأنه لا يبالي بالأطفال مادامت موجودة في حياته ... كيف له أن يؤكد لها هذا إن كان قلبه هو الآخر ينزف قهرا على الحقيقة المرة ..
أنه أبدا لن يكون أبا لطفل يشبه فهد ابن شقيقته عبير ... طفل يحبه .. ويفخر به .. طفل يحمل اسمه ..
إلا أن مصيبة كهذه .... لا تعادلها أبدا مصيبة خسارته لقمر ..
قال بصوت مكتوم :- أنا لا أبالي يا قمر ... سبق وأخبرتك بأنني لا أبالي ..
دفعته عنها فجأة ... وابتعدت تنهض فوق ساقيها المرتعشتين وهي تقول بصوت متهدج :- أنا أبالي ... أنا لن أسمح لك بأن تحرم نفسك من حقك في الأبوة بسببي .. أتسمعني يا خالد .. أنا لا أنفعك ... لا أنفعك ..
وقف ببطء وهو يقول بهدوء تمكن من الاحتفاظ به بمعجزة :- قمر ... أنا لن أستمع إليك وأنت تتحدثين بهذه الحالة .. سنتحدث في الموضوع فور أن تهدأي قليلا ..
اقترب منها ... لتعود فتنكمش مبتعدة .. دموعها تعود فتسيل بغزارة من عينيها ... لقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يراها فيها خالد على هذه الحالة .. طوال السنوات الست التي قضياها كزوجين ... كانت قمر كالنسمة الرقيقة في حياته .. دائما سعيدة ... دائما راضية .. دائما متفانية في إرضاءه .. دائما جزء لا يتجزأ من حياته ..
رؤيتها منهارة بهذا الشكل ... إدراكه بأنها تتعذب ... بأنها ترى نفسها غير جديرة .. بأنها ناقصة .. بأنها أقل منه بأي طريقة .. كانت تصفعه بالصميم ...
مد يده يمسك يده فجأة مجفلا إياها .... لتتسع عيناها البندقيتين وهي تراقبه دون أن تتوقف شهقاتها ... يضعها فوق خاصرته .. حيث يقبع جزء منها داخل جسده ...
قال بخشونة :- انت منحتني حياتي بأكملها يا قمر ... أنت منحتني بالفعل قطعة منك تقبع بين أحشائي .. فلماذا تفترضين بأنني أناني بما يكفي كي أطلب المزيد ....
قربها منه ببطء ... دون أن تفارق عيناه عينيها ... حتى تمكن من ضمها إليه .. ولف ذراعيه حولها ... ارتعاشتها العنيفة بدأت تزول شيئا فشيئا .. ويده التي كانت تربت على رأسها وظهرها تبث الطمأنينة والأمان داخلها ... بينما كانت كلماته الشبه هامسة تزيد من غرقها في حالة اللا إحساس التي كانت تتخبط فيها ..
:- شششش .. اهدئي ... اهدئي يا حبيبتي .. وسنتحدث لا حقا ونتفق ... أعدك ... أعدك بهذا ..
من وراء باب غرفتهما المغلق .... كانت السيدة فخر تستمع إلى حوارهما شاحبة الوجه تماما .. ترتعد بمزيج من اللوعة والاحتجاج ... بقدر ما تحب قمر ... بقدر ما يؤلمها ما سمعته لتوها عن عجز كنتها عن إنجاب الأطفال ... بقدر ما كانت تصرخ بصمت رافضة أن يدفع ابنها هي الثمن ... مدركة بأن إقناع كل منهما باحتجاجها هذا ... سيكون صعبا للغاية .. إلا أنه أبدا مع الجهد المناسب ... لن يكون مستحيلا ...







عن الحكيم إذا هوى(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن